أجمع كثير من المهتمين والمراقبين بقضايا التنمية البشرية على أن العنصر البشري هو العنصر الأساسي والمحوري الذي تقوم عليه التنمية في أي بلد كان، ولا سبيل إلى تحقيق النمو الحقيقي إلا من خلال بناء العقل وتنمية تفكيره والمساهمة في تطوير شخصيته وتعليمه المهارات، والبحث عن طرق تناسب النُظم الاجتماعية الصاعدة، وتواكب التطورات العلمية والتغيرات اليومية في أي عملية تنمية.. مع الإشارة إلى أن المجتمعات لا تُقاس بما تملكه من ثروات طبيعية فحسب؛ بل بما تملكه من عقول مفكرة وقوى بشرية متعلمة ومدربة تدريباً جيداً يستند عليها التقدم بكل أنواعه،
وتسعى لتحقيقها في واقع المجتمعات الإنسانية؛ نظراً لأهميتها وتأثيرها في مسيرة الحياة اليومية للناس، لا سيما أن حضارات الأمم ورقي الشعوب باتت تقاس بمستوى دخل الفرد، ومدى استهلاكه للمواد الغذائية والسكنية، بعيداً عن تنمية خصائصه ومزاياه وإسهاماته الإنسانية، وإعداده لأداء دوره في الحياة، هذا ناهيك عن النظرة المادية لعملية التنمية التي سيطرت على تفكير كثير من المجتمعات العربية نتيجة هيمنة وسيطرة الثقافات واستيرادها من الغرب.
وبناءً عليه، فإن هذا الأمر يدعونا إلى إعادة النظر في مفهوم التنمية، وبيان مجالاتها، واختيار الأهم ثم الأولى بالاهتمام، والتركيز على قضية لا تقل أهمية عن كل ذلك ألا وهي "التربية والتعليم" بوصفهما محورين أساسيين للنمو والنهوض بالمجتمعات، وباعتبارهما أسمى غايات التنمية البشرية، ولكل منهما دور هام وفعّال، شرط توافر ظروف ملائمة لذلك، ومعرفة استخدامهما وتوجيههما وفق التخطيط والتنظيم السليم،
لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، ومساهمة ذلك في نجاح "التربية" في الوقت ذاته؛ لأنها أي "التربية" هي المسؤول الأول عن تحقيق أهداف التنمية البشرية، وهي التي ينطوي تحتها جميع الكمالات من الخير والفضيلة والنجاح.
إن التربية وبناء العقل لا يكونان بالأمر السهل لتنوع مراحلهما والبيئة المحيطة بهما، وكذلك تعدد المسؤولين عنهما، واختلاف طبائع أصحابهما وثقافاتهما وأهدافهما، والخشية من الوصول إلى نتائج غير مضمونة السلامة عند المجتمعات بسبب غياب المراقبة؛ لهذا تبدأ هذه المهمة من مرحلة الطفولة، وتشمل جميع جوانب شخصيته الروحية، والعقلية، والبدنية، والاجتماعية، والوجدانية والجمالية، فرعاية الطفل في أسرته وتمكينه من تنمية كل ما سبق له دور كبير في بناء عقله وتطور تفكيره وتهْيئته ليكون عضواً صالحاً في مجتمعه،
مستمداً مجموع القيم الأخلاقية من القواعد الدينية والعادات الاجتماعية التي تؤثر على سلوكه وسلوك أي فرد يعيش ضمن البيئة التي يوجد فيها من العائلة والمحيط الخارجي: من دور عبادة وجمعيات ومؤسسات تربوية، ومكتبات ومحاضرات وغير ذلك، والتركيز على أهمية التعليم، كونه الأداة الفعّالة والمؤثرة في تغيير الموارد البشرية، وإعداد المهارات وصقل الخبرات، وتهيئة القوى العاملة التي تؤثر في النُمو الحقيقي، والابتعاد عن التعليم المتخلف، والحذَر من التعلّم الخاطئ، فكم سمعنا وشاهدنا أناساً درسوا واغترفوا من بحور العلوم، لكنهم غارقون في فساد الأخلاق، ومنغمسون بالشرور والخراب.
فعلى "التربية" تُبنى سعادة المجتمعات ونهضتها، وشقاؤها وتراجعها وخرابها، فمتى كانت "التربية" سليمة في الأسرة ارتفعت إلى قمم النجاح، ويعزز ذلك أيضاً الإعلام بشتى وسائله وحداثة تقنياته، الإعلام الهادف البنّاء الذي يحترم العقول ويزيدها وعياً وتنويراً، يكون بعيداً عن التضليل والتزييف، ولنا أن نبحث في سجلات التاريخ، ونقلب صفحات الأمم؛
لنجد أنّ تقدم المجتمعات وبلوغها ما بلغت من الرقي والمدنية كان بواسطة أفراد وجماعات قد تربوا تربية سليمة، وضحّوا بكل غالٍ ورخيص في سبيل شعوبهم وبلادهم، وأخذوا بأيادي الأجيال من مهاوي الجهل والفساد إلى أعالي المعرفة والصلاح؛ لذلك فإن الشعوب لا تتقدم ولا ترتقي إلا بعقول مستنيرة فاعلة في مجتمعها، منفعلة به، ومخلصة له، ومستشعرة لآماله وطموحاته.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.