ينشغل كثير من الكُتَّاب بالكتابة عن المستقبل، ولكن الأمر الذي يجتمع عليه معظمهم هو التنبؤ بأن المستقبل مخيف ومظلم ويسير نحو الأسوأ.
فحين يستقبل العالم عاماً ميلادياً جديداً بالاحتفالات والفرح والأمنيات السعيدة، وتمتلئ الشوارع بالزينات، ويحاول الجميع الاستعداد بالأمل، يبقى الأدباء في حذر.
بل إنهم قد يسيرون على درب نجيب محفوظ حين قال "إن خرجنا منها سالمين فهي الرحمة وإن خرجنا منها هالكين فهو العدل".
لماذا لا يحملون أحلاماً وردية كالآخرين؟
الكاتب المصري الشاب عمر طاهر قال لـ"عربي بوست"، إنه لا يحمل مشاعر محددة تجاه المستقبل، فهو يراه ضبابياً، ولا توجد مؤشرات واضحة تجعلنا نتكهن، لهذا يتخذ الأدباء نظرة الحذر تجاه المستقبل.
وقال الناقد المصري عمر شهريار، أن الأديب يدرك الواقع فيكون متشائماً، ولا يرى النور، لأنه في الحقيقة غير موجود.
كذلك يتمتع بروح أكثر حساسية، ودائماً ما يحاول الإجابة عن الأسئلة الوجودية الكثيرة، والمستقبل هو أحد تلك الأسئلة المبهمة المخفية بالنسبة له.
أما الشاعر وليد جلال، فيقول أن الكتاب مطلعون على مجريات الأمور في العالم، ويرون أن الحضارة الحديثة قائمة على طمس الإنسانية، واللهاث وراء المادة، فمن الممكن أن يتفاءل العالم أو الاقتصادي أو السياسي، لكن الفنان والكاتب الذي يهمه الإنسانية فلا شيء يدعوه لذلك التفاؤل".
فيما يقول الكاتب عادل محمد لـ"عربي بوست" أن المستقبل يأخذ تنبؤاته من مؤشرات الواقع والحقيقة، والواقع عبثي بدرجة كبيرة على كل المستويات، السياسية والاجتماعية وحتى الأدبية. وفِي ظل العبث يكون التفاؤل أو التشاؤم غير منطقيين، وبالتالي أنا أتصور أن الأنسب مع المستقبل هي نظرة الحذر.
نظرة الحذر والتشاؤم التي تسيطر على المثقفين لا بد لها من تفسير يقبع في أعماق كل منهم، ويؤثر على نظرته تجاه الواقع، ذلك ما أكده الدكتور أحمد عبدالله مدرس الطب النفسي بكلية الطب بجامعة الزقازيق، ويقول إن الأديب أو الشاعر أو من يمتهن الكتابة لا بد أن يكون قادراً على التواصل الوجداني، ولديه قدرة على الحدس، ويستطيع بالمعطيات الواقعية التي حوله بناء.
ويتابع عبدالله: "أنا أرى أن فكرة التمسك بأحد الجانبين -التفاؤل أو التشاؤم- ليست صحيحة بشكل كامل، بل لا بد من قراءة الواقع والاستدلال بما لدينا والعمل على تحسينه، بدلاً من التقوقع داخل الفكرة".
ولعل تفسير الشاعر العربي القديم أبي الطيب المتنبي، بأن المرء كلما ازداد اطلاعه، زاد شقاؤه حقيقي، فقال "ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلهِ.. وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ".
هؤلاء تخوفوا من المستقبل
"لا تحلموا بعالم سعيد فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد" هكذا عبر ذلك الشاعر أمل دنقل في قصيدة (كلمات سبارتكوس الأخيرة)، وهو بذلك يمثل المثقفين حين لا يكتفون بالنظر إلى ظواهر الأمور.
أما الشاعر الفلسطيني محمود درويش، أحد أبرز من أسهموا في تطوير الشعر الحديث، فكان يحمل نفس النظرة في قراءة واقعه الذي امتلأ بالآلام فقال "عام يذهب وآخر يأتي وكل شيء فيك يزداد سوءاً يا وطني".
ويشاركهم في نفس النظرة تقريباً خليل حاوي، الأديب والشاعر اللبناني الذي كان مؤمناً منذ سنوات شبابه بـ"الإحياء العربي".
وعندما غزت إسرائيل لبنان في صيف العام 1982، فقد الأمل ورأى أن الظلام آت، وفجَّر رأسه برصاصة.
ولم يتفاجأ الذين كانوا على صلة به، فقد سبق أن عاينوا كيف كان يعدُّ نفسه لذلك منذ سنوات طويلة، بعد أن أيقن أن حلمه سيبقى صعب المنال.
أما عن الروائيين، فيقول عز الدين شكري في روايته "باب الخروج" التي يحمل فيها نظرة مستقبلية عن مجتمعه، إن الأمور لا تتحسن مع الوقت، بل نحن الذين نعتاد سُوءها.
وفي روايته "يوتوبيا" يتوقع الطبيب والكاتب المعروف أحمد خالد توفيق، أن ينقسم المجتمع إلى طبقتين حكام وعبيد، ويقول "لا جديد تحت الشمس ولا يوجد شيء واحد يمكن تعلمه بعد هذا".
كثيرة هي الروايات التي تتحدث عن الظلم الذي عانت منه الشعوب، التي لا تأمل في انقشاعه، مثل "العسكري الأسود" ليوسف إدريس، "الأوباش" لخيري شلبي، و"مالك الحزين" لإبراهيم أصلان، و"الشحاذ" لنجيب محفوظ، وغيرهم.
هل الحذر من المستقبل صفة الكُتاب العرب فقط؟
إن السعادة هي وهم، ولا يمكن الوصول إليها وإدراكها، ولا يوجد شيء في العالم يمكنه تغيير الشقاء. هكذا رأى الشاعر والفيلسوف الإيطالي جياكومو ليوباردي الذي عاش في عزلة، وكانت من أهم كتبه "المحاورات"، وهو الكتاب الذي يعبر فيه عن فلسفته في اليأس.
أما دوستويفسكي، أحد أهم الكتاب الروس الذين اشتهروا عالمياً وترجمت كتبه إلى لغات عديدة، فكان متشائماً جداً، ويرى أن الإنسانية في انحدار دائم، وهذا ما يُلاحظ جلياً في روايته "رسائل من أعماق الأرض" التي يقول فيها: العذاب هو المصدر الوحيد للإدراك، رغم أنني قلت في البداية، إن الإدراك هو أسوأ ما يتميز به الإنسان".
ويلقب الكاتب والفيلسوف الألماني وكآرثر شوبنهاور بـ"فيلسوف التشاؤم"، إذ إن معظم أعماله كانت تتميز بنظرته التشاؤمية للواقع والمستقبل، وكانت الحياة بالنسبة له شراً مطلقاً، مليئة بالأسى والألم والعذاب، والوجود هو سلسلة من المصائب والنكبات.
كذلك فإن الكاتب روماني إميل سيوران، الذي ولد العام 1911م أحد أكثر الكتاب تشاؤماً وسوداوية.
درس سيوران الفلسفة في مدينة بوخارست وعاش حياته حزيناً يكتب لكي يؤجل انتحاره، وعانى من الأرق الذي أزعجه كثيراً، وفكر بسببه عدة مرات في الانتحار، لكن سرعان ما حوَّل الأرق إلى سبيل للمعرفةـ، وألف كتابه "على قمة اليأس" وكان الكتاب الذي أنقذ حياته، فأبعد فكرة الانتحار.
هل الكتاب متشائمون؟
من الملاحظ أن عدد الأدباء المتشائمين من المستقبل كثير، لكن هناك آخرين وقفوا على الحياد، أمثال جورجيو مازيني الذي يقول "المتفائل شخص متهور، يطعم دجاجته فضة حتى تبيض ذهباً، والمتشائم شخص قلق يرمي البيضة الذهبية لاعتقاده أن في داخلها قنبلة موقوتة".
وثمة آخرون فضلوا عدم التحدث عن الأمر من الأساس، فتركزت كتاباتهم على وصف الواقع ومعايشته، دون أن يحملوا أي مشاعر، ولا يلتفتوا إلى المستقبل، مثل يوسف السباعي ومصطفى صادق الرافعي وغيرهما.
ورغم الواقع المؤلم، والمؤشرات التي تقترب دائماً من أن الأسوأ لم يأت بعد، هناك من وجدوا نوراً، فضلوا الركون إليه مثل جبران خليل جبران الذي قال "في قلب كل شتاء ربيع نابض.. ووراء كل ليل فجر باسم".
ويقول الكاتب المصري عبد الوهاب مطاوع "لا شيء يتجمد في موقعه إلى الأبد، الفلك دائماً دوار يحمل الجديد والغريب، ولهذا يستيقظ الإنسان من الفراش كل يوم"، وكذلك يقول ليوناردو كوهين "هناك شرخ في كل شيء هكذا يدخل النور".