“بطولة الطفولة” قراءة لرواية مومو لميشيل إنده

راقتني للغاية عناوين الفصول، التي تجمع التناقضات والأضداد، حتى بدا ميشيل إنده كمهووسٍ بها، وكأنه مُلم بفلسفة عميقة عن التعاملات والمواقف والقرارات النفسية والسلوكية والمصيرية للبشر، في مُفارقات مثيرة للدهشة والإعجاب، قُدرته على تطويع مسار الرواية بحيث تصب في المعاني الفلسفية المُختلقة بالعناوين، أو ربما العكس، تطويع العناوين، بحيث تُعبر تماماً عن مشاهد الرواية وفصولها ومراحل تقدمها.

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/23 الساعة 03:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/23 الساعة 03:32 بتوقيت غرينتش

مومو ولصوص الزمن، لميشيل إنده.. بطولة الطفولة

* رواية طويلة رائعة، ترجمة باهر الجوهري، عن المجلس الأعلى للثقافة، لا يستطيع المرء أن ينزع نفسه من تشويقها ومُتعتها وبهجتها، إلا بصعوبة.
* ترجمة: باهر الجوهري، عن المجلس الأعلى للثقافة.

الفتاة الصغيرة التي تأتي من اللامكان واللازمان.. وتعيش قُرب البسطاء، فيكفلونها رغم ذلك، وكأنها ابنة الجميع.. تتميز بينهم بإنصاتها لهم، وبمَلكتها العجيبة في إهدائهم الاستماع والاحترام، وإيجاد الحلول لمشكلات حياتهم بأنفسهم، ثم يقتحم العالم السادة الرماديون، الذين يُوفرون الزمن للناس في بنك وَهمي، بينما هم يسرقونه ويدخرونه لأنفسهم، ويستحوذون على الدنيا، فيُغيرون اهتمامات الناس، وتحل المادية في العالم، وتختفي القيم النبيلة، وتموت الإنسانية، وتُسيطر البرودة على المشاعر والمنشآت والعالم، وتعرف الفتاة وأصدقاؤها المُقربون سر لصوص الزمن، الذين يعرفون سر تأثيرها وخطورتها عليهم، فيُطاردونها، فتُنقذها سلحفاة تقودها لمدير الزمن، وهو الذي يكشف لها أسرار الزمن ولصوصه وسرها هي نفسها.. وهو الذي يُخطط لإنقاذ العالم من لصوص الزمن، بواسطة الفتاة مومو، الطفلة الصغيرة، التي لا يهمها سوى إنقاذ أصدقائها الكبار والصغار، وفعلاً يتم ذلك على أفضل وجه، وتسود البهجة والسعادة العالم من جديد، ويعود للناس وقتهم الضائع المسروق، ويرجع أصدقاء مومو إليها بعد أن أخذتهم المادية هُم أيضاً.

* كعادتي أتورط دائماً مع الشخصيات المكتوبة بمِزاج أدبي رائق، خاصة لهذا الكاتب العبقري الذي كتب مومو، والتي تحتوي على خلاصة عبقريته، في صياغة أحداث الرواية، والخروج من عُقدها المتأزمة بسهولة، مُستخدماً كل ما يملك من أدوات وعناصر قصصية، في أجمح صورها، فخرجت عالماً خيالياً مُتكاملاً، مربوط الصلة بالواقع، وفي ذلك قمة الإبداع والعبقرية والإقناع.

* خيال خِصب كغابةٍ كثيفة، قادرة على إبقائك بداخلها رغماً عنك.
لعل نهجه لهذا النمط المُلائم للأطفال، هو ما نَجحَ إطلاقاً، بتوريط الصغار والكبار، في حكايتها وقصصها الجامحة المُتلاعبة بالحقائق.. فهو يمسك بحَدث مَلموس؛ ليُفسر أسبابه بطريقةٍ مُختلفة خيالية، إنما غاية في المنطقية المُذهلة، وذلك بحكايات جيجي التاريخية، التي لها نسق أسطوري، أو في مسار الرواية الأساسي، عندما أمسك بموضوع الزمن بأبعاده المختلفة، وتناوله بالتفسير الخيالي في إطار منطقي.

* استطاع تلخيص زمن العالم، بين الأصالة والحداثة، البساطة والتقدم.. وتناول الزمن بالتأويل والتفسير لأبعاده العجائبية، وإحلال نظرياته في قالب تخيلي لعالم هزلي، له قوانينه الخاصة التي تحكمه، وتمحو الفكرة التي قد تترسخ في الذهن من أنه عالم عبثي، لكنه نجح بجدارة في جعل المتلقي يأخذ عالم الأطفال بشكل جدي، جدية الأنظمة العالمية، ومصير العالم.

* يُمكن اعتبار الرواية فلسفية، رغم صلاحيتها أدباً للأطفال، وتلك هي المُعادلة العبقرية للكاتب في الرواية؛ إذ استطاع تبسيط فكرته ومحتواها الفلسفي؛ لتكون مُناسبة لفَهم الأطفال، بشكل مدهش، مثير للإعجاب، من حيث اللغة، واستخدام المفردات البسيطة الأقرب للطفل واستيعابه.

* كرس ميشيل إنده لقيمةِ الإنسانية المُفتقدة، وقيم الرحمة، والحب، والصداقة، والود، والأُلفة، والسعادة والبهجة، وقيمة الزمن الحقيقية، إنها في بُطئه، وليس في سرعته.

* راقتني للغاية عناوين الفصول، التي تجمع التناقضات والأضداد، حتى بدا ميشيل إنده كمهووسٍ بها، وكأنه مُلم بفلسفة عميقة عن التعاملات والمواقف والقرارات النفسية والسلوكية والمصيرية للبشر، في مُفارقات مثيرة للدهشة والإعجاب، قُدرته على تطويع مسار الرواية بحيث تصب في المعاني الفلسفية المُختلقة بالعناوين، أو ربما العكس، تطويع العناوين، بحيث تُعبر تماماً عن مشاهد الرواية وفصولها ومراحل تقدمها.

إنما فكرة العنوان للتنويه عن الأضداد الوقائعية، والمُقارنات الحدثية، فكرة عبقرية مُشوقة للغاية، وتحمل في فحواها فلسفة عميقة، إنما بسيطة ومفهومة، فقد اعتمد على مبدأ تعريف الأشياء عبر أضدادها، مثل: "عجوز صموت، وشاب طليق اللسان"، "الحسبة خاطئة، لكن ناتجها صحيح"، "كم من الأحلام، وقليل من التبصر"، "عثور وفقدان"، لدرجة أن الفصل الأخير حمل هذا العنوان المُدهش: "النهاية التي يبدأ بها شيء جديد".

* رغم جزالة الأسلوب وسهولته، فإن كثيراً من الجُمل بدت ركيكة أو تستخدم حروفاً مساعدة كثيرة، أغلب الظن أنها من الترجمة أو ضعف الأسلوب العربي عند المُترجم.

* شعرت أن النهاية سريعة الإيقاع قليلاً، ولحدٍ ما ساذجة بالنسبة للصوص الزمن الأذكياء الذين أقاموا الدنيا وأقعدوها.

* بطلة الرواية طفلة، لا نعرف من أين أتت، ولا كم عمرها.. إنما ظهر كيف أنها أميرة تُدير الحكايات، وتُطلقها من نفوسهم.. وتهب الناس، صغاراً وكباراً، قدرتهم على مواجهة حياتهم، وحل كل إشكالاتهم، وإزاحة متاعبهم، وإنعاش إحساسهم بالسعادة.

طفلة، وكأن ميشيل إنده يقول إن الطفولة، براءتها، خيالها، نقاءها، عاطفتها، بهجتها، وإنصاتها، هي الفيصل بين حياة صاخبة بائسة، وبين حياة هادئة سعيدة.. هي الحل لمجتمع مُتآلف، يتمتع بالإنسانية، والوصال، والإخاء، والنقاء.

استطاعت هي وحدها أن تُنقذ البشرية من ورطتها بحياة مادية بحتة، تأكل أعمارهم بلا سعادة، ولا تمنحهم الرضا عن أنفسهم، ولا عما في أيديهم، ولا على غيرهم.

الطفولة هي التي أعادت للنفوس اطمئنانها، وإحساسها، ورضاها، وأُلفتها.

مومو الطفلة، هي التي صالحت الناس على بعضهم، وعلى الحياة.. وأصبح الكبار يتعاملون بطفولتهم، دون أن يكبتوها، فلا يتهكم عليهم مَن يتهمهم بالطفولة دون الرجولة.. الطفولة مهضومة ومظلومة بعدم الجدية؛ لأن الأطفال في إمكانهم أن يكونوا أرجل من الرجال، إذا صحت فطرتهم، عندما يتعامل الكبار بطفولتهم سينتشر الحب، وتسود الألفة، وتشيع السعادة في القلوب، ويصبح الود حقيقياً، رغبةً في السؤال ومعرفة الأحوال، لا مجرد تحية فحسب.

كأن الكاتب كشف في روايته "سر السعادة"، وهي نتيجة عبقرية، وأقرب للحقيقة، الطفولة عندما تستمتع بكل لحظة من حياتها، تكون السعادة حَليفها، ولن تضيع لحظة واحدة خالية من الرضا المعنوي، راحة البال، وبهجة النفس، والاندماج مع الكون، بأجمل عناصره، ورؤيته جميلاً محبوباً، وهي قيم لا تُقدر بمالٍ ولا أغراض، فمُعظم الناس، ربما، لهذا السبب يحن لطفولته، حتى يُدرك ما يفقده من السعادة والاطمئنان والود الحقيقي وخلو البال.. حتى يتعامل بنقاءِ سريرة، ويُحب الجميع، ويتصالح مع نفسه، ومع غيره، فتُصبح الحياة قابلة للعيش، تلك سعادة الإنسان الأقرب للحقيقة، الطفولة بنقائها الإنساني المحض.

* لماذا جعل ميشيل إنده مومو طفلة شريدة؟
سؤال مهم وجوهري؛ لأن هذه الطفلة المُتمتعة بالنقاء الإنساني المُتمثل في طفولتها، المحتوية على كل طاقات الإنسانية الإيجابية في أعلى صورها، مما يجعلها خارقة، يجعلها صالحة لتكون ابنة الجميع، ابنة المجتمع، ابنة الإنسانية، التي تهديهم إلى فطرتهم الحَسنة، وتذكرهم بواجباتهم تِجاهها؛ لأنها منهم، وهُم منها.

هي كالجوهرة الإنسانية، التي تُعبر عن قيمتها بالنسبة إليهم، وتقيس إنسانيتهم بالاتصال بها، والتواصل معها؛ لذلك كانت شريدة، يستوجب على الناس كفالتها، وبالمقابل، هي تمنحهم إنسانيتهم المُهذبة، وسعادتهم المفتوحة.

فهي عملية مَنفعة مُتبادلة، لكنها مَنفعة إنسانية، مُفعمة بالقيم الرفيعة بين الطرفين.

* الرواية للتحميل، حصري:

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد