من غير الممكن فهم المحاولة الفكرية لأساليب الهيمنة التي تنتهجها النخب الثقافية المرتبطة بالنخبة السياسية الحالية من دون مراجعة لتاريخ العراق الحديث، فقد تم توحيد العراق من دون أن تتشكل وحدة ثقافية متجانسة، أو من دون أن تحقق فكرة توحيد مكوناته قومياً، لقد قام العراق الحديث من دون هوية.
لقد كشفت تنظيرات النخبة الثقافية الطاقة السلبية الكبيرة الكامنة في المجتمع العراقي، وقد قادت طروحاتهم واستنتاجاتهم المؤلمة لفهم المجتمع العراقي المنقسم.
نعم لقد ظل موضوع الهيمنة الثقافية الشغل الشاغل للنخبة السياسية التي توالت على حكم العراق، لكن التناقض الذي ظهر في شعارات النخب الثقافية المرتبطة بها كرّس حالة التناقضات، وعكس هذا التناقض توتراً على المشهد السياسي الشعبوي طوال القرن الماضي.
واحدة من أعقد المشكلات التي سببها هذا التناقض هي السعي التائه بين الولاء للخطاب الوطني والتزاماته من جهة، والولاء للخطاب الإثني من جهة أخرى.
سعي انتهك النسيج المجتمعي، وأنتج نزقاً وفوضى، لم تستطع النخبة الثقافية التحكم فيه، كما لم تفلح عقلانية البعض في معالجة آثاره، كالتوتر والتشنج طوال الوقت.
النسيج المجتمعي العراقي نسيج مهترئ، أينما تضع يدك على أي جزء يتمزق هذا النسيج ويتهتك على الفور، وعندها ستظهر لك حقيقة وضع هذا البلد، وستنظر على كل عيوبه، وستدرك الخطر الذي يحيط بكل مكوناته.
فيما دعمت السلطة فصيلاً لا خليطاً من دعاة الهيمنة الثقافية لغايات سلطوية، أنتج فساداً أخلاقياً، وتحولت الثقافة لمادة يتنافس متداولوها لإرضاء السلطة، وليست إطاراً لضبط السلوك العام.
ومع كل أزمة سياسية مجتمعية، وبدل أن تسهم تلك النخبة في دفع الحوار المجتمعي، مارست الهيمنة الثقافية اللاعقلانيَّة، وبررت العنف السلطوي، وقللت من قدرة العقلنة في التحكم بالأزمة.
يحدثني أحد الصحفيين، يقول في عملنا الصحفي أهم شيء هي شبكة العلاقات مع المسؤولين والشخصيات العامة الدينية أو الاجتماعية، نأخذ منهم التصريحات الرسمية من مصدرها، وتأكيد الأخبار أو نفي الإشاعات.
يقول: إذا فقد الصحفي شبكة علاقاته، فقد أهم شيء يدعم شغلته، ولهذا يكون قد انحصرت شغلة الصحافة والإعلام بالمؤسسات الإعلامية الرسمية، بالصحفيين من الطائفة الشيعية الكريمة، بحكم نفوذهم الواسع وشبكة العلاقات المطلوبة اللي استعضنا عنها بالإعلام.
المهم يقول لي: مرة دخلنا بمؤتمر صحفي للمالكي، ولما كمل العينتين حديثه، وكما هو معلوم، يأتي دور الأسئلة، فسألته سؤالاً، فانزعج المالكي ورد علية وقال لي: هذا سؤال طائفي، "لأن الوكالة اللي أشتغل بيها، كانت ما عجبته".
بعدين تطور الأمر، وقام المالكي وعبر هيئة الإعلام والاتصالات، اللي يسيطر عليها، وبنفوذه على هذه الهيئة وهيمنته عليها، بسحب تراخيص كل القنوات الإعلامية اللي كانت تسبب الإزعاج لحضرته.
عطفاً على ما سبق، فالمثقف أو الباحث في الشأن العام أو حتى المحلل السياسي، مادته هي ما ينقله الصحفي أو ما تنشره وسائل الإعلام، ولما تغيب الحيادية أو تفقد المصداقية في نقل الإخبار، تغيب الحقيقة وتفقد الموضوعية، وتتحول وظيفة الصحافة من كونها وسائل إعلام إلى وسائل إعلان.
وبعدها تستطيع السلطة أن تهيمن أو تفرض الثقافة اللي تناسبها، وبعدها يأتي الأخطر بالموضوع، وهو تحديد السلطة لاتجاهات "التفكير والوعي" بإعادة صياغة الخبر وتوجيهه، عبر منابرها الإعلامية، سواء كانت تلك المنابر مؤسسات أو أفراداً.
عند ذلك يبقى للمحلل السياسي المستقل أو الباحث عن الحقيقة، يبقى له أن يعتمد على التناقضات الصادرة أو الواردة، من هذا الإعلام؛ لكي يميز بين ما هو حقيقي وبين ما هو زائف أو نفاق للمسؤولين في عدم نقل الحقيقة، لكن الشيء اللافت في الإعلام العراقي اليوم هو كثرة تلك التناقضات وغياب المنطق وانعدام الموضوعية، ولولا ذلك لتمت الهيمنة الثقافية فعلاً.
فتأمل رعاك الله.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.