القراءة نشاط ذهني يستهدف المزيد من فهم الذات، وهي تلك العملية المعرفية الإدراكية التي يتم فيها استخدام العقل، إنها استيعاب لكل ما يكتب وتراه عين الإنسان، والقراءة ليست هواية، فالقراءة حاجة داخلية أولاً وقبل أي شيء آخر، ذلك أننا نقرأ كي نفهم، أو من أجل ان نصل إلى الفهم، فالقراءة ضرورة أساسية في حياة البشرية، وليست ممارسة تتوخى الترفيه؛ ذلك أننا لا نقرأ لكي نتسلى.. فعالم القراءة عالم ثري لا متناهٍ لديه دائماً ما يقدمه لنا.
سئل فولتير عن أولئك الذين سيقودون الجنس البشري، فأجاب: الذين يعرفون [كيف] يقرأون! الأهم من القراءة ومقدارها، أن نَعي كيف نقرأ؟ وماذا نقرأ؟ ولماذا نقرأ؟
لماذا نقرأ؟ سؤال تمثل الإجابة عنه، معرفة متكاملة بنوازعنا وشخصيتنا، وتتعدد الإجابات، ولكل قارئ إجابته الخاصة به، لأجلها يقرأ ولأجلها يُفضّل كتاب على كتاب؛ البعض يقرأ ليبحث عن ذاته، والبعض يقرأ ليستمتع، والبعض يقرأ ليهرب من الواقع، والبعض يقرأ لأنه يخشى الجهل.
الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل يبدو مسحوراً بفعل القراءة، ويضمِن ذلك الافتتان في كتابٍ هو مزيج من البحث العلمي والمقالات، حيث يقول في كتابه "تاريخ القراءة" حول بهجة القراءة وأهمية القراءة ومُتعة القراءة: "نقرأ لنجد النهاية، من أجل خاطر الحكاية، نقرأ لكي لا نصلها، من أجل خاطر القراءة. نقرأ باحثين كمتتبعي الأثر، غائبين عن محيطنا، نقرأ بذهن مشتت، نقرأ صفحات دفعة واحدة… نقرأ في زخَّات من المتعة المفاجئة، دون أن نعرف ما الذي جلب تلك المتعة، ما بحق السماء هي هذه المشاعر؟".
تساءلت ريبيكا ويست بعد قراءتها لمسرحية الملك لير، "ما تأثير الملاحم الفنية العظيمة على حياتي والتي تحرِض فيَّ كل هذه السعادة؟" الحقيقة أننا لا نعرف، لأننا نقرأ بجهل، نقرأ مقيدين بكبريائنا، ممسوخين، نقرأ بكرمٍ، مصطنعين الأعذار للنص، ونملأ الثغرات، ونرتق الأخطاء، وأحيانا، عندما نكون محظوظين، نقرأ بأنفاس محبوسة، برعدة، كما لو أن ذاكرة قد تم إنقاذها للتو وفجأة من الضياع من مكان سحيق من نفوسنا. هذا الإدراك المباغت لشيء لم نعلم من قبل أنه هناك، أو لشيء كنا نشعر به وبشكل غامض مثل اختلاجة نور أو ظِل، والذي ينبعث خياله الشبحي ويخطو عائدا داخلنا قبل أن نستطيع رؤية ما هو، نحن نقرأ كالكشافة الذين يقتفون الخطى ناسين كل ما حولهم، نقرأ شاردي الذهن باحتقار، بإعجاب، بانزعاج بحماسة، بحسد! ذلك أننا نقرأ كي نستفيد ونفهم العالم من حولنا، كما أننا نقرأ، كما كتب، كي نفهم الذين لا يرغبون في الفهم.
وما الذي يجنيه المرء من القراءة؟ سؤال تبدو الإجابة عنه شديدة البداهة بالنسبة لمن تعود القراءة، القراءة تبني الوعي، وتزيد معرفة الفرد بالعالم من حوله، أداة لبناء العقل، وسيلة للنهوض والتقدم، أجوبة كثيرة ستجدها تقفز من الذاكرة، إذا حاولت تجميع ما طالعته هنا أو هناك عن هذا الموضوع الذي نطرحه بصورة عابرة في هذا المقال.
القراءة، عالم آخر تماما يقول هارولد بلوم في كتابه "كيف نقرأ ولماذا؟"، يضعنا أمام ذواتنا التي تورطت فيها يوما حتى أصبحت أسيرة لها، وهنا يستعير بلوم مقولة "كافكا" عن الكتاب الجيد الذي يجب أن يكون فأسا جليدية لكي تكسر هذا البحر الذي تجمد داخلنا، ففي كل كتاب عبقري نتعرف إلى أفكارنا "نحن" المرفوضة، تلك الأفكار التي تتشكل ببطء لتؤسس لذلك الجليد.
القراءة متعة وتوسيع لرقعة الحياة، فالشخص الذي يقرأ يجب أن يكون "مبتكرا"، فليس كل من طالع كتابا يسمى قارئاً، فهذا الأخير لا يمكن أن يتكون إلا عبر سنين طويلة من المتابعة والتراكم الدؤوب، الأمر الذي يتطلب البحث والتنقيب والكتاب الذي يقود إلى آخر، والكتاب الذي يثير فكرة، والكتاب الذي يفجر قضية، والكتاب الذي نقرؤه أكثر من مرة، والكتاب الذي يؤثر فينا بقوة، وربما يغير الكثير من قناعاتنا، والكتاب الذي نعود إليه مرات، لأننا نحتاج إلى معلومة أو اقتباس، والكتاب الذي نحتاج لكي نفهمه إلى كتب عدة ممهدة ومؤدية إليه، والكتاب الذي يعلق في ذاكرتنا، والكتاب الذي لا يثير فينا شيئاً للوهلة الأولى ثم نكتشف أهميته لاحقا، والكتاب الذي نتعب في الحصول عليه، والكتاب الذي يهدى إلينا ونضعه جانبا، والكتب التي نتخلص منها بين فترة وأخرى، فينتج من جراء هذا القدرة على انتقاء الكتب، والتثاقف الذهني مع الأفكار التي تتضمنها أو الانفعال العاطفي مع الأحاسيس التي تثيرها، القراءة وفق هذه العملية الطويلة والمعقدة تؤكد معنى أن القارئ الحقيقي لابد من أن يكون مبتكرا، فالقراءة فعل تمرد مستمر للخروج على العادي والنمطي والمكرر الذي يحيط بنا، كشف لما نحاول أن نخفيه، أو ربما لا ندرك أنه يقبع في جبل ضخم يغمر الماء معظمه ولا يظهر منه إلا القمة، وهو ما أطلق عليه فرويد "اللاوعي". القراءة تمنحنا طمأنينة أننا لسنا وحدنا في هذا العالم، فهناك من يشعر بما نحس به، مهما اعتقدنا أنه يتسم بالغرابة، القراءة تتحول إلى صمام أمان لنا وللآخرين كما تعطينا سلاما داخليا وثقة أكبر بالنفس.
المفكر الإيراني عبدالكريم سروش يقول ان هناك من يتعامل مع عقله على أنه "خزان معلومات" وهناك من يتعامل مع عقله على أنه "آلة"! وحين يكون العقل مخزنا للمعلومات والمدخلات، حينها لا يهمه من أين يحصل العقل على هذه المعلومات أو كيف دخلت إلى ذهنه، عندما يكون العقل "عملية" قائمة، مثل غربال ينقي المدخلات، حينها لا يكون من المهم المعلومة ذاتها بقدر كيفية الحصول عليها.
الفيلسوف الإنجليزى فرنسيس بيكون يقول: "اقرأ من أجل المعارضة والنقض وليس من أجل الإيمان والتسليم"، ذلك أننا فى الحقيقة نقرأ بحثا عن القوة لا بمعناها المادى، ولكن بمعناها الروحي والعقلي والإنساني.
لا تقرأ لتنهي كتابا… ولكن اقرأ لتستنير ويزداد وعيك وتوسع مجال تفكيرك وتتعلم كيف تفكر.. القراءة وسيلة لتوسيع المدارك والقدرات، القراءة وسيلة للإفادة من تجارب الآخرين.
اقرأ لتتعلم كيف تناقش أفكارك وتراجعها وتشكك فيها ثم تعود وتصل إلى نتيجة.
وأخيراً.. لا تقرأ ليُقال عنك قارئ أو مثقف.
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.