عارض يصيب الإنسان بشكل مفاجئ ويدفعه للتبسم ببلاهة، والصمت عن كل مَن وما حوله، وربما يدفع اليد لإخفاء هذه الابتسامة التي تعكس وعياً بحب بدأ يتشكل وكأنه يد تلتف على قلبه، وتجد منفذاً من خلال أضلع أرهقتها حراستها لقلب حاول الهرب منها اصطداماً مرات ومرات.
إلا أنه اليوم لا يعرف ما لو كان هذا عارضاً مؤقتاً أم أنه حياته التي يعرف أنها حياته، ووجد قدرته وإرادته ولغة كان فيها ما يشبه "افتح لي الأبواب ولا تغلقها، سأعود ويدي تصافح قلباً يريد أبوابي مفتوحة وأنا أيضاً!".
حياة القلب هذه قد تنتهي في لحظات أو تحتاج لسنوات من مواجهة الذات والآخرين وكل يوم، بما تعنيه "كل يوم" من تفاصيل وضجيج وصمت وآراء. حياة القلب، لا أظنني أنسب هذه الصورة لنفسي.
الحب حياة للقلب قد لا تعني المعنى الحرفي للحياة التي نفهمها على أنها قلب ينبض وعقل يفهم وجسد يتحرك وأعصاب تستجيب لعالم فيه الجمال والقبح والوقوف بينهما هو الوقوف بين مرآة ونافذة ولكل رؤيته وشعوره الذي يدفعه للحديث، الصمت أو الصراخ وربما الضحك.. وفي أجمل السيناريوهات: الابتسامة التي تبدأ من القلب وتحفظها الشفاه لتهمس مرة أخرى لمن تحب بأنها على فرح وعلى أمل وعلى قدرة على الشعور بتفاصيل يومها والالتفات لها؛ لأنها تهمها وتهم من تحب.
يتحول كل ما يرى إلى تراكمات في الذاكرة تتسبب من جديد، مع كل لقاء يبعث الأمل، بإصابة تقضي على بعض مناعة القلب لكنها تحييه من جديد فيصاب العقل بحيرة في التعامل مع قلب أصم أو أنه مستمع جيد وصاحبه لا يدرك هذه الحقيقة.. ربما أعمى أحياناً وهنا أقرأ بشار بن برد: "يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة.. والأذن تعشق قبل العين أحياناً"، وجد بشار بن برد لنفسه منطق اختلاف التجارب الإنسانية حين كتب أو أنشد كما أتخيله وأنا أقرأ هذه القصيدة "أحياناً"..
لأن العين تعشق قبل الأذن أحياناً، وتعشق معها أحياناً، والقلب يعميه العشق أحياناً! أو أنه رؤية تسكن عين المحب وكان لها من الألم ما منع عنها الرؤية وكأن كل من رأته قبل هذا المحبوب، المعشوق ورفيق القلب، ما كان إلا غشاوة على عينها نفضها هذا المحب بيد، أو ابتسامة وربما عين تقول بكل وضوح: أنا هنا!
هو عارض يعرفه القلب جيداً، والرئة أيضاً، فهي لا تقوى على التنفس إلا بين لقاء وآخر.. يستجيب التنفس إلى النظرة الأولى وإلى الحاجة للتأمل في جمال من أمامك، الذي لا يعرف إلا عين الحب التي هي لكل ما فيه محبة.. تختنق وربما تبحث عن منفذ للهواء يكون في ابتسامة تأتي بكل تعريف للسعادة وربما الاكتفاء ولو كان لحظياً..
في حال الغياب تختنق وفي حال الحضور تتنفس وفي حال الصمت والحنين تختنق إلى أن يلفك الصمت بما يعود بك إلى حيث بدأت، إلى حيث يرويك من تحب بكلمات يقولها أو رفقة تأخذك من ضجيج عالمك.. وربما أمان الحب في المعرفة، في إدراك المساحة التي تقف عليها مع مَن تحب، هو الأمان الذي تعرف فيه نفسك في البقعة التي تجد فيها كل ما يمثل لك نفسك! لكنه اليوم يكتسب أمان المعرفة، أمان أن يحبك مَن يعرفك، الحب معرفة.
كنت قد كتبت أن الحب لغة وأجدني اليوم أضيف عليه أن الحب معرفة.. هو لغة تفترض رؤية لقانون نيوتن للجاذبية وتسميه قانون العلاقات الإنسانية الذي ينتظر من الصدفة أن تتحول إلى روح إجابة أي سؤال ولو كان "كيف حالك اليوم؟"، قد تسكن هذه الصدفة الإجابة، وقد تبدأها وقد تنهيها ولو لم تكن جزءاً من كلماتها.
يكاد العقل أن يصرخ: إياك والتلفت! ابتعد عن تلك الابتسامة وتلك العين التي تنظر لصاحبك، لكن القلب يلتفت للعقل ويضع كفه أمامه وكأنه يقول له: اصمت! ومن ثم بكل سخرية يبتسم ويقول: هو عشق لا إرادي.. الخوف منه فكرة وتتمرد على كونها فكرة، حتى تمسك باليد واللسان وتعمي العين وتمنع القلب من نبض يتسارع لرؤية من تحب.. حتى ترى فيه من يخيفك ويمنعك خوفك من النطق بما يحررك من عاطفة متى ما أطلقها لسانك كانت لك ومعك أو كانت لك بأن أخذت بيدك إلى حيث من تحب.
لا تكذبي: سمعت وأنا أكتب هذه المدونة الموسيقار محمد عبدالوهاب يغني: "ماذا أقول لأضلع مزقتها خوفاً عليك؟" أعدت المقطع وقرأت القصيدة ووجدت نفسي بين كلمات "لا تكذبي" وصوت عبدالوهاب الذي يصيبني بالخرس أحياناً بغرض الإنصات وبالكتابة أحياناً؛ لأنه لا يسمح لك إلا بالصمت الذي لا بد أن يوجد زاوية للحديث مع النفس. يغني "ماذا أقول لأضلع مزقتها خوفاً عليك" هل سمح لقلبه بالخروج من أضلعه -وكأنه عاد بي إلى حيث بدأت الكتابة- التي مزقها خوفاً عليها من حبه، من غيرته من قلبه الذي أحرقته ظنونه، ومن ثم مدت يدها وأمسكت بأذنه: "تطل من رأسي الظنون، تلومني وتشد أذني"، وكأنه يتحول للصرخة التي جسدها إدفارد منك في لوحته الشهيرة بعنوان الصرخة، مخيفة هذه اللوحة لكنها صادقة جداً ولهذا ربما استقرت مع ما يسمى باللوحات المليونية التي حققت أعلى المبيعات..
قرأت لأينشتاين "المنطق هو ما يأخذك من النقطة أ إلى النقطة ب، والخيال يأخذك إلى كل مكان" وربما كانت الحياة هي ما يحدث لك كل يوم.. وفرط العشق اللاإرادي هو الحب الذي يتمرد على حياتك التي تعرف ليجعلها حياتك التي تعرفك.
الحب لغة، بالتأكيد، لها أبجديتها التي لا تتقيد بعدد من الأحرف أو الحركات.. لغة لا قانون لها إلا قانون الجاذبية الإنسانية ولا خارطة تحدد من يتكلم بها إلا كل بقعة فيها من الجاذبية ما فيها من "الإنسانية":
(تفكيك هذه الكلمة ممتع: الإنسان/الآنية بمعنى الوقت الحالي، الحياة التي تحدث كل يوم/النية التي قد تترجم إلى إرادة في البوح به).
قال الحلاج: "البوح بالحب آية الصادقين"، والحب معرفة: حياة تعرفك وحياة تعرفها، ونقلاً عن محمود درويش: الحب يولد كائناً حياً.. أمسى فكرة! القصيدة كاملة بعنوان هي في المساء قرأتها لسنوات وتمسكت بأن الحب يولد كائناً حياً، يكتب درويش: "هي لا تقول: الحب يولد كائناً حيّاً، وأنا كذلك لا أقول: الحب أمسى فكرة"، بل إنه كما قال الحلاج، لا بد من البوح به، إعلانه وإخبار مَن تحب: الحب ما دام مكتوماً على خطرٍ وغاية الأمن أن تدنو من الحذر! الحب على خطر ما لم تخبر به من تحب، كما قال الحلاج.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.