تركيا وإيران وأفغانستان.. كيف تتصارع ثلاثة بلدان على تراث درويشٍ صوفي؟

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/09 الساعة 03:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/09 الساعة 03:52 بتوقيت غرينتش

فكل من قطع عن أصله *** دائماً يحن إلى زمان وصله

قصيدة "أنين الناي" أهم روائع مولانا جلال الدين التي تلقفتها الإنسانية وولع بها الأدباء والنقاد والمتصوفة في الشرق والغرب، وهي تحكي عن الناي المقطوع عن شجرته تشبيهاً له بالإنسان المقطوع عن أصله السماوي أو الروحي والذي يظل يطلق الأنين والحنين فتستجيب له آذان المحزونين والسعداء حتى يعود لأصله أو زمان وصله، لكن ما هو أصل مولانا جلال الدين نفسه، هل هو رومي أم تركي أم فارسي أم أفغاني أم عربي أم أمريكي؟!

اسـتمع للناي غنى وحكى ** شـفّه الوجـد وهـدراً فشـكا
مذ نأى الغاب وكان الوطنا ** ملأ النـاس أنينـي شـجنـا
أين صدرٌ من فراق مُزّقـا ** كي أبث الوجـد فيـه حرقـا
من تشرده النوى من أصله ** يبتغـي الرجعى لمغنى وصله
كل ناد قـد رآنـي ناديـا ** كل قـوم تخذونـي صاحبـا
ظـن كل أنني خير سمير ** ليس يدري أي سر في الضمير
إن سري في أنين قد ظهر ** غيـر أن الأذن كلت والبصر

قصيدة أنين الناي من ترجمة عبد الوهاب عزام، وهناك ترجمات أخرى مختلفة من الفارسية لنفس القصيدة

أفغاني أم فارسي أم تركي أم أميركي أم عربي؟!

والملفت للنظر أن كل شعب من الشعوب المتنافسة حول أصل الرومي رسمه بملامحه التقليدية فهو أفغاني في أفغانستان وفارسي في إيران ورومي في تركيا، وهو بملامح بشرة بيضاء يمثله ليوناردو دي كابريو في هوليود الأميركية كما ذكر فرانزوني مؤلف فيلم The Gladiator الذي قارنه بشكسبير ويريد أن يقدمه كشخصية مسلمة غير نمطية في السينما الغربية وانتقده كثير من النشطاء الذين دشنوا هاشتاج rumiWasntWhite# اعتراضاً على ترشيح دي كابريو لتمثيل مولانا في أميركا حيث رآه كثيرون مثالاً للتسامح وتعدد الثقافات ووصل بين الثقافة الإسلامية التراثية والثقافة الأميركية الحديثة التي استفادت منه في الرواية والمسرح وحتى المناسبات وكلمات الحب وأخيراً السينما!

مولانا جلال الدين البلخي الأفغاني:

ولد جلال الدين في مدينة بلخ بخراسان شمال أفغانستان الحالية وكان والده يلقب بسلطان العارفين وعند قدوم المغول هاجرت عائلته إلى نيسابور ببلاد فارس ثم إلى بلاد الشام ثم الأناضول، ويحفظ الأفغان أبيات الرومي منذ الصغر، وهم يطلقون عليه اسم "مولانا جلال الدين البلخي"، أو "مولانا" فقط، أو "البلخي" فقط، نسبة إلى مدينة بلخ حيث ولد عام 1207، وحيث ما زالت أثار البيت الذي ولد فيه موجودة. وكانت مدينة بلخ -التي يُنسب إليها أيضاً الغزالي وابن سينا ولا تشكل اليوم أكثر من تجمع سكاني صغير قرب مدينة مزار شريف-، حاضرة دينية وثقافية للبوذية وللثقافة الفارسية، إلى أن وقعت تحت سيطرة جنكيزخان عام 1221

واحتج ممثل أفغانستان في الأمم المتحدة لدى المسؤوليين الأتراك والإيرانيين على اعتبارهم مولانا جلال الدين إرثاً مشتركاً بينهما بينما هو تراث فكري وإنساني عالمي ولا ينبغي نسيان أصوله الأفغانية أيضاً محذراً من محاولة السطو على هذا التراث.
وكانت طهران وأنقرة، قد تقدمتا بطلب إلى منظمة اليونسكو، بغية إدراج أعمال العالم الصوفي في برنامج "سجل ذاكرة العالم" الذي أُنشئ لحماية الوثائقيات العالمية؛ لكن أفغانستان استفاقت مؤخراً، حيث طالبت من جانبها بحصة من إرث العالم، كونه ولد فيها، في القرن الثالث عشر.
وتريد تركيا وإيران، بشكل خاص، كتاب المثنوي (مثنوي معنوي) المؤلف من 25 ألفاً و600 بيت من الشعر الصوفي، ويشكل أحد أكثر الأعمال تأثيراً في الأدب الفارسي.
ولم يكن هناك سبب يمنع تقدم أفغانستان بطلب مماثل، لكنها تأخرت في ذلك بكل بساطة، بحسب ما يقول "هارون حكيمي" المتحدث باسم وزارة الثقافة في كابول، آملاً أن يتمكن الأفغان من إسماع صوتهم في هذه القضية.

وكانت وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)، التابعة لرئاسة الوزراء التركية التي تستضيف ضريح الرومي بدأت بإنشاء قرية "مولانا جلال الدين الرومي" في مسقط رأسه بولاية بلخ شمال أفغانستان

مولانا جلال الدين الفارسي

كتب مولانا جلال الدين أشعاره وكتاباته النثرية بلغته الأم الفارسية ثم ترجمت بعد وفاته للغات عديدة، لكن نصوصه الفارسية ظلت هي الأصل التي يرجع إليها المترجمون حتى عصرنا هذا محاولين استكشاف النص بلغته وثقافته الفارسية ذاتها، ومن أهم أعماله الشعرية بالفارسية، مثنويه المعاني (والمثنوي) وهي قصائد فارسية تعتبر من أهم الكتابات الصوفية الشعرية على الإطلاق ووصفت ال بي بي سي الرومي كأكثر الشعراء شعبية في الولايات المتحدة الأميركية! ، وديوان الغزل والرباعيات ، والديوان الكبير الذي كتبه في ذكرى وفاة ملهمه الصوفي الكبير شمس الدين التبريزي الذي يجاور ضريحه ضريح مولانا في قونيا التركية، ومن نثره بالفارسية كتاب "فيه ما فيه" وفيه أكثر من سبعين محاضرة ألقاها الرومي على أصحابه وتلامذته ودونوها عنه، والرسائل التي كتبها لمريديه ومعارفه ورجال الدولة .
وقد عاش مولانا فترة في نيسابور شمال شرق إيران الحالية بعد أن هرب من غزو التتار لأفغانستان، وفي نيسابور التقى مولانا الشاعر الفارسي فريد الدين العطار الذي أهداه ديوانه أسرار نامه وبدأ مع قصائده التأمل في عوالم الروح والتصوف والشعر قبل أن يرحل منها إلى سوريا وحلب ثم مكة المكرمة للحج ثم عاد للأناضول.

مولانا جلال الدين الرومي التركي الأناضولي

وبعد عودته من مكة استقرت عائلة الرومي في أرزنجان بشمال شرق تركيا ثم دعاه والده إلى قونيا عاصمة الدولة السلجوقية (الواقعة في وسط الأناضول جنوب أنقرة) ومنها غادر إلى حلب ودمشق للدراسة على يد الشيوخ هناك ثم عاد إلى قونيا واستقر بها وبنى مدرسته التي ألقى فيها دروس الفقه والعقيدة وداره وصومعته الصوفية التي كان يعتكف فيها.

متحف وضريح جلال الدين الرومي في قونيا

والتقى جلال الدين الرومي في قونيا بشمس الدين التبريزي الدرويش العلامة الكبير الذي وصل قونيا وانقطع فيها للتأمل والتصوف وجرى بينهما حديث عبر عنه مولانا بالقول "كنت نيئاً، ثم أُنضجتُ، والآن أنا محترق" وتغيرت حياته كلياً فانقطع عن الناس متفرغاً للعبادة وكتابة الشعر ومنه ديوان شمس التبريزي الذي كتب فيه قصائد تمثل الحب الإلهي والأسى وفاءً لصديقه وأستاذه الدرويش الغريب صاحب الملابس المتواضعة.

الحب هو ذاك اللهب الذي عندما يتأجج يحرق كلَّ شيء، ولا يبقى ثمة إلا الله.

أسَّس جلال الدين الرومي في تركيا الطريقة المولوية، ونظَّمها بعد وفاته ابنه الأكبر سلطان وَلَد. ومن سماتها وخصائصها التي عُرفَتْ بها الرقص المعروف أو السماع الذي انتشر في الشرق والغرب وبدأ من قونيا التركية ثم انتقلت التكايا الصوفية منها لكل مكان لتواسي القلوب الحزينة.

عندما تأتي لقبري
سيظهر لك قبري المسقوف راقصاً
لا تأت من دون دف إلى قبري
لأن من استبد به الحزن لا يليق بمائدة الحق

ويشير الكاتب الراحل عباس العقاد لتعدد نسب مولانا جلال الدين وتنافس الأفغان والفرس والترك والعرب على سيرة ونسب مولانا جلال الدين بالقول ويرى العقاد أن الرومي يستحق هذا التنافس، لأنه جمع خلاصة الصفات التي يندر أن يجمعها غيره: "وعلى هذا التنافس بين الأمم الإسلامية، على نسبة الشاعر الإمام، لا نرى أن المتنافسين بلغوا به منزلةً تعلو على منزلته، التي هو حقيقٌ بها في ميزان الأدب، أو في ميزان الحكمة، أو في ميزان الخلائق الإنسانية، أو ما نسميه اليوم (الصفات الشخصية) لأنه كان بين المتصوفة مثلاً قليل النظير، يتحلَّى بأجمل ما يُؤْثَر عنهم من فضيلة وفطنة، ويسلم من تلك المآخذ، التي تُعاب على أناسٍ غير قليلين من أبناء الطريق

ويمتدح العقاد في كتابه عن مولانا جلال الدين زهده بالقول أنه |زهد من يملك الدنيا ولا تملكه فهو رجل يكاد المتتبِّع لشعره أن يلمح فيه أثر المعرفة التي اكتسبها الناسك الحكيم بالرياضة والخبرة، ولم يتورَّط فيها بخفة الرأي، والتهجم على المجهول" ، فالرومي شاعر تخطت عبقريته اللغات والثقافات والبلدان حتى صارت تراثاً إنسانياً عالمياً لا يمكن حصره ببلدان عاش فيها فترات زمنية معينة

من أقوال جلال الدين الرومي وأشعاره المشهورة:

"لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟"

"إن تكن تبحث عن مسكن الروح فأنت روح
وإن تكن تفتش عن قطعة خبز فأنت الخبز
وإن تستطع إدراك هذه الفكرة الدقيقة فسوف تفهم
إنّ كل ما تبحث عنه هو أنت"

"لعل الأشياء البسيطة.. هي أكثر الأشياء تميزاً
ولكن.. ليست كل عين ترى"

"أيها القلب! لماذا أنت أسير لهذا الهيكل الترابي الزائل؟
ألا فلتنطلق خارج تلك الحظيرة، فإنك طائر من عالم الروح.
إنك رفيق خلوة الدلال، والمقيم وراء ستر الأسرار
فكيف تجعل مقامك في هذا القرار الفاني؟
انظر إلى حالك واخرج منها وارتحل
من حبس عالم الصورة إلى مروج عالم المعاني
إنك طائر العالم القدسي، نديم المجلس الأنسي
فمن الحيف أن تظل باقياً في هذا المقام ~"

"أنا المشهور المغمور.
لا أنا بالثمل..
ولا أنا بالمفيق.
.ولا أنا بالنائم ولا باليقظ..
ولا أنا مع الحبيب ولا أنا بدونه..
ولا أنا بالمحزون ..
ولا أنا بالمسرور.
ولو أني أستريح للحظة..
فإن نفسي لا تستريح بل إني أستريح..
.إن لم أذق طعم الراحة ولو للحظة"

"

تعالَ .. تعالَ
لا يهم من أنتَ، و لا إلى أي طريقِ تنتهي
تعالَ.. لا يهم من تكون
عابر سبيل.. ناسكاً.. أو عاشقاً للحياة
تعالَ.. فلا مكان لليأس هنا
تعالَ.. حتى لو أخللتَ بعهدك ألف مرة
فقط تعالَ لنتكلم عن الله"

تحميل المزيد