"الجليل".. طالما أَسرتني هذه الكلمة أينما سمعتها وكلما قرأتها! فلها وقع خاص في قلبي.. وبسبب كلمة "الجليل"، قرأت رواية "قناديل ملك الجليل" لأكثر من ثلاث مرات حباً بالجليل؟! فقد استطاع نصر الله وبكل سلاسة أن يتجول بنا ليس في الجليل فقط، وإنما في جغرافيا فلسطين بكاملها، إلى مدن عشقناها دون أن نراها، فمن عكا ونابلس إلى الناصرة وصفد وطبريا وامتدادها صيدا وصور ودمشق، وإلى الجنوب الفلسطيني غزة ومصر.. إن إحساساً من الحب سيغمرك أثناء قراءتك لهذه الرواية، وهذا ما حدث فعلاً.. كان الحب يسيطر على كل الأجواء، حالة من السكينة والهدوء تناسب بحيرة طبريا التي بدأت الحكاية على ضفافها.
في رحلة ممنعة اتكأ نصر الله على التاريخ فيها، فأعاد سرد أحداثه، وبث الحياة في تفاصيله، وفقاً لخياله الخصب، استفزته قصة مغمورة لملك مجهول يحلم بالحرية والتغيير فتضحك له الدنيا وتدين له بالولاء، ثم لم تلبث أن انقلبت عليه، فيخونه أقرب الناس إليه، الابن والصديق! حتى تأتي نهايته، ومنذ أن قرأت له روايته "زمن الخيول البيضاء" وأنا حريص على قراءة ما يكتبه هذا المبدع.
ما يميز كتابات إبراهيم نصر الله التاريخية تلك اللقطات الإنسانية الفارقة داخل الحكاية التاريخية الجافة، ما يجعل للنص وأبطاله كياناً من لحم ودم.. ببساطة السرد، وبلغة سلسة استطاع رسم صورة لحياة هذه الشخصيات، وبجمل بسيطة ولمسات إنسانية، استطاع أن يُسهّل الطريق لرسالته المراد توصيلها.. لغة مُتزنة، ومواقف إنسانية مؤثرة تجعلك مشدوهاً بفاعليها، تتعمق في الأماكن حتى تشتاق لزيارتها، والعيش فيها.
تقول الأسطورة إن مَن تنطفئ شعلة قنديله أولاً لن يعيش طويلاً، وقنديل بطل الرواية ظاهر العمر الزيداني الذي ثار على الظلم والولاة والإتاوات وإرهاق ظهور الناس بدفع الميري "الضرائب" ورشاوى للمحصلين للتخلص من أذاهم، المحصلون الذين يأتون لسرقة ما هو حق لهم وغير حقهم ويأخذون كل ما يعجب أعينهم حتى وإن كان ذلك ابنة مزارع أو زوجة أحدهم.
فما صلة ذلك بالعنوان؟ وأي قناديل ينطوي عليها عنوان الرواية؟ فإذا كان العنوان يربط القناديل بملك الجليل، فإن القناديل لا بد أن تكون قناديله، فهناك قناديل لا تنطفئ، إنها منظومة القيم المتمثلة في الحرية والحق والخير والعدل والإخاء والمساواة.
هو واحد من مشاريع التحرر، محاولة تحررية لم يكتب لها النجاح، ولم يكتب عنها الكثير، ومن بين بطون الكتب والمجلدات يخرج علينا إبراهيم نصر الله؛ ليخبرنا عن قصة تلك الدولة، وعن ذلك القائد الذي أتى في زمن سابق لزمانه أو ربما متأخر عن زمانه، فقاد ثورة وأسس دولة وكان قائداً يندر تكراره.
ظاهر العمر الزيداني تلك الشخصية الفذة، من الوجوه غير المعروفة وشبه المجهولة تاريخياً، كما أنها ليست حاضرة، في الذاكرة الشعبية الفلسطينية، ولا حتى الثقافية، وبهذه الرواية أراد نصر الله إيصاله كوجه تاريخي يستحق التعرف عليه، ظاهر العمر الزيداني المحب للحرية بحسن بصيرته وتكتيكه السياسي والاقتصادي جاء سابقاً لأوانه، إنه مشروع تحرري متكامل وضع أسسه رجل منح ذاته لقضيته، أصاب حيناً وأخطأ حيناً وهذا ديدن البشر، إنها رؤية واقعية موثقة.. أضاف لها نصر الله فقط لمسة إنسانية واجتماعية منحت الشخصية تألقاً فوق تألقها… فهو شخص استطاع أن يؤسس دولة جمعت العرب بين جنباتها غير عابئة باختلافاتهم المذهبية، امتدت من فلسطين إلى الأردن.. وبعض أجزاء لبنان. ونجح في حصار دمشق ومن ثم دخلها، كما دخل في حلف مع المصريين، كانت السفن في البحر المتوسط على الساحل الفلسطيني لا تتحرك إلا بإمرته، وكان أول من يصدّر القطن إلى المصانع الفرنسية والإنجليزية، ذلك قبل القطن المصري. ولم يتأخر عن مقارعة الإمبراطورية العثمانية، على مدى 86 سنة من أجل الظفر بكرامة الناس واحترامهم واستقلاليتهم.
أمّا كيف سقطت الدولة الحلم؟ فالجواب ذاته يتكرر منذ ما قبل دولة ظاهر العمر وحتى ما بعد أيامنا التي نعيش..الخيانة، ثم الخيانة، ذلك الداء العصيّ على الشفاء، والمتجذر في نفوس ضعاف النفوس، تجرع الخيانة مكرهاً… فقد انسل أبناؤه واحداً تلو الآخر من بين يديه وخانه أقرب الناس إليه، قائد الجيش الذي كان يمين ظاهر وصوته ومستشاره، فقد انتهت حياة ظاهر على يدي هذا الخائن الذي لم يكن يستحق أن يحظى بمكانة كتلك المكانة التي حظي بها في قلب ظاهر العمر.. إنه أصعب مقطع أنت مضطر لأن تتمه، حين ينهي أحد الجنود المقربين لظاهر بأن يثق بالدنكزلي بهذا القدر، حيث إن قلبه غير مطمئن لكل الصلاحيات التي يهبها ظاهر له، لكن ظاهر رفض هذا الرأي وأنهاه بقوله بأنه يثق بهذا الدنكزلي أكثر من ثقته في أبنائه؛ ليذكره الجندي بأن أبناءه قد خانوه من قبل، فلم يضف ظاهر الكثير غير أنه قال: لكن الدنكزلي لا يفعل ذلك؟!! انتهت الرواية بخيانة وغدر، نهاية مؤلمة لكنها متوقعة من المكائد السياسية إلى المؤمرات التي تحاك ضده ليس فقط من أبنائه، بل امتد الحقد والطمع إلى الجميع، فكل طرف يسعى لبسط نفوذه.
الرواية تعبر عن فترة تاريخية واسعة من تاريخ فلسطين تمتد من عام 1689 حتى عام 1775 وتضيئه على نحو باهر بشخصيات حقيقية وأخرى متخيّلة، متنقلة بين فلسطين وسوريا والأردن ومصر ولبنان وإسطنبول، عاجنة التاريخ بالقيم الكبرى وأسئلة الحب والموت والقدر والعلاقة مع الطبيعة فى أعمق تجلياتها، ومتأملة التاريخ الروحى والميثولوجي لفلسطين، ومعيدة فى آن الاعتبار لتاريخ نضالي وطني فلسطيني متألق، لقائد تاريخي فريد، فى فهمه لقيم الكرامة والعدالة والتحرر والحق في الحياة، والتسامح الديني الذي يصل إلى درجة من الاتساع والنبالة حدّاً غير مألوف.
سعدت بقراءة الرواية وسعدت أكثر بتعرفي على شخصية ظاهر العمر، رغم تمجيد المؤلف المبالغ فيه لظاهر العمر والمثالية الزائدة في وصف شخصيته، فهو يعلي من قيمة بطله ويبرز له صورة إيجابية تكاد تبلغ حد الأسطورة، على أن ذلك لا يمنع إعجابي وانبهاري بهذه الشخصية، ظاهر العمر الرجل الذي أقام دولة العدل وبسط فيها الأمن، رجل أوجد دولة يعيش فيها الجميع بسلام، فهكذا شخصيات همشت في التاريخ ولم نقرأ عنها، مات ظاهر، وقُطع رأسه، لكنه أنشأ لفلسطين كياناً سياسياً، وأحيا في قلوبنا معاني لو تأملناها لكنا خيرة خلق الله.. مات ظاهر، وأحياني.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.