عقل الإنسان عضلةٌ كَغيرهِ من العَضلاتِ في الجِسم، إن لم تَقم بِتمرينِه كَما يَجبُ فإنه لا محالة سَيُصَابُ بِالضّمورِ وَسَتَكونَ عُرضةً للزّهايمر المُبَكرِ وَأمراضٍ دِماغِيةٍ أخرى، ينقَسمُ إلى شِقّين أيمن وأيسر، لِذلك لا بدّ مِن تَحفيزِهِ وإعمَالِه على الدّوامِ بِما يَنْفَعُكَ، ولِضمانِ قوةِ هذِهِ العَضَلَةِ لاستمرارِها أَطوِلَ فَترَةٍ مُمْكِنَة وَمِن خِيرِ الوَسائِل التي يُمكِنها فِعل ذلكَ هِي القِراءة..
تُعْتَبَرُ القِراءةُ مِن أَهمّ اللّبِنَاتِ التي تَبنِي الحَضَاراتِ وهَمزِةَ الوَصْلِ لِفهمِ الثّقافَاتَ الأُخرَى، بل وربطها بَعضِها ببَعض، مَن هُنا فَإنّكَ تَجدُ القَارِئ يَنْعَم بِعوالِمَ مُتَنَوّعَةٍ وَمُختَلِفَة وثَقافَاتٍ قَد تَسْتَغرِبُ وُجُودَها بَينَ دَفّاتِ كُتُبِهِ وأفكَارِها والعوالمَ التي تَفتحها، كَما أنّها تَعمَلُ على تَحفيزِ الذّهنِ والحَدّ مِن التَّوتُّرِ وزِيادَة المَعرِفَةِ
والتَّوسّع اللّغَوي وتَحسينِ الذّاكرةِ وتَطويرِ مَهاراتِ التّفكيرِ وَمُحَفِّزٌ لِتنامي الإبداعِ وتَحسينِ مَهَاراتِ الكِتابَة وَالمُتعة.
قَد يَعتَقِدُ البَعض أنّ قِراءَة الرّوايَةِ مَضيَعَةٌ لِلوَقتِ ويَكادُ يَجزِمُ خُلُوّها مِن أي فَائِدَةِ او فِكْرَةِ قَد تُنشِئ العَديدَ مِن التَّساؤُلاتِ لِتُسَدِدَ طَرِيقَكَ نَحو المَعرِفَة وأنّها وُجِدَت للتّسلِية فقط، كَشيءِ تَشْعرُ بِه نَفسَكَ وَتَسُدّ به وَقتكَ مِن حِينٍ لآِخرَ، كَما أنّها خَالِيةٌ مِن المَعلومَاتِ، وَقَد تَكونُ عائِقاً فِي طَريقِ المَعرفَة والثّقافةِ للفردِ والخيرُ له أن يَقرأَ كِتاباً عِلمِياً مُتَخَصصاً حَولَ المَوضوعِ الذي يُريد، فَيَسد حاجَتَه أو يَروي ظَمَأه!
وَمِن هُنا سَنَبدأُ بِالحَديث..
لَو أردْتِ أن تَقرأ عَن فَترةٍ تاريخيةٍ مُعَينّة، فِإن غَالبَ كُتبِ الاخْتِصاصِ تَروي لَك المَواقِف السّياسية وَأبرَز الأحداثِ والتّقلباتِ الاقتصاديةِ وتُتَرجِمُ لأبرَزِ مُلوكِها والشّخصِياتِ التي تَواجَدت بِتِلكَ الفَترَة، ولكن ما هِي نِسبَةُ الكُتُبِ التي تَسيرُ بِك فِي حَاراتِ تِلكَ الفَتْرةِ وأزِقّتها، تَمرّ بِك بَينَ طَبَقاتِ المُجتَمعِ وَاحدةً تِلو الأخْرى وتَجعَلُك كَعُملَة نَقدِيّة تَطوفُ بِالمَدينَةِ بَين يَدي الفَقيرِ والغَنيّ وتُدرِكُ خَبايا يَومِيّاتِهم!
من هنا تَبرُز قِيمةُ الرّوايَةِ التي تُجَسّد لَك تَاريخَ مَن سَبقَ مِن الأقوامِ بل وتُخالط مَشَاعِرك مَشاعرَهم كَأنك تجلس بَينَ سَوطِ المَلكِ الظّالِم وظَهرِ المَظلومِ وقتَها، أو سَتبكي لِجوعِ العَجوزِ الهَرمِ الذي لا يَملِك قُوتَ يَومِه أيضاً، وقَد تُشاهِدُ أبنِيَتَها بِعيونِ بنّائِيها، سَتَعيش بينَ دَفتي الرّوايةِ كَأنّك قَد توَاجدْت فِعلياً بِتلكَ الفَتْرة التي تُؤرخُّها الرّوايَة، هي سَفرةٌ مَجّانية عَبرَ الزّمن يَحقُ لك الاستِمتاع بِها، وفي هذا الجُزءِ أنا لا أقولُ إنّ قِراءةَ الّروايةِ هِي بَديلٌ عَن قِراءَةِ التّاريخ، فَهذا لا يَقولُ بِه عاقلٌ، والقَولُ أنّ الرّواية التي أجادَ الكاتِبُ حِياكَة عُقدَتِها وصِياغَة حَبكَتِها وأتقنَ تَجسيدَ شَخصِيّتها بِما يَتَناسَب مَع تِلكَ المَرحَلة، فِإنّها تُشَكلُ القَلبَ وتُخاطِبُه
وتُسهلُ عَلى العَقل إدراكَ نَمط الحياةِ التي كَانت، كَما أن الكِتَاب العِلمي يُخاطِب العَقلَ بِشكلٍ أكثَر حَصَافَة وجُمود ويَختَصّ بِذكر مَسائِل دقيقَة، وربما تَدفعك الرّوايةُ للرّجوعِ لكُتبٍ مُختَصةٍ ومَراجع فِي ذلِك..
كما لا تَقتَصِر قِراءَةُ الرّواياتِ على كَونِها تَذكِرة للسّفرِ وقُدرَتِها الفَذة على إرسالِك حَيثُ تَشاء وجَعلِك رَبِيب تلك البِيئة التي يَسرُد قِصّتها الكَاتب.. فِإنها تُقَدم دَروساً في فَنّ التّعبيرِ والسّردِ وتُعطيك أَلقاً خَاصاً فِي كَيفِية إيصالِ فِكرتك لِشَرائحَ مُختَلفةٍ مِن النّاسِ، وتُنَمي مَلَكةَ التّعبِير للقارِئ وتَجعل لَدِيه كَنزاً مِن الُمفرداتِ والتّعابِير والصّورِ الفَنيةِ التي قَد يَصِيغ بها قِصتَه وفَكرته، مِما يُعطي قُوةً في الطّرحِ
وجَاذِبيةً مُلفتةً أمامَ الغَير، كما أنها تُساعِد عَلى فَهم الآخرينَ وتَحلِيل قِصَصِهم وأخبَارِهم وتعكِسُ رَويةً قبل الحُكمِ ومَعرِفة مَكائِد الحَياةِ من شَخصٍ لآِخرَ ومِن قَوم لآخر.
هي حَلّ سَخيّ لِترفِ التّلقي الذي نُعانِيه اليَومَ وكَونِه قَاتلاً بَارِعاً لِلخيالِ والإبْداعِ بِشكلٍ سَلسٍ جِداً، وقَد لا يُلتَفَتُ إليه إلا قليلاً يسيراً، فإن الرّواية تُنَمي الخَيالَ وتَنمو بِإبداعِ القَارِئ فِي كُلِ صَفحةٍ مِن صَفَحاتِها، فَحينَ يَسيرُ بِك الكَاتِبُ بَينَ أزِقةِ مَدينَة مُعيّنةٍ واصِفاً لَها بِتَفاصِيلِها، فِإنكَ سَتَتخيّلُ هَذه المَدينة وتُحاولُ أن تَصِلَ بِخيالِك لِجَعلِها أمامَك كمَشهدٍ حيّ وتَسمَع أصواتَ أبناءئها وتُجَسد أبرَزَ شُخوصها بِهَيئاتِهم وأصواتِهم ومَلامِحهم وكَأنّك فَردٌ فِي هَذه الرّوايةِ وبَطَلاً مِن أبطَالِها أو تُشاهِد أحداثَها بِعينك وتَلمسَ قَضاياها وقَد تُجامِع إحدى نِسائها في خَيالِك أيضاً..
هذا ما لَن يُعالِجه كِتابٌ عِلمي وقَلّما تَجِد كِتابَاً يَعمَلُ عَلى إنماءِ خَيالِك بهذا الشّكلِ ورُبّما لا تَكادُ تَجدُ علِاجاً للعَالَم الرّقمِي الذي يَجتَاحُنا والتّرف الذي أصابَ خَيال الفَردِ بالضّمورِ لاستِطاعَته على مشاهدة كل شيء بِشَكل مُجرّد وَحِينها لَن تُكَلفَ نَفسك عَناء صِناعَة الشّخصِيّة التي تُريد في ذِهنك وِفْقاً لِما سَطّرَه الكَاتب، خِلافاً لِلفيلم الذي تَضبطُ صورَته رُؤيَة المُخرجِ ويَنحصرُ شَكل شَخصياته بالمُمثلين وإمْكانِياتِ المُصورِ وحِرَفية المنتج!
كما أن الروايَة هي التي تَكْسِر حَواجِز مُختَلِفةً بَينَ مُجتَمَعاتٍ عِدة، فَضَلاً عَن أنّها تَكسِرُ الحَاجِزَ بَين الشّخصِ والكِتاب ورَهبةَ إتْمَامِ المُؤَلّفِ الذي بَينَ يَديه، الذي رُبما حِين اقتَناهُ كَان مُتَردِداً يَسأل نَفْسَه هَل حَقاً سَأتِمّه! وحِين أنهى قَال ضَاحِكاً يُخاطِبُ نَفسَهُ وغَيره: لَقد أنهيتُ هَذه الرّواية! كَما أنّها قَد تُصبِح فَاتحَ شَهِيةٍ لِوَجبَة عالِيةِ الدّسَم مِن الكُتُب المُتَخَصّصَة والمَراجع المُطَولَة، وهِي وَسيلةُ تَواصُل لَطيفَة بَين أفرادِ المُجَتمَع وتَحديداً الشّباب مِنهم.
مِن الجَديرِ بالذّكر أيْضَاً تَوَجّه الشّباب المُلفتِ إلى الرّواياتِ الأدَبيّة دُوناً عَن الكُتبِ والمَراجِع والمُتونِ العِلمِيّة وحَواشِيها، ومَدى اهتِمَامهِم بِذلكَ وتَزايُدِ الفَعَالِياتِ حَولَ هَذا الأمرِ، مِما يُدَلّلُ عَلى قُدرَةِ الرّواية فِي الوُصُولِ إلى عَدَد كَبيرٍ مِن فِئاتِ المُجتَمعِ وخَاصّة الشباب الذين هُم عِمادُ الأمة، بِالتالي فَإنها تُشكل بَعضَاً من جَوانِب الوَعيِ لَديهِم وتُنَمي الثّقافَة الفَردِية التي سَتَتحولُ يَومَاً بَعد يَوم إلى ثَقافَة مُجتَمعِية سَتسودُ في وَقتِها، من هنا عَلينا أن نُدرِكَ أنّها مِن أحَدِ العَوامِل القَادِرَةِ عَلى تَغيِيرِ الوَعيَ المُجتَمَعِي وطَريقَة التّفكِير، بل وبَعض من العَاداتِ والتّقاليدِ أيضاً، فَمن الجَهل الشّديد إهمالُها والتّغاضي عَنها والحَديثُ عنها على نَحوٍ مِن السّخرِيَة والتّسلِية، والسؤال بعد ذلك: لماذا أصبَح المُجتمع هكذا؟!
بالنهاية يُمكنني القَولَ إن قَارئاً لم يَستَطع أن يَفهَم الرّسائِل التي تَكتَنِزها السّطورُ بِشكلٍ غَير مُباشرِ، وإن كَانت لَيست تِلك التي أرادَها الكاتِب في روايَتِه، لَن يَفهمَ شيئاً مشابِهاً في كِتابٍ عِلمي، هو شَخص لَن يَستَفيدَ مِن قِراءَة الكُتب أو الرّوايات.. لأنّ الأصل في القِراءَة هو تَجميعُ الأفكَارِ والمَعلومَات مَعاً وفَتحِ أبوابٍ من التّساؤلاتِ لِتسلُكَ بِنا طَرائِقَ المَعرِفَة وَسْط هذهِ الدّروبِ الشّائِكَةِ، ومن الأسَفِ أن تَتحولَ القِراءة مِن آلية لإنشاءِ الأفكارِ وتطويرِها وتَجميعِها وحِفظِ المَعلوماتِ إلى وَسَيلَةِ لِتَحصِيلِ مَعلومَاتٍ بَنكِية جَامِدة دون فَهم أو درايَةٍ معرفيةٍ نفقِدُها بَعدَ مُدَة، تَماماً كَما يَحدُث مَع الطّالبِ حِين يَدرُس لِمادّة الامتحانِ فَيحفَظُ المُقرّرَ اليَوم
وَيَنساهُ غداً!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.