تمر الأيام سريعاً وتنقضي، لكن الذكريات والمواقف والمبادئ التي حُفرت بالذاكرة منذ الصغر لا تُمحى ولا تُنسى، خاصة إذا كانت مميزة، ومع كل منها قصة، فما زالت ذكريات الطفولة البعيدة عالقة في ذهني لا تفارقني؛ حينما كان يتفاخر الأصدقاء، كل بما لديهم فرحون، كنت أجد نفسي أسعدهم، بل وأكثرهم حظاً من وجهة نظري؛ لأنه كان في بيتنا كُتَّاب، (وهو ذلك المكان الذي يحفظ فيه الصبيان القرآن الكريم، ويتعلمون مبادئ القراءة والكتابة، بل والقيم النبيلة والأخلاق الطاهرة).
أتذكر ذلك الآن في شهر الصوم.. شهر القرآن؛ لما أشاهده في وسائل المواصلات، وفي الأماكن العامة، من حمل الناس المصاحف، والهواتف الذكية، كل يقرأ (وِرده) من القرآن.. في تسابق وتنافس يحسد الجميع عليه -اللهم تقبل من الجميع- وفي ذلك فليتنافسِ المتنافسون.
أعود لذلك الكُتَّاب الذي كان في بيتنا، فمنذ نعومة أظافري، ومنذ أن وعيت على هذه الدنيا في بيتنا بقريتي البسيطة (أم دينار بمحافظة الجيزة المصرية)، التي اشتهرت بحفظ القرآن وتعليمه، لا أنسى ذلك المشهد: أطفال كثر يتحلَّقون حول والدي -أطال الله بقاءه ومتعه بالصحة والعافية- ما زلت أذكر أسماءهم، منهم مَن يراجع ومنهم مَن يردد وراء والدي، كنت في الخامسة من عمري، وها أنا سأبدأ مشوار حفظي ورحلتي مع القرآن وتعلم الكتابة، أُمسك بـ"لوحي" الخشبي، وقلمي "الغاب" الذي انتقاه لي أخي، وقد كتب عليه (أَ) (ألف فتحة أَ)… يااااه، وأتذكر حينما وصلت إلى سورة "الذاريات" وتقدمت لمسابقة تابعة للأزهر الشريف، ونجحت وأخذت تلك الجائزة التي كانت عبارة عن مبلغ نقدي (12 جنيهاً)، طِرتُ ساعتها من الفرح، كما يقولون، ليس لحصولي على ذلك المبلغ، ولكن لأن للنجاح طعماً لا يدركه إلا من تذَّوقه وأحسه.
أعود لـ"سيدنا"، كما كان ينادي عليه الأطفال في الكتاب، أو هو والدي، وكيف كان يتفانى من أجل تحفيظ هؤلاء الأطفال.. ومع ما كنت أشاهده في الإعلام من مسلسلات في ذلك الوقت -وما زالت- تشوَّه صورة محفظ القرآن؛ حيث كانوا يزعمون أنه ذلك الرجل الفظ الغليظ، صاحب الكرش، الذي لا تمتلئ معدته أبداً، يسعى وراء (الفتَّة واللحمة)، وكأن ذلك كل همّه.. يضرب الأطفال على أهون سبب.. كنت أقارن بين تلك الصورة التي أزعجتني كثيراً وما زالت.. وبين الواقع في قريتي؛ حيث كانت تنتشر هذه الكتاتيب بشكل لافت، وربما الآن يوجد بعضها، ولكن لم أجد صورة ذلك الشخص الذي حفروه في أذهان الجميع، حتى ظللت فترة أشك فيمن يمارسون تلك المهنة؛ لكنني كنت أتساءل: أليس والدي واحداً منهم؟ فكيف أتوا بهذه الصورة القبيحة؟! قبح الله من أشار عليهم بذلك.
إذا كان من فخر، فإنني أفخر بذلك الكُتَّاب الذي قابلت معظم مَن كانوا فيه أطفالاً، وصاروا الآن من قارئي القرآن ومهندسين وأطباء وصحفيين.. ولا أنسى ما حييت ذلك المشهد الذي رأيته بعيني لذلك الرجل الذي يصغر والدي ربما بعشر سنوات فقط، مع ما قد وسَّع الله عليه من مال ومكانة اجتماعية.. وقد هوى إلى قدمي والدي، مقدماً له حذاءه ليلبسه إياه، وبينما هممت لأفعل ذلك بدلاً منه، زجرني بلطف وقال لي: "يا ابني مَن علمني حرفاً صِرت له عبداً"، ووالدك علمني في الكُتّاب آيات القرآن الكريم التي أعيش ببركتها"؛ لذلك فإنني دائماً ما أقول "في بيتنا كُتاب".
كل عام أنتم بخير، وتقبل الله صيامكم وقراءة القرآن منكم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.