مصطلح "القراءات المعاصرة للقرآن" يطلق على طائفة من الدراسات العلمية للقرآن الكريم تتوسل منهجية تتعارض مع طريقة القدماء في فهم القرآن، تبني هذه المنهجية مرتكزاتها على افتراض مفاده أن القرآن حين خاطب المعاصرين لنزوله في مرحلة التأسيس "كان في حاجة دائمة للصياغة الفكرية الإنسانية".
فما يخاطب جيلاً في سياق ثقافي بعينه يعجز عن مخاطبة جيل آخر في سياق مختلف، ولذا يجب تحديد حدود التداخل بين الإلهي والإنساني في الإسلام التاريخي الذي يتم التواصل معه عبر بنية التراث.
الإطار النظري لهذه الدراسات يشدد على أن القرآن في تشكيله لوعي المخاطبين "يعتمد على تصورات الناس ويخاطبهم على قدر عقولهم"، يبدأ القرآن من تصورات الناس للكون والوجود ثم يبدأ بتطويرها -بالتدرج- إلى مرحلة أعلى لينتقل بالوعي إلى طور أكثر نضجاً.
لذا يجب عدم الوقوف بالدلالة المستفادة من النص القرآني عند حدود العصر الذي نزل فيه الوحي؛ لأن مفردات البنية الذهنية التي كانت تتحكم في وعي الناس في ذلك العصر قد تجاوزها الزمن -وفقاً لجدلية السيرورة والصيرورة- بفعل تطور الوعي الإنساني.
وتعتبر الدراسات المعاصرة التي صدرت لتحليل "القصص القرآني" مجرد مثال على تطور القراءة العلمية للقرآن الكريم، وأستعرض هنا -باختصار شديد- نموذجين لهذه الدراسات:
في عام 1947 أصدر الباحث محمد أحمد خلف الله (1904 – 1989) أطروحة علمية لنيل درجة الدكتوراه من جامعة الأزهر عنوانها (الفن القصصي في القرآن)، عمد الباحث في تلك الأطروحة إلى بيان طريقة القرآن في توزيع العناصر القصصية "وكيف كان هذا التوزيع للعناصر يتبع الظروف والمناسبات، وكيف كان العنصر الواحد من الأحداث والأشخاص محوراً تدور حوله أكثر من قصة"، وأن الغرض من إيراد القصة ليس هيكلها وجسمها وإنما جوهرها وهي "التوجيهات الدينية والخلقية إلى الأسس النفسية والنواميس الاجتماعية".
السبب في إعراض المشركين عن القرآن هو نظرهم إلى القصص القرآني على أنه تاريخ، ولذا اتهموا الرسول بأنه يورد أساطير الأولين وعارضوه بقصص ملوك فارس ورستم وإسفنديار، ولو فهم المشركون أن الغاية من إيراد القصة -كما يقول الباحث- هي غاية أدبية بلاغية للتأثير في النفوس وأخذ العظة والعبرة، وليست غاية معرفية لبيان حقائق التاريخ "لعلموا حتماً أنه وحي وأنه تنزيل من حكيم حميد".
واستشهد الباحث على صحة ما ذهب إليه بما فعله بعض المفسرين القدماء كالرازي والنيسابوري في تأويلهم لقصة داوود والملكين في سورة "ص" وقول اليهود إنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله في سورة "النساء"، بالإضافة إلى ما فعله بعض المتأخرين كالشيخ العلامة محمد عبده في تفسيره لقصة آدم عليه السلام وهاروت وماروت في سورة "البقرة"، واحتج بكلام علماء البلاغة حين اكتفوا باللزوم "العرفي" واعتقاد المخاطب في مسائل البيان، ولم يشترطوا اللزوم "العقلي" الذي يقتضي مطابقة الواقع.
في دراسة موسومة بعنوان (القصص القرآني.. قراءة معاصرة) يشير الدكتور محمد شحرور إلى أن النظر إلى القصص القرآني من الزاوية التاريخية هو ما أجبر المفسرين على الاستعانة بالإسرائيليات وإيراد التأويلات التي لا يقبلها العقل ولا تستسيغها النفس، يقول ما نصه:
"إن مدخلنا لفهم القصص القرآني هو جدل الإنسان مع ذاته ومع الطبيعة والمجتمع، فعندما يتم تغييب هذا الجدل يتحول القصص إلى حوادث تاريخية مبهمة وغامضة، وتنشأ أساليب التفسير الخرافية لفك تلبّسات هذا الغموض، وتتحول روايات أهل الكتاب مستنداً مهيمناً على التنزيل الحكيم ومشوهاً له كما شوه الكتب المقدسة".
ويقول في موضع آخر متحدثاً عن مساوئ القراءة التقليدية لقصص القرآن: "الإنسان ككائن حر وذي إرادة واعية يغيب تلقائياً عن الحدث التاريخي، ويستعاض عنه بالإنسان المقهور والمسحوق بين سندان الطبيعة ومطرقة اللاهوت الجبري، وتصبح عند ذلك آيات الله معجزات تصعق الناظر فيها وتكبل إرادته وتمنعه من الوعي بحركية التاريخ وصيرورته".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.