يمسك بجوانب الكتاب ويزحزحه عن الكتب المجاورة والضاغطة على جنباته، ثم يسحبه كمن يسحب لبنة من حائط المعرفة المرصوف أمامه، فتميل الكتب في الفراغ الجديد، كالمتكئ على جدار ليرتاح بعد مشوار طويل، ينتظر أن تستقر بميلانها ويتركها تنعم بهذه المساحة المكتسبة.
يقلبه باشتياق لكل تفاصيله حتى للجزء المقطوع من زاوية الغلاف، ثم يفرد جناحي طائره النائم ويتذكر تلك الشرارة التي اتقدت في صدره بعد لقائهما الأول، لقد كان وقتها شاباً تواقاً للثقافة والمعرفة، يحلم أن يكون أحد رواد التقدم والتغيير في مجتمع تنخره العديد من المشاكل، كالأرضة التي نخرت عصا سليمان، لكنه ما فتئ أن شعر بالقيود تلتف حول أفكاره وتطلعاته كمن ولد بها! وبدأت التساؤلات تضج في عقله عن تلك الأغلال التي كانت تزداد ثقلاً وعبئاً عليه بمرور الوقت، ليكتشف أن جميع من يعرفهم يرزحون تحت نفس القيود الصدئة، فيغرق العديد منهم في مستنقع التخلف والتبعية، ويختنق الباقون بأحلامهم الضائعة.
وقتها زاره صديقه الغائب منذ آخر ربيع مزهر، وأهداه هذا الكتاب المنكمش تحت غطاء كتاب آخر، وذلك إخفاء لرائحته النضرة عن كلاب الصيد المطاردة لكل الأفكار الخارجة عن دين الحاكم بأمره، ومنذ ذلك اليوم اختلط هو مع صفحات الكتاب كاختلاط ذرات الملح والرمل، وتغلغلت أفكاره التحررية في مسام عقله ووجدانه، فأخذ يحلق معه في آفاق جديدة كُسرت فيها القيود وارتقت الأمم لرتبة البشرية الحقة.
لقد وجد الحقيقة المطلقة التي ارتوت منها حقول أفكاره وأخمدت بها نيران تساؤلاته، "الاستبداد هو أساس كل بلاء"، إنها الحقيقة التي سترسم ملامح طريقه الجديد، وتتقد بها همته العالية، لكن أكثر ما هز عمدان معبده هو إدراكه لحقيقة أن أغلب ضحايا القمع هم مستبدون في ذواتهم وعلى من حولهم، وأن ذلك قد تأصل في وجدانهم وأصبح كالوباء يغتال جميع الطاقات والأفكار، وهنا تتجلى العدالة الإلهية بقوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" صدق الله العظيم.
بعد بزوغ فجره، بدأ بتمزيق أوراق انتسابه لجامعة القمع الأسري، وتوقف عن السعي -ولو في خياله الجامح- إلى جعل البسطاء يدورون في فلك أفكاره ومعتقداته، فالأصالة والاختلاف هما الأساس الراسخ لأي تغيير منشود، بدأ قلمه يمخر عباب الاستبداد بجميع أشكاله وأحواله، وصار مداده يعكر صفو هذه البحور، فتآمرت الأمواج السوداء على ذلك المقدام وتسلقت المطايا من الأقلام المزروعة على عتبات التملق والنفاق، أبى أن ينحني قلمه لغير خالقه، واستمر في نشر أشرعة آرائه التحررية على منابر الفكر حتى اهتزت الجدران وتطايرت الأوراق.
يقف أمام نافذته المطلة على حديقته المهملة منذ انطفاء شعلته، يقبض على يده اليمنى بشدة، فيوقظ العروق النائمة تحت ستار جلده الشاحب، يغمض عينيه على ما تبقى من نظر ضاع مع سنوات عمره، ويحاول أن يشعر بقلمه الغائب الذي انتزع من بين يديه قسراً، كالروح تسحب من بدن صاحبها في ريعان شبابه؛ ليلقى الجثمان في عزلة المنفى الفكري.
يفتح عينيه على وسعها كمن مسه تيار الصحوة من غيبوبة طال أمدها، يمسك أركان نافذته الملتصقة بالجدران ويسحبها من أمام تيار الهواء الذي اشتاق أن يتغلغل عبيره الطاهر في رئتيه الخاويتين، يشعر بحرارة كتابه المفتوح على راحتيه للمرة الأخيرة، ثم يرمي طائره الفارد جناحيه؛ ليحلق بعيداً عن هذا القفص، ويمضي ببصره معه لأبعد مما يراه، حتى توارى في الأفق البعيد… تمتم بشفاهه الزرق وصاياه ودعاءه لمعبوده الأوحد، عسى أن يحط طائره العزيز أمام برعم واعد سيملك يوماً مفاتيح التغيير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.