سببان كانا وراء عشق الطبيب القبطي والمناضل الفلسطيني محجوب عمر – المولود باسم رؤوف نظمي – لمنطقة السيدة زينب في العاصمة المصرية القاهرة.
السبب الأول أنها حبيبة قلوب البسطاء في مصر وهو كان مغرماً بهؤلاء البسطاء ويشعر أنه واحد منهم، وآل البيت هوى مصري بامتياز.
أما السبب الثاني، فأنها تذكره بالحسين في الضمير العربي والإسلامي، وفكرة الشهادة يعيشها محجوب بمفهومها الإنساني المسيحي والإسلامي، فقد عرفت المسيحية في مصر عصر الشهداء الذين سقطوا في زمن الاضطهاد الروماني للأقباط.
وهكذا مثلت له السيدة زينب مفهوماً إنسانياً وشعبياً للدين البسيط والعميق في آن، كما قال لي في حوار قديم منذ أكثر من 10 سنوات.
هذا الحب للسيدة كان أحد الملامح التي رسمها له الوثائقي "محجوب عمر.. خدام اللطافة"، لمنتجته الروائية والصحافية العراقية المعروفة إنعام كجه جي.
قبل عام واحد لم تكن كجه جي قد سمعت باسم محجوب عمر أو دوره النضالي، لكن أثناء مشاركتها في مؤتمر بالقاهرة وقعت في يدها مجلة تحوي ملفاً عن المناضل اليساري المسيحي رؤوف نظمي الذي يعرفه الكثيرون في مصر وفلسطين باسمه الحركي محجوب عمر.
وفور قراءة المخرجة العراقية، للملف قررت عمل وثائقي يقدمه للأجيال الجديدة من العرب، كنموذج للنضال المتسم بالتسامح الديني؛ فهو مسيحي مصري يعشق السيدة زينب ومقامها، ويؤمن بعدالة القضية الفلسطينية وعمل طوال حياته من أجلها.
هكذا قدمت الروائية العراقية فيلمها الوثائقي للمرة الأولى لجمهور مركز "دال" الثقافي التابع لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود" في القاهرة، والذي حضره لفيف من الكتاب والمبدعين.
خدّام اللّطافة
"محجوب عمر ..خدام اللطافة" اهتم بتقديم النموذج الإنساني، فارتكز على تقديم شهادات من عاصروا محجوب – ذلك القبطي البسيط الذي ولد في المنيا في العام 1932 ودرس الطب وانضم للحزب الشيوعي المصري، قبل أن يعتقله نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مرتين لمدة 11 عاماً.
انضم بعدها إلى "المقاومة الفلسطينية" طبيباً وقائداً للفدائيين، ثم مستشارا للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ومدرباً للمفاوضين مع بدء المفاوضات مع إسرائيل.
قدم الفيلم الوثائقي شهادات بعض قيادات اليسار المصري، مثل صلاح عيسى ود. قدري حفني، والمفكر الفلسطيني منير شفيق الذي رافق محجوب في لبنان أثناء إقامة الأخير بها في الثمانينات من القرن الماضي، وشهادة ابنة الشيخ هاني فحص الذي استضاف محجوب لفترة في بيته.
وركز الفيلم على الجانب الإنساني للمناضل وكيف كان يواجه السجن باعتباره خلافاً في الرأي بينه وبين عبد الناصر، كما قال الروائي اللبناني إلياس خوري في الفيلم، وكيف اهتم بانتشار الرمد بين أطفال المدارس بالأردن، فقام بنفسه بتركيب محلول "قطرة" من قراءة الوصفات العلمية، ووقف على أبواب المدارس عند دخول الطلاب ليضعوا لهم الدواء في عيونهم ويشفوا من الرمد.
أما لقب "خدّام اللطافة" فكان لقباً أطلقه عليه صديقه الكاتب إلياس خوري، ويعني بها أنه كان خادماً لكل من يكون إنسانيا ولطيفاً مع الجميع، وتلك كانت فلسفته.
فقد روي أنه وهو الشيوعي لم يكن يرفض الحوار والتنسيق مع "الإخوان المسلمين" رغم الخلاف العقائدي والسياسي بينهما. كما يروي قدري حفني أن محجوب التقى القطب الإخواني سيد قطب في مطلع الخمسينيات، للتنسيق بين الشيوعيين والإخوان في إطار سياسة مد الأيدي لجميع الأطياف في مواجهة الاحتلال البريطاني.
كما أنه كان يضع لافتة على مكتبه يصف بها نفسه بأنه "جمهر.. مفرد جمهور .. مفرد جماهير"، ليشير إلى أنه ينتمي للناس وليس للأيديولوجيات.
كان يمارس الشيوعية بإنسانية، لذلك جاء قراره في منتصف الستينات بالانضمام إلى منظمة "فتح" باعتبارها فصيلاً غير ايديولوجي يسمح بانصهار الجميع تحت لوائها.
وغاب الكثير من سيرة الحكيم عن الفيلم، ربما لطبيعته التي اعتمدت على اختيار صانعته، أو لطبيعة "الحكيم" نفسه التي تتجاوز شخصيته في تعدد جوانبها عدد ما أطلق عليه من أسماء وألقاب.
الحكيم.. عاشق السيدة
لقطة في الفيلم لمسجد السيدة زينب، وصوت الحكيم يقول عنها قصيدة شعر كتبها حباً فيها أعادتني لأول حوار بيننا عندما التقيته للمرة الأولى قبل أكثر من 10 سنوات، وقتها كانت غزة تحت القصف، والجميع معلقون بشاشات تروض العيون على مشاهد الدم المراق.
ذهبت إليه بأرَق ليلةٍ سابقة، وقد حرمتني مشاهدة أخبار الحرب على مدار الليلة النوم، حكيت له عن صورة تطارد غفواتي المتقطعة، لبلفور يبتسم في قبره وقد أثبت أن من لا يملك يستطيع أن يعطي من لا يستحق.
ولكن .." فقط إلى حين…!"، هكذا أكد لي "الحكيم" مطمئناً.. هدأت بالاً، وجلست إليه وفي ذهني عشرات الأسئلة من أول: لماذا كان يستمع إلى القرآن عبر موجة إذاعة القرآن الكريم في الراديو المثبت فوق رأسه، عندما دخلت إلى غرفته، حيث يستقبل زائريه منذ أقعده المرض- وكان القرآن بالنسبة له إيقاع الهوية العربية وكتابها الأول، لا يستغني عنه شاعر أو كاتب – وحتى سؤال فلسطين هل تخرج من أزماتها المتتالية ومن أين يأتي بهذا الأمل؟
ولم يقلل من إيجابية ذلك اللقاء الأول أنه جمعني بالحكيم بعد سنوات من معاناته آثار الأزمة الصحية التي ألمت به خلال الاستعداد لمفاوضات أوسلو إلى جانب عرفات، وتركَته بجسد ثقيل ولسان ينطق الكلام بصعوبة ، يعاني جلطة المخ، التي نجت منها تماما ابتسامته العنيدة.
هذه الابتسامة الدائمة على وجه محجوب جعلت الكاتب الفرنسي الشهير جان جينيه يقول عنه في كتابه "أسير الحب"، إنه كان "أكثر قادة الفدائيين الفلسطيننين ودّاً"
هل قلت الفلسطينيين؟!
نعم، فقد ظل الحكيم فلسطيني الهوى منذ ١٩٤٨، عام نكبة فلسطين – وهو العام الذي التحق فيه بكلية الطب جامعة القاهرة – إلى أن حصل على الجنسية الفلسطينية الشرفية وفوقها نجمة القدس أرفع وسام فلسطيني في يناير 2004 .. كنت معه حينها في منزله بحي المنيرة بالقرب من حبيبته الأولى "السيدة زينب"، ورأيت فرحه الشديد بتكريم فلسطين له، لكنه قال لعرفات -وقال لي- إنه وكل العرب مدينون بالكثيرلفسلطين التي جعلت لحياتنا معنى.
الحوار أم البندقيه؟
"يأتي تكريم د. محجوب عمر ابن مصر العربية بهذا الوسام تأكيداً على البعد القومي للقضية الفلسطينية، واعترافاً بموقع ومكانة ودور جمهورية مصر العربية في قلب وعقل ووجدان الشعب الفلسطيني."
كان هذا نص الخطاب الذي قرأه وزير الثقافه الفلسطيني وقتها، والروائي يحيى يخلف، في غرفة "الحكيم" أثناء تسليمه قلادة القدس، و معه شريكة الحياه والنضال – المترجمة منى عبد الله – التي قاسمته حب فلسطين والدفاع عن قضيتها كما قاسمته ذكريات الترحال، وقدمت لأهم مؤلفاته التي جمعها كتاب صدر بعنوان "كتابات"، عن دار الفكر الاسلامي ، مذيلا بتوقيع مديرها ، "جمال البنا" وكلماته عن محجوب عمر التي يقول فيها " عرفت فيه حكمة خافية عميقة تجعله يجمع ما بين محمد و المسيح ، ماركس وأبي ذر ، الداعيه والمحارب.. ما أحوج المقاومه الفلسطينيه اليوم الى صوت الحكمه ..ان تراجع دروس الماضي..ما أحوجها إلى الذكرى."
تغيير تكتيكي
ورغم أن محجوب بدأ حياته مناضلا يعتنق فكرة الكفاح المسلح وانضم للمقاومة الفلسطينية على هذا الأساس، فإنه غير فكره ورأى في مسار "السلام" التي بدأه السادات تفكيرا "خارج الصندوق"، بعد العثرات في طريق المقاومة، بل إنه سبق السادات في التفكير في الحوار الفلسطيني- الإسرائيلي في كتابه الشهير "حوار في ظل البندقيه"، قبل أن تكون فكرة الحوار مطروحة.
سألته يومها : لماذا غير رأيه في مسألة الحوار في ظل البندقية.. وماذا نفعل عندما تهرب منا الأوطان وترحل وراء حدود إدراكنا .. فأجابني : بأن الزمن لصالحنا وأنه مهما طال الأمد ستحل القضيه بالتعايش السلمي في النهايه، بعد أن تراق المزيد من الدماء ربما، وهذا هو المؤلم" .. لكن لا بديل عن الحوار. ثم قال لي: "أليس هذا الحوار هو الذي عاد بالفلسطينيين وقائدهم أبوعمار إلى إرض فلسطين ليناضلوا من داخلها بعد أن كانوا خارجها لا يزورونها إلا في الخيال ..أليست تلك العودة الجزئية نتاج اتفاقات أوسلو؟"
حصار
عن بُعد شَهد الحكيم حصار رفيقه الرئيس الراحل عرفات – والذي كان مستشارا له لسنوات طويلة – في مبنى المقاطعه في رام الله في ديسمبر عام ٢٠٠١ ، يتابع أخباره على شاشة التليفزيون، يقيم حالة صحته من خلال صورته، ثم من خلال صوته عبر الهاتف، حيث كان يهاتفه يوميا.
بدا لي ثبات الحكيم رغم ظروف ذلك الحصار وقتها وتهديدات القتل لأبي عمار غريبا، لكن معرفة ما شهده عيانا في حصار عرفات ورفاقه ببيروت في 1982 كان فيه السر الذي تتبدد معه الدهشه .. "ياما دقت ع الرأس" طبول حرب وحصار وتهديدات.
رأيت دموع الحكيم في سابقة وحيدة عند وفاة عرفات، وسألته: هل يستطيع الشعب الفلسطيني أن يواصل الصمود ويبقى على وحدته بعد عرفات؟ فاجابني بثقة من عمل مفاوضا سياسيا لفترة طويلة في حركة فتح: "كنت أدرس لهم موضوعا عنوانه ما هو سر صمود الشعب الفلسطيني منذ عام 1936؟، والسر هو أن هذا الشعب يعيش حالة مستمرة من الاتحاد يستطيع علماء الانثروبولوجيا أن يدرسوها بمجرد دراسة الأسماء وتكرارها دائما عبر الاجيال". وكانت جنازة عرفات رمزا لهذا التوحد، الجميع ساروا في الجنازة، وفتحت بيوت الفلسطينيين في غزة والضفة ومصر لتلقي العزاء من المختلفين مع عرفات والمتفقين معه.
" لقد صار الفلسطينيون هم العرب ..بعد ان استطاعوا على مدى سنوات من الظروف الصعبه والقاسيه ان يصمدوا وحدهم ويضربوا للعالم كله مثالا في المقاومه. صار الطفل الفلسطيني معجزه حية ..وصرنا نتمنى لو أننا كلنا فلسطينيون ..بل صرنا كلنا فلسطينيون"، قالتها الزوجه والشريكه منى عبدالله، التي كانت في عرض الفيلم على حماسها وتفاؤلها الذي تركه الحكيم لها إرثا مع كثير من الذكريات والأصدقاء .
بعد ثورة يناير ٢٠١١ زرته مرة أخرى فاخبرتني منى أنه أصر على الذهاب إلى ميدان التحرير بمقعده المتحرك ليشاهد حلما عاشه لسنوات طويلة ورآه يثمر – ولو قليلا – في التحرير. ولكن محجوب رحل عام ٢٠١٢ وقد زاد الانقسام الفلسطيني، ولم تنتصر الثورة في مصر، فصار علينا أن نتذكر رحلته كلها، كما رواها الفيلم وكما لم يروها بعد، لنستعيد بعض الأمل في أن للحلم بقية ربما..
يا ست
(شعر: محجوب عمر)
على بابك يا ست.. أنا ع الباب
محسوبك وأنا.. من يومى وأنا
أَشّرق أغَرّب.. أبعد أقرّب
أطلع جبال.. أنزل هنا
أرقد فى جوف الأرض للدّود وانحني
يقف على رأسى حجر يشهد على عشقي
محسوب ولد محسوب
للست والأحباب
وكأنه كان مكتوب
أطلع أنا المحسوب
من يومى وأكون ع الباب
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.