(دوافعُ التّسلّط وأسبابُ الرّضوخ ومنهجيّة الخَلاص)
تطرق المقال السابق
لتسليط الضوء على البنية النّفسية والسلوكيّة التي تحكم سيكولوجيا الإنسان المتسلط وقرينه الراضخ، في محاولة لفهم تلك البنية والإفادة في معرفة الدوافع لسلوك مسار التسلط أو مسار الرضوخ، وفي الحقيقة فإنّ هذه الظاهرة الخطيرة لم تأخذ حقها من التحليل والتدقيق في عالمنا العربي، سوى زيادة عدد المؤلفات والمقالات دون أن نَلمس أثرها في العقل الفردي أو الجَمعي، حتى إذا طافت بنا أحداث الربيع العربي فضَحت قصور ذلك التأثير داخل المجتمعات العربية نتيجة لما آلت إليه بعض تلك الأحداث من ارتكاس وخيبات أمل.
ما زال العقل العربي بحاجة ماسة لمزيد من الخوض في تلك الظاهرة لإحداث ثورة ثقافية على جميع المفاهيم والقناعات البالية التي جَرّمت الفكر وحاربت التفكير وبَلّدت العقل فجعلته يسبح ضمن فلكٍ ومستوىً معين من التفكير والتحليل والتحصيل بحيث لا يتجاوزه ليبقى رازحاً تحت سيف القهر والذل.
دوافع التسلط عديدة، بدأت منذ الأزل بحرصٍ بالغٍ من إبليسَ على إغواء آدم وزوجِه وما سبقه من تكبّر وغرور تَسبب في عصيانه للإله، وقد وقع التسلط والتجبر حين قارع قابيل أخاه فقتله ظلماً وعُدواناً بدافع الحسد، كما تسلّط فرعون والنّمرود وأقوامُ الأنبياء حرصاً على جاهٍ أو منصبٍ أو كُنوز أو رفضاً لما خالف ما كان عليه الآباء والأجداد، وقد يقع التسلط نتيجة لتنشئة تَسلطيّة مُشوَّهة، أو محاولة لردم نقيصة في النّفس.
فالدوافع عديدةٌ ومُشاهَدة بكثرة في مجتمعاتنا ومؤسساتنا وأعمالنا اليومية.
يُشكّل التّسلط حالة من القهر تجاه الآخر تجعله يُقاوم أو يَرضخ، فربما يُظلم الإنسان ويُقهر ويُغلب على أمره {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ} [ سورة المائدة 28] لكنه أبداً لا يُساوم على كرامته وحقوقه وإن وقع ضحية في سبيلها.
وحين يَفعل فيقبل المَهانة أو المَذلة فذلك لنقيصة أو مَهانة يجدها في نفسه المعلولة ولو كان عزيز النّفس ذا كرامة لما نبتت فيه سُموم التّسلط {وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا} [ سورة الأعراف 58]
فالإنسان حينما يرضخ للاستبداد فإنّما تمّ بقَبول منه يَستند على جهل مصحوب بغفلة -وهو الأساس- أو فقر في الوعي والإدراك {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [ سورة الزخرف 54] أو خوفٍ من غضب المُتسلّط أو حِرصٍ على مصلحة ما أو خوف من فقدانها، أو ركون إلى إلزاميات العادات والتقاليد التي اكتسبت قَداسة مُخيفة أربكت مفاهيم الدين الصحيح وشَوّهت الفطرة السليمة فتداخلت الحقوق والواجبات والحريات والمسؤوليات.
لا شك بأنّ الخلاص من قيود التّسلط ذاتيّ بحت بالدرجة الأولى {بَلِ الإنْسانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [سورة القيامة 14]
وإذا أردنا تضييق دائرة المسؤولية فنقول بأنّ التحرر يبدأ من الأسرة التي إمّا أن تزرع بذور الاستبداد أو الرضوخ في نُفوس الأبناء وإمّا أنْ تنجح في أحد أهمّ اختبارات التّربية والمسؤولية في الحياة فتُبحر بهم إلى بَرّ الأمان، فيَنشأ الفرد مُتصالحاً مع ذاته يَحكُمه السّلام والطمأنينة والفطرة السليمة فلا يتجبّر ولا يَذِل.
القرآن بتعاليمه المُقدّسة يُشكّل حالة ثورية إرشادية ضد كل مظاهر وأشكال التّسلط والاستبداد أو العبودية والرضوخ، لذا فقد وصف لنا حال الراضخين الراضين بالذُل والإمَّعيّة والانسياق كالقطيع فوصف حالهم بعد انقضاء الأمر {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}.
إنّ إعادة النّظر والتدقيق في تراثنا الإسلامي وإزالة اللَّبس عن كافة المفاهيم التّطويعية المُثَبَّتة بحكم التّاريخ والسلطان كفيل بإعادة بثّ الروح في النّصوص الشرعيّة لتحقيق الغاية منها بما فيه تحقيق العدل وحفظ كرامة الإنسان، إذ لا يمكن الاستمرار في تفسير آيات الحقوق والواجبات والسلوك بِنَفَسٍ تَسلُطيّ قَمعيّ يَسلب الإنسان حريته وعقله بحجة الطّاعة أو البِّر، فلم يَعد مُمكناً ترديد أحاديثٍ من قَبيل "اسمع وأطع وإن جُلد ظهرك وسُرق مالك" وكأنّها قاعدة شرعيّة في التّربية الدّعوية أو التّنظيمية، لم يَعد ذلك مقبولاً أو مُستساغاً، وبذلك نُدرك ألاّ سُلطة للإنسان على الإنسان بأيّ حال من الأحوال وألاّ وصاية له على آراء وحريات الآخرين إلا ما كان توجيهاً ونصحاً وإرشاداً.. {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}، بل إنّ الله لم يُمكّنَ للشيطان من الإنسان في معرض التأكيد على مدى حرية اختياره ومساره في الحياة.. {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم} وإلا فما قيمة الحساب يوم العرض على الله؟!
فالواجب على الإنسان أن يعزز من قيمة نفسه ويحترمها، مدركاً بأنّ الله قد كرّمه وأسجَد له الملائكة ونَفخ فيه من روحه، بل إنّه سمّانا عباداً لا عبيداً له، ما يدلل على مدى اتساع أفق وروح الحريّة وما يقابلها من مسؤوليّة في الحياة الدنيا.
يمكننا القول بأنّ التّخلص من الاستبداد بمثابة اقتحامٍ مُستمر للعقبة، فهو عملية دفاعيّة مستمرة جوهرها ذاتيّ بحت مرتبط بتحصين الذّات ومنعها من الرضوخ بمجاهدتها المستمرة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وتزكيتها الدائمة {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ورفعها من مستنقع الجهل وقلّة الحيلة والتّعذر المعلول.
وهو أيضاً اقتحامٌ للعقبة بعملية هجومية حذرة -على قاعدة انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً- تهدف لكبح جماح المتّسلطين، بتوعية المُحيط ومن نعتقد فيهم ضعفاً وميولاً نحو الرضوخ والعمل على فضح أساليب المتّسلط ومنطلقاته ودوافعه، وإن لَزِمت المواجهة والمكاشفة المضبوطة التي لا تؤدي إلى عنفٍ أو ضررٍ إلاّ ما اضطررتم إليه.
إنّ الجرأة في الطّرح والنّقد والتحليل لكل ما يُعيق الفهم السليم في مسيرة الإنسان مدخلٌ مهمّ على طريق تحقيق غايات ومقاصد الحياة، وأهمها العدل والكرامة التي نالها واستحقها الإنسان من الله مباشرة، فهي مُقدّسة ومُخَرّجةٌ بِختمٍ إلهيٍّ لا مُساومة عليها {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[ سورة الحديد 25] فالعيش في ظلّ هذا المفهوم يكفل للإنسان ممارسة حياته التي خُلق من أجلها لا من أجل طريق رُسِم له وحُدد مسبقاً بمعايير بشريّة مَصلحيّة لا تُقيم وزناً ولا اعتباراً لكيانه وقِيَمه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.