رضوى عاشور في “الطنطورية” تعيد سرد تاريخ النكبة الفلسطينية

والأمر لا يتوقف عند حدود الرصد التاريخي للأحداث، فهناك إلى جانب كل هذا حياة تضج بالأمل والمشاحنات العائلية والأفراح والأتراح، هناك المواقف الشاعرية بين الأبطال التي توضح خفايا مشاعرهم وطبيعة علاقاتهم مع بعضهم البعض

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/17 الساعة 02:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/17 الساعة 02:50 بتوقيت غرينتش

من "ثلاثية غرناطة" إلى "الطنطورية"، مأساة ضياع الأوطان واحدة، فالمرارات التي ذاقتها مريمة "غرناطة" تتشابه مع آلام "رقية" في "الطنطورية"، ومطرودو حي البيازين في غرناطة لا يختلفون عن أبناء "الطنطورة"، سرد من القلب، ووجع تتوارثه الأجيال، وحسرة تاريخ وجغرافيا.. ملحمة إنسانية وتأصيل تاريخي عميق لمأساة من مآسي القرن العشرين، النكبة الفلسطينية.. لقد أبدعت د. رضوى عاشور في هذه الرواية وهي تعيد نسج خيوط التاريخ بطريقة تغنيك عن قراءة أكثر الكتب التاريخية في حديثها عن النكبة.

إنها رواية أجيال، تحكي قصة أسرة من أربعة أجيال، تبدأ بالجد الكبير "أبو الصادق" المولود عام 1906 في الطنطورة وقتله الصهاينة عام 1948، ودفنوه مع ولديه في مقبرة جماعية، وصولاً إلى الحفيدة "رقية"، ابنة حسن الصغرى، المولودة في "اللد" عام 2000، ابنة زواج فلسطينيي الشتات بفلسطينيي 1948. وهي قصة تكتب من خلال تناسخ الشخصيات وتكرار الأسماء وتوالدها من بعضها البعض استحالة محو الصهاينة لفلسطين، أو القضاء على الفلسطينيين فهم يدمرون ويقتلون، وهي تبني وتنشئ الحياة، تعيد خلق أصحاب الحق السليب وهم أكثر تمسكاً بحقهم.

تلك السيرة التي لم تكتفِ بالمرور على الأحداث السياسية الكبرى منذ النكبة عام 1948 ومشاركة العرب والمسلمين للفلسطينيين فيها، لقد اختارت رضوى عاشور مذبحة "الطنطورة"، تلك القرية التي تقع على الساحل الفلسطيني جنوب مدينة "حيفا"، والتى حدثت فيها المذبحة عام 1948 على يد العصابات الصهيونية، وتتمثل بطلة الرواية في امرأة من القرية يتابعها القارئ منذ الصبا إلى الشيخوخة، فتتخذ الرواية خيار المزج في سطورها بين الوقائع التاريخية من ناحية والإبداع الأدبي من ناحية أخرى، كما تتناول الرواية المذبحة كمنطلق وحدث من الأحداث الرئيسية، لتتابع حياة عائلة اقتلعت من القرية وحياتها عبر ما يقرب من نصف قرن إلى الآن.

منذ البداية تضعنا الكاتبة أمام مشهدين؛ الأول فلسطين بأرضها وبحرها وحضارتها المتراكمة بتواصل عبر آلاف السنين، والتي لم يصنعها القادمون الجدد من أعالي البحار، والمشهد الثاني أولئك الغرباء، وهم يلاحقون المناضلين ويعدمونهم لأقل الأسباب، ثم تنتقل بنا من مكان إلى آخر عبر البنية المكانية للرواية، التي تمتد من الطنطورة في فلسطين إلى آخر الدنيا في كندا، مروراً بمسار الهجرة واللجوء في لبنان، كما تنتقل بنا من زمان إلى زمان، بما يشكل البنية الزمانية للرواية أيضاً عبر ستة عقود؛ لتندمج هاتان البنيتان في خطاب سردي متماسك.. كل تلك الأحداث من أبوظبي، وعمان، والإسكندرية، واليونان، والشريط الحدودي عند شمال فلسطين، وما تخللها من قتل وتنكيل وإذلال وتشريد نجد أن اختيار الأشخاص والأماكن والحراك الخاص بكل جزئية في المشهد كان نتاجاً لشهادات وتقارير خاصة بالحدث، حرصت الكاتبة على دقتها المكانية والزمانية والثقافية والهوياتية، وكأنها تريد مواجهة الأكاذيب والتلفيق التي ساقها الأعداء وهم يسعون لإلغاء الزمان والمكان والإنسان عن طريق محو الوجود الفلسطيني ضمن الجغرافيا، لإنشاء الدولة اليهودية التي جاءت بريطانيا إلى فلسطين من أجل تحقيقها، وليس أدل على ذلك مما ورد في الرواية من تأكيدات على قيام بريطانيا بتسليم حيفا لليهود، ثم تبعها سقوط المدن والقرى الأخرى في أيدي اليهود، الواحدة تلو الأخرى، كما ينفرط عقد المسبحة التي انقطع خيطها.

ولكن كيف يمكن لرواية تحكي تاريخ الوجع والمأساة بكل هذا الصدق أن تكون جميلة وممتعة؟!

الجواب ببساطة لأن الرواية تمتلئ بالصدق الممزوج بالموت وأحداث المجازر ورائحة الدم، مع الفرح المختلس بين فينة وأخرى، والآمال الكبيرة التي تبنيها تلك الأسرة في كل مكان ترتحل إليه، تنقل لنا تفاصيل الأيام الفلسطينية المفعمة بالحياة والأمل، إنها ملحمة الشجن الفلسطيني بوجهها الأجمل.. باستخدامها تعابير شعبية وألفاظاً فلسطينية عامية، وأغاني وأهازيج وطلبة فتيات للزواج أدخلتنا رضوى عاشور إلى داخل البيت الفلسطيني، وبرعت في ذلك من خلال شاعرية المواقف والأحداث، وكذلك من خلال لغة سردية متميزة، تعيش داخل بيت رقية، تجعلك تبتسم أو ربما تضحك من خلال ردود الفعل والتعليقات الجانبية على هذا الموقف أو ذاك، تطلعك على نفسيات الشخصيات والأبطال من خلال تلك المواقف الدالة فلا تملك إلا أن تكون أحد أفراد العائلة.

والأمر لا يتوقف عند حدود الرصد التاريخي للأحداث، فهناك إلى جانب كل هذا حياة تضج بالأمل والمشاحنات العائلية والأفراح والأتراح، هناك المواقف الشاعرية بين الأبطال التي توضح خفايا مشاعرهم وطبيعة علاقاتهم مع بعضهم البعض، علاقات الحب بين الإخوة ودفء العائلة، وهناك كذلك التجاوز عن الآلام كلها، والإعداد لمشروع طموح بمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب… فإذا كانت "رقية" بكل ما تمتلكه وتبثه في أبنائها من أمل وقوة وإصرار، وزوجها الطبيب الهادئ والغامض في نفس الوقت، الذي يستشهد في ظروف غامضة، وكذلك ابنها "حسن" الذي يحرض أمه على كتابة مشاهداتها وسيرتها الذاتية، وهي تروي تلك الرواية، بينما هو يعد العدة للعودة إلى فلسطين أرضه وأرض آبائه، وهناك أيضا "عبدالرحمن" المحامي الذي يسعى لاسترداد حقه وحق أهله بالقانون؟!

قالت الكاتبة في النهاية إن شخصيات الرواية من نسج الخيال، إلا أنني على ثقة أن كل شخصية كانت أكثر من حقيقية، فـ"رقية وأبوالأمين وأبوالصادق" وغيرهم يمثلون الشعب الفلسطيني الذي لا يوجد بيت فيه إلا واستشهد فيه أحد أو جرح فيه أحد، واعتقل فيه أحد.
هذا قدر الفلسطينيين، والله يختار لهذا القدر مَن يشاء من عباده.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد