أحاولُ أن أستقي علّةَ للكتابة، أنبشُ كل دهاليزَ فكري، لأرى سبباً واحداً، يجبرني على هذا الكم منها (المعلنة والخفية).
مكرراً في ذهني أن الأشياء لا تحدثُ صدفة، إنما الصدفة هي مصطلح يعبر عن حدوث شيء ما من دون أن نلاحظ أو ندرك السبب المسبب له.
أعودُ في العصور إلى الوراء متخفياً بثوب باحث، لأرى صور الكتابة الأولى ودوافعها، وألاحظ بذورها تنبتُ في القرن الخامس قبل الميلاد، بدأتْ على الألواح الطينية وسُميتْ بالكتابة المسمارية، نسبة للأداة المستخدمة بها، حتى توالت القرون وأخذت أشكالاً عديدة من التطور مع اختراع الورق والطباعة.
إذاً..
بدأت الكتابة كصورة من صور التواصل الفكري والثقافي والمجتمعي للإنسان، ليحفظ بها تراثه ونتاجه الفكري والحضاري عبر الأزمان والعصور، ليأخذ السبب الأول والدافع نحو الكتابة، جسدَ الحاجة لبناء تلك الفسحة وضرورياتها.
وبالنظر العام على الخط الزمني للكتابة نرى أن بعد سبب "الحاجة" انتقلت الكتابة أو غايتها وسببها إلى أشكال عديدة تختلف تبعاً لنظرة الكاتب لها وضرورياته الروحية وارتباطه بها، وهذه الصور التي تحمل هذه الأسباب هي ليست بالبعيدة عن أزماننا وعصرنا هذا، فقد رأت أحلام في روايتها "ذاكرة الجسد" أن الكتابة هي دواء عدم الشفاء من الذاكرة وحصونها المتعبة، فلا مفر لحدود الجسد والروحِ عن ذاكرةٍ عاشها وهي تلاحقهُ سوى بالكتابةِ شفاءً ودعاءً بالخلاص، فالكتابة هنا تصبح شفاءً لداء الذاكرة المزمن بالأوجاع، حتى أنها شبهت فعل الكتابة بالموت كصورة عميقة للمشهد الكتابي:
" قبل اليوم، كنت أعتقد أننا لا يمكن أن نكتب عن حياتنا إلا عندما نشفى منها، عندما يمكن أن نلمس جراحنا القديمة بقلم، دون أن نتألم مرة أخرى، عندما نقدر على النظر خلفنا دون حنين، دون جنون، ودون حقد أيضاً. أيمكن هذا حقاً؟
نحن لا نشفى من ذاكرتنا، ولهذا نحن نكتب، ولهذا نحن نرسم، ولهذا يموت بعضنا أيضاً".
أما الدكتور أيمن العتوم، فقد صنف الكتابةَ بهيكليةٍ شفافة، حيث جزَّأها في روايته "صاحبي السجن" تحت مجهر قلمهِ، واختص بالحديث عن شعورها، مصنفاً إياه في سلسلة المتع الأعمق على المستوى الحسي الإنساني لتكون شفاءً من الحالة الشعورية التي تلتصق بالكاتب وتراوده عندما تعوم فكرة ما في خلجات جوفه وصميمهِ الإدراكي، وهنا تبرز "الحاجة للشفاء" أيضاً كعلة للكتابة بشكل واضح:
"شعور الراحة بعد الكتابة شعور أصنفه في الدرجات الأولى من المتع الحسية، وكأن الحالة الشعورية داءٌ خفي يمزق جوارح المبدع، فإذا الكتابة شفاء هذه الحالة، أليست الكتابة شفاء؟".
ليتابع بعد هذا نظرته المجهرية، ويحول نظرنا نحو علّة الكتابة التالية للعلّة الأولى، وهي ولادة الفكرة بالصورة الأكثر ضرورة وحضوراً لدى المتلقي، لتكون الكتابة هي المخاض الذي سينجي الفكرة وينقلها إلى حيز الحضور، وهنا نلخص العلّة تحت عنوان الضرورة، فتشبيهه للفكرة على أنها هم ثقيل لا بد أن تولدَ لتهدأ روح الكاتب ووجدانه يدعم هذه العلّة:
"وكأن الكاتب يحمل آلام الأفكار الثقيلة في حسه ووجدانه وتظل تهيج به وتقلقه فإذا ولدها أصابته الراحة الكبرى.. أليست الكتابة ولادة؟".
وفي نص يلهب بالنصح بالتوجيه وبالإيضاح المفعم بالخطاب عن مسؤولية الكتابة، نسخ الكاتب محمد الضبع، نفيراً عاماً على كل كاتب أو محاولاً للكتابة بألا يقرب هذا الفعل ما لم يكن الفعل نضحاً من صميمه إلى خارجه، وما لم يكن للحروفِ نبضٌ هيستيري ممزوج بروح الكاتب وتفاصيله جمعاء، فكتب:
"إن لم تخرج منفجرة منكَ، برغم كل شيء، فلا تفعلها.
إن لم تخرج دون سؤال من قلبك وعقلك ومن فمك ومن أحشائك، فلا تفعلها.
إن كان عليك أن تجلس لساعات محدقاً في شاشة الكمبيوتر أو منحنياً فوق الآلة الكاتبة باحثاً عن الكلمات، فلا تفعلها.
إن كنت تفعلها للمال أو للشهرة، فلا تفعلها.
إن كان عليك الجلوس هناك وتعيد كتابتها مرةً بعد أخرى، فلا تفعلها.
إن كان ثقيلاً عليك مجرد التفكير في فعلها، فلا تفعلها.
إن كنت تحاول الكتابة مثل شخص آخر، فانس الأمر.
إن كان عليك انتظارها لتخرج مدويةً منك، فانتظر.. بصبر.
وإن لم تخرج مدويةً منكَ أبداً، فافعل شيئاً آخر."
ليعود مكملاُ متابعاً صراخهُ، ومؤكداً أن فعل الكتابة تلقائي الحدوث، جوهري المنشأ، له خطاه التي تقود الكاتب في المعالم والعوالم، وتسعفه بين الصور والتراكيب ليبني أفكاره وبناه وآفاقه:
".. إذا كنتُ مختاراً، ستحدثُ الكتابة من تلقاء نفسها، وستستمر بالحدوث مرة بعد آخرى، حتى تموت، أو تموت هي داخلك، لا توجد طريقة آخرى، ولم توجد قط . تشالز بوكوفسكي".
ومن صميم الحاجة والضرورة نستدل على علّة المسؤولية التي يوجبها فعل الكتابة، لا يستطيع من يُقدم الحاجة أو يتقمص فعل الضروريات أن يتملص من مسؤولياته في تقديم هذه الحاجات وفي التزام الضرورة عند أداء الفعل.
وبعيداً عن التحليل النمطي أو السببي لفعل يلازم الروح في جُل ولادته ونضجه، أرى أن الكتابة عمرٌ وحياة، فنحن نكتبُ باعترافاتٍ مبهمةِ وبإمضاءٍ على أجسادنا، نكتبُ ونجاورُ أرواحنا لندفع في تقسيماتها معنى الحياة، نكتبُ بالصمت أوجاع عمرٍ مضى، وبالصراخ أفراحاً لم تُخلق بعد، ونعيشُ بفواصل حروفنا الحب دونَ أي ذنب أو خطيئة.
الكتابةُ دمعٌ لا يضاهيهِ دمع، وطمأنينةُ في الروح ولذةٌ في القلب، نحن نكتبُ لأننا أطفال، ولأن الحد الذي يفصل بينَ المعاني قد نُحر، ونكتب لأن الدموعَ أبت إلا أن تُذرفَ حروفاً.
وضعتُ نقطةً، وأنهيتُ الكلمات، طويتُ الورقةَ وخبأتها في جوفِ الكراكيب التي تغطي مكتبي، لأتيقن أن العلّة التي تدفعني للكتابة هي: أن الحياة تنبضُ بالحروف، وتوارثنا للنبض الشهي والمشتهى في الحروف لن يكونَ إلا بالكتابة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.