قلت لصاحبي أنس من مدينة الجديدة علي أن أكتب مذكراتي الطبية؛ فقد رأيت خلال أربعة عقود غرائب الأمراض وعجائب الإصابات، ثم حدثته عن مريضي المصري الذي أجريت له عملية الفتق ليطلبوني لاحقا بحالة مستعجلة، أن الرجل ينزف، لاكتشف عنده مشكلة نقص الصفيحات الدموية، وهي ليست الحالة اليتيمة التي صادفتني. كان الظلام مخيما حين هرعت إلى سرير المريض. كانت العملية بسيطة، أخذت من يدي المتدربة ربما عشرين دقيقة، ولكن لماذا كان الصفن عنده مثل (الدلاح) حجما، راجعت ملفه بسرعة، وتفقدت فحوصات الدم، ثم خبطت بيدي على جبهتي الآن عرفت السبب.
يقول المثل إذا عرف السبب بطل العجب. كان مستوى الصفيحات الدموية عنده متدنيا، ولفائدة القاريء فالدم حتى يتخثر يحتاج إلى مجموعة عناصر، ولكن من يسد الفتق ويرقأ هي الصفيحات الدموية، وهي تشبه الصفحة فعلا؛ فتتراكم فوق بعضها بعضا لتسد مكان النزف.
أي واحد منا عنده في الدم مقدار يترواح بين مائة ألف وأزيد إلى ربع مليون في المليمتر المكعب الواحد، وهي كافية لعملية الإرقاء أي تخثر الدم، وحين ينجرح أحد منا في أي مكان من جسمه فهذا هو القانون الخالد الذي يمسك أجسادنا من الانهيار بأي نزف، وإلا مات أحدنا من أقل نزف؛ فلنفهم هذه المعجزة اليومية على مدار الساعة، التي تكلأنا من الرحمن، ولكننا نمر على هذه الآيات العجيبة صما وبكما وعميا.
قلت للمريض نحن أمام اختلاط (Complication) وقد يترتب عليه أن نضحي بالخصية؟ وافق الرجل وأجرينا تفريغ للمكان من الدم المتجمع، وربطنا أوعية المنطقة بأفضل ما يمكن، ثم شددنا المنطقة بأربطة ضاغطة للنزف حتى الصباح فنجا بحياته وخسر خصيته.
ومن أعجب ما مر علي صدمة ذلك الشاب بتناذر غيلان ـ باريه (Guillain – Barre Syndrom) حين اتصل علي عم الشاب أنه ذهب إلى المدرسة بأتم صحة، ليبدأ معه شلل في الأطراف يترقى بالتدريج إلى الأطراف العلوية!
أنا الطبيب بخبرة عشرات السنوات فوجئت بالخبر؟ حاليا أنا في مدينة الجديدة فأكتب هذه المذكرات فائدة للمغاربة، وموعظة للغافلين، وتعليما للجاهلين، ويقظة للنائمين.
وكلما تذكرت تلك الأيام والليالي النحسات أكرر ما أقوله لصديقي أنس في الجديدة المشكلة لم تكن قط في الجانب الفني، وليتني عملت في القطاع الصحي مع المغاربة الرائعين، ولكنني بكل أسف لم أعرف المغرب إلا في خريف عمري مع كل خبرتي الطبية الممتدة أربعين عاما في ألعن وأصعب أنواع الجراحات؛ فكنت أنام مثل الثعلب عين يقظة وعين مخدرة من النعاس.
المشكلة التي كانت تواجهنا في دول الخليج هي قوانين رهيبة والويل لمن يقع في اختلاط فترفع في وجهه شكوى، وليس من حماية جوية مثل الثورة السورية تقذف بالبراميل بدون مضادات طيران. يسحب جواز السفر ويحول للتحقيق ليمتد ويمط أحيانا سنوات لا يقيل ولا يستقيل وأحيانا قد يوقف عن العمل بدون قدرة الرجوع لأهله، فهذه هي ظروف العمل هناك، فلا يفرح أحد بالعمل في مثل هذه الظروف السوداوية.
أعود إلى قصة الشاب الحموي مع تناذر غيلان باريه؛ لم يمهلني عمه وصاح بي طلبا للنجدة أن الشاب بدأ بالاختناق فلم يعد يقدر على التنفس. تم نقل الشاب إلى العناية المركزة فأدخلوا في حلقه أنبوب التنفس الصناعي حين عجزت رئته عن العمل. كان هذا المرض مرعبا بحق فهو يضرب النخاع العصبي ويترقى إلى الأعلى إلى قاعدة الدماغ فيشل مراكز التنفس.
هذا ما ينقل هذه الأيام عن فيروس زيكا (ZIKA) الذي بدأ رحلته منذ سبعة عقود، حين تم اكتشافه في غابة زيكا في أوغندا عام 1947 م. وقتها لم يكن الفيروس ممرضا. ويبقى السؤال كيف قفز إلى البشر؟ ومتى وكيف تحول من فيروس هامد إلى قاتل؟ حامل لحفنة من الأمراض مثل غيلان باريه الذي أشرنا إليه والذي واجهته أنا ميدانيا مع الشاب الحموي في القصيم في السعودية.
في الواقع قصة الفيروس لا تبدأ من جزيرة (ياب YAP) حيث اطل برأسه فيروس الزيكا عام 2007م ثم قفز منها إلى جزر البلوبينيز الفرنسية، ليحمله ربما المشتركون في مباريات أمريكا الجنوبية الى البرازيل؛ بل تبدأ قصة الفيروس عموما منذ عام 1918 م حين فتك بالأمريكيين أكثر مما فعلت بهم الحرب العالمية الأولى فمات 550 ألف إنسان بالحمى، ويروى عن أمريكا تلك الأيام أن تجارة صناعة التوابيت كانت الأفضل، وكانت كمية الأموات لدرجة أن ترى الجثث أمام البيوت في الأكفان، ويقال أن مدينة بوسطن ودعت في شهر واحد 11 ألف ميت، وحار القوم في مكافحة هذا الدخيل المرعب، ثم انزووا الناس في بيوتهم هربا من الموت وما من مهرب، وكان المارة يضعون الكمامات على الأفواه كي لايدخل الجرثوم مجاري التنفس والبلع عندهم، ولو عرفوا حجم الفيروس أنه من حجم النانو لهالهم الأمر وتراكمت الأحزان، حيث لم يكن الطب قد طور المجهر الإلكتروني الذي يكبر عشرات الآلاف من المرات، فمثلا فيروس الأيدز أمكن رؤيته بتكبير 65 ألف مرة فرأوه على شكل كرة مغطى ظهره بدبابيس وخناجر؟
بعدها ومن أمريكا ضرب العالم أجمع وعرف يومها بالحمى أو الجريب الأسباني. ومات منه ثلاثين مليونا من الأنام، ولم يكن يعرف الناس يومها عالم الفيروسات، مذكرا بالآية التي تقول وما يعلم جنود ربك إلا هو، كما أن الفيروس ينقلنا إلى عالم عبقر عالم الجن الخفي عن الأعين، ففيروس زيكا مثلا قطره أربعين نانو والأخير أي النانو هو واحد من مليون من الملمتر؟ ولم يكن يومها المجهر الإلكتروني معروفا كما ذكرنا، واليوم تعرفنا على مجرمين كثر من هذا العالم الخفي فقد انفجر في العالم فيروس الأيدز عام 1982 م ولم يصل الطب إلى اليوم إلى لقاح أو علاج له، مع أن وزيرة الصحة الأمريكية تبجحت فقالت يومها سوف نصل للقضاء عليه في فترة قصيرة، وها قد مضى على المرض 35 عاما وليس من بصيص في النفق؟
بالطبع هناك نوع من العلاجات المخففة ولكن ليس من علاج شافي تماما، وأنا شخصيا كتبت عنه كتابا كاملا حين انفجر المرض بـ 400 صفحة مع 75 صورة ملونة ويمكن طباعة كتابي من جديد فلا جديد في المرض وعلاجه، ومما ذكرت في كتابي (الإيدز طاعون العصر) أن قصة الإفرنجي الفظيع فيها أعظم العبر فقد ضرب الجنس البشري أربعة قرون حتى وصل (فريتس شاودن) لتحديد المجرم في اللولبية الشاحبة، ثم (فليمنج Fleming) بالوصول وبالصدفة إلى عقار (البنسلين) الذي يشفي من المرض كلية وفي أي طور من أطواره. ثم شّرف لاعب جديد على مسرح الأمراض في فيروس أشد رعبا وقتامة هو (الايبولا Ebola) دموي شرس جدا يقضي على صاحبه في ساعات معدودات أو هو أقرب.
والسؤال الفلسفي هو ما الذي يقلب المعادلة فيتحول القديس إلى لص، كما في فيروس (زيكا) الذي أصاب أكثر من مليون في البرازيل و4000 إصابة، مع شكوك شديدة بعلاقته بصغر الرأس وتشوه الدماغ؛ فيخرج الجنين أقرب للقردة مشوه الخلق والخليقة.
حاليا جندت البرازيل 200 ألفا من الجند لمكافحة البعوض، حيث حامت الشبهة حول البعوضة المصرية ناقلة الفيروس (Aededs Aegypti) ويتنادى الأطباء للمؤتمرات لفهم غضب فيروس جديد خرج من غابة عيدي أمين؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.