في معرض القاهرة للكتاب يذهب الجمهور تلقائياً إلى سور الأزبكية، ليجد الكتب القديمة التي لم تلق سوقاً في المكتبات فتخلص منها الناشرون ووجدت طريقها إلى الرصيف.
وعلى مقربة من سور الأزبكية، تنتشر نسخٌ مقلّدة من كتب جديدة ارتفع سعرها في مكتبات البيع فوجدت من "ينسخها" ويبيعها علناً في معرض الكتاب.
اللافت أن المعرض نفسه في دورة العام الماضي أقصى دار نشر شهيرة هي دار "الجمل" لاتهامها من قبل دار "الآداب" اللبنانية بنشر أحد الكتب ضمن مطبوعات "الجمل"، لكن المعرض أو مسؤوليه لم يحركوا ساكناً أمام بيع النسخ المقلدة من الكتب الجديدة في منصات للبيع في سور الأزبكية الذي صار قبلة الرواد من كل الأعمار بحثاً عن الكتب الرخيصة.
كتب الـ PDF.. أخلاقية؟
وبعيداً عن المعرض افتراضياً، وضمن سياقه ثقافياً، لا يحتاج البعض تلك السرقة المكشوفة والمسكوت عنها، فقد انتشرت مؤخراً ظاهرة نشر الكتب على الانترنت بمجرد ظهور طبعاتها الورقية.
وبرز اسم المثقف السوري علي مولا الذي نقل مئات الكتب المعرفية إلى القراء العرب، مبرراً ذلك بالحق في المعرفة، خاصةً أنه ينقل كتباً لا تلقى رواجاً جماهيرياً إذ تدخل في دائرة الفلسفة والفكر.
لكن تجربة مولا تكرّرت بشكلٍ كبير، ولاشك أن سرقة الكتب وتحويلها إلى نسخ الكترونية بصيغة PDF، يثير قلق دور النشر بل والمؤلف أيضاً، الذي ربما لن يرى اسم كتابه في قائمة "الأكثر مبيعاً"، فلم يعد للقارئ حاجة أن يدفع مقابلاً مادياً للحصول على النسخة المطبوعة، وبالطبع يعاني أصحاب دور النشر الأمرّين بسبب هذه الظاهرة التي تكبدهم خسائر فادحة في الكلفة والتسويق وأجر المؤلف.
روبين هود الكتب الالكترونية
من جهة أخرى يرى البعض أن المثقف السوري علي مولا، ذلك الرجل الذي يدين له الآلاف من باحثي المعرفة في الوطن العربي بالكثير، هو "فاعل خير".
فعلى الرغم من رفض البعض لفكرة قرصنة الكتب الكترونياً، فإن كثيرين يحصلون على النسخ الالكترونية التي رفعها مولا على شبكة الانترنت.
وقد لُقب مولا بـ "روبين هود الكتب" وآخرون لقبوه بـ "حارس التراث"، ويعرف هو نفسه فيقول "علي مولا: باحث عن المعرفة.. أعمل على تكوين مكتبة الكترونية شاملة معاصرة، ومنفتحة على الإصدارات الجديدة عربية وعالمية مترجمة. تقدم خدمة ثقافية وعلمية للمواطن العربي".
ولد مولا في حلب السورية في العام 1961، ويقيم في العاصمة المجرية بودابست منذ العام 1987، ويعمل موظفاً بشركة سياحية هناك.
"فلنحرص دائماً أن نفتح قلوبنا وعقولنا للكتب ونعيش في ثناياها"، بهذه الكلمات يختم مولا افتتاحية منتداه على الانترنت.
وتنقسم الكتب التي قام مولا برفعها على منتدى مكتبة الإسكندرية إلى نوعين، الأول كتب صورها بنفسه من خلال الماسحة الضوئية ثم رفعها عبر مواقعه الالكترونية بصيغة PDF، وهذه تبلغ حوالى 1400 كتاب. والنوع الثاني كتبٌ قام بجمعها وتحديد روابطها لتنزيلها بعد الحصول عليها من مكتبة الإسكندرية والانترنت، وهذه تتجاوز الـ 100 ألف كتاب.
نوعيّة الكتب المرفوعة
لا يقوم علي مولا برفع الكتب على منتداه بشكل عشوائي، بل يقول في أحد مناقشاته على فيسبوك، "حاولت الابتعاد عن كتب الأديان التي تعج بها المنتديات، ويرفعها الكثيرون للتقرب من الله عز وجل، وكتب التنمية البشرية التي تداعب أحلام المراهقين بالثراء العاجل والحصول على أفضل فرص العمل، ومعظم كتب كيف تصبح كذا أو كذا بثلاثة دقائق ونصف، وكتب الطبخ طبعاً التي يؤلفها أشخاص غير مؤهلين، وليس لهم سابق معرفة بالصحة الغذائية، وأيضاً الكتب ذات التخصّص الضيّق التي لا تفيد إلا قلّة قليلة".
ويضيف، "العديد من الكتّاب العرب يتصلون بي، راغبين أن أرفع لهم مؤلفاتهم في صفحة فيسبوك (زاد المعرفة)، أو منتدى مكتبة الإسكندرية. لكني أعتذر بدبلوماسية وأتهرّب من رفع مؤلفاتهم، وذلك لأنني لا أرفع في صفحتي سوى كتب أعلام وقادة الفكر العربي والعالمي، الكتب التي أعتقد بجدواها، وأنها ستحقق فائدة لأكبر شريحة ممكنة من القراء".
سارق كتب أم فاعل خير؟!
يردّ مولا على صفحته الشخصية في فيسبوك على الاتهام الموجّه إليه بالتأثير سلباً على مبيعات الكتب المطبوعة "على العكس تماماً، فقد زاد توزيع الكتب التي تم رفعها على الشبكة، وذلك بسبب التعريف بالكاتب ومؤلفاته، فقد كان بعض الكتاب العرب غير معروفين، وما يتم توزيعه من كتبهم لا يتجاوز 100 نسخة، وبعد أن تعرف عليهم القارئ، من خلال الكتب الالكترونية، تضاعف توزيع عدد النسخ الورقية من كتبهم ".
وهو ما يتفق معه الروائي المصري صابر رشدي الذي قال لـ "عربي بوست"، إن الأمر لا يتعلق في قضية الكتب المقرصنة بالقانون أو الشرع، "فالمسألة جد مربكة".
وأضاف "أنت أمام كتاب يستريح فوق أحد الأرفف، كتاب مهم جداً، ولكن سعره يتجاوز الـ 200 جنيه، يحدث هذا كثيراً، فماذا ستفعل وأنت فقير، لديك أسرة وبيت ومصروفات أخرى، ولكنك تتمتع بثقافة خاصة، تتسع لها أحلامك ولا تتسع لها إمكانياتك المادية".
ويقول رشدي، "هناك أيضاً كتاب غير موجود في وطنك، حتى لو كنت تملك ثمنه، وكتاب آخر ممنوع من التداول، محظور تداوله نهائياً. القرصنة هنا تحل المشكلة، تتيح العلم والثقافة للجميع بضغطة زر، لا تحبس العلم، ولا تجعله سلعة محرمة على الفقراء، إنها تدفع الجهل بعيداً، وتتيح العلم والمعرفة والإبداع بضغطة زر، وتقرب إلينا أهم الأفكار التي كنا نود مطالعتها، فاتحة آفاقاً لم نكن نحلم بالوصول إليها، وداعية المثقفين الفقراء إلى أعظم مائدة في تاريخ البشر".
تقاعس دور النشر
الشاعر المصري أحمد سراج يرى أن المشكلة تكمن في تقاعس دور النشر العربية عن تلبية حاجة القارئ المتزايدة إلى الكتب المهمة التي يتعذر أن يصل إليها، كما أن معظمها يتجرأ على حقوق الملكية الفكرية ويغالي في أسعار الكتب، من هنا ظهرت الطبعات المقلدة التي تكون أفضل إخراجاً وأقل سعراً من الطبعة الأصلية الغالية دون مبرر، "ومن هنا ظهرت لدينا المكتبات الالكترونية التي تتيح الكتب بصيغة مصورة PDF غالباً، وظلت حتى بضع سنوات تركز على كتب التراث، وظلت تحمل أسماء مشروعات: المكتبة الوقفية، المكتبة الشاملة، لسان العرب".
ثم بدأت الكتب الحديثة تظهر على الانترنت مع طبعتها الورقية بشكل مجاني إما تقوم به دور نشر كنوع من الدعاية أو يتم مسحها ضوئياً دون الرجوع لأصحاب الحقوق.
وقد أثر هذا في صناعة النشر الالكترونية بالسلب لأن ثقافة القارئ صارت الحصول على الكتاب بالمجان، ما أجهض محاولات متعددة لدخول النشر الالكتروني الذي وصل إلى مراحل متقدمة في دول كثيرة.
ويدعو سراج في تصريحاته لـ "عربي بوست" اتحاد الناشرين العرب، إلى توسيع مظلته لتضم الناشرين جميعاً، وأن تصدر تشريعات بعدم طباعة أي كتب دون انضمام لنظام واضح، وما ينطبق على الكتب الالكترونية ينطبق على الورقية.
والأهم برأي سراج أيضاً أن يدعم اتحاد الناشرين تجربة النشر الالكتروني كما فعل اتحاد الناشرين الألمان، أما مسألة التشريعات فحين يلتزم بها الناشرون، فسيتم تقليل الفارق بين الأصلي والمقلد والمسروق، "وأظن أن الإعلام عليه تهيئة الأجواء للمسار السليم لا أن يصنع من اللصوص فرساناً، وأظن أن العبء الأكبر يقع على هذا الإعلام".
أكل عيش وشهرة للكاتب
يرى أحمد جلال – أحد باعة الكتب في سور الأزبكية بمعرض الكتاب – أن الأمر ليس بالخطورة التي يروجها الإعلام، "كل ما هنالك أن هناك موردين يعرضون علينا بعض النسخ من الإصدارات الجديدة التي يسأل عنها القراء باستمرار، ونقوم ببيعها بسعرٍ يكاد يكون أقل من نصف ثمنها في المكتبات الكبرى".
وأضاف، "على سبيل المثال كتاب (أحببتك أكثر مما ينبغي) في المكتبات بـ110جنيهات، ولكننا نبيعه هنا في حدود خمسين جنيهاً، وربما نتساهل مع الناس لنربح و(نأكل عيش) وفي نفس الوقت نساعد في ترويج وانتشار الكتاب".
ووجدنا على نفس "الفرشة" أن هناك كتباً مثل "فوضى الحواس" لأحلام مستغانمي بسعر 25 جنيهاً بينما يبلغ سعره بالمكتبات 70 جنيهاً، ورواية 1919 لأحمد مراد تباع بـ 20 جنيهاً فقط وكان ثمنها في دار الشروق حوالي 50 جنيهاً، وقس على ذلك.
ظاهرة جيدة ناتجة عن واقع سيء
يقول الكاتب أحمد عبد العليم صاحب كتاب "ثورة السلاحف" إنه يرى أن ظاهرة كتب PDF ظاهرة صحية ناتجة عن واقع سيء، خاصة في ظل الارتفاع المبالغ فيه لأسعار الكتب.
"بادرت بأمر مثل هذا مع كتابي (ثورة السلاحف) الذي صدر في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2010، ورفضت إصدار طبعة ثانية منه في 2011 وعملت منه نسخة PDF وجعلتها متاحة للجميع مجاناً، وأسعد تماماً عندما أجد مواقع الانترنت تنشر إصداراتي PDF، لأن الكاتب هدفه الوحيد أن يصل للمتلقي أو القارئ والغاية تبرر الوسيلة خاصة ونحن نتكلم في الثقافة والقراءة".
وتابع "أتمنى إن تبادر الدولة في مصر بطرح آليات من خلالها يتم تخفيض أسعار الكتاب حتى في دور النشر الخاصة ولو من خلال تخفيض الضرائب المفروضة عليها على سبيل المثال".
لا أحب أن ينشر كتابي PDF
تقول الكاتبة الشابة وصاحبة رواية "دودة القز" هبة الصغير، "أرى أن النسخ المقلدة مفيدة في حالة الكتاب الكبار وبخاصة غير المصريين، فمثلاً كتب هاروكي موراكامي غالية الثمن، ويمكن أن تشتريها من سور الأزبكية بـ 25 جنيهاً. وهذا مكسب لأنه في النهاية استطاع أن يصل للقارئ المصري الذي قد لا يكون معه ما يكفي ليقرأ كتاباً بـ 150 جنيهاً. أما الـ PDF فأنا ضده تماماً إلا لو كان بإذن الكاتب مثلما يفعل موقع عصير الكتب".
وتضيف، "أما على المستوى الشخصي فلا أحب أن ينزل كتابي PDF لما سوف يتسبب فيه ذلك من خسارة الكتاب وضعف نسب مبيعاته وبعد أن يحقق الكتاب مبيعات معقولة ويصبح قديماً من الممكن أن يتم تحميله PDF ولكن بإذن من الكاتب نفسه".
قانون الملكية غير رادع
مدير دار نشر "دوّن"، محمد مفيد يقول دار "دوّن" منذ نشأتها منذ 8 سنوات وهي تشارك في معرض القاهرة للكتاب، "ومنذ أول يوم لنا في المعرض يتم أخذ نسخ من جميع إصدارتنا الجديدة ويتم نسخها وبيعها في سور الأزبكية بالمعرض من دون أية رقابة أو سؤال، ويقومون ببيعها بأسعار زهيدة جداً لأنها غير مطابقة لمواصفات الجودة التي يقرها اتحاد الناشرين المصريين. والشيء نفسه بالنسبة لنسخ PDF".
ويختم، "لدينا قانون ملكية فكرية غير رادع ومليء بالثغرات ويتم تجاوزه وانتهاكه بسهولة، فمثلاً في كل عام أثناء معرض الكتاب نحصل على نسخ مزيفة من الكتب الخاصة بنا عند بعض الباعة فنقوم بعمل محاضر ونبلغ المسئولين ولكن لا شيء يحدث ويستمر التزوير والقرصنة".