يخيل إليّ أحياناً أن الحب هو الطاقة التي بثت في هذا الوجود ليستقيم، ثم بثت معه روافده التي يستقي منها قوته، كالشمس والقمر والأزهار والطبيعة الخلابة وكل وجه حسن في الوجود.
والحب ليس مفرداً بذاته، ولكنه آخذ من كل شيء حوله أجمله، ثم تنصهر هذه الأشياء بداخله، فيستقيم مع معانيها السامية الفاتنة ويلفظ ما دون ذلك.
ولا تتعجب من وصف الحب بالسهر والأنّات والوجع، فهذا مبلغهم من العلم، إذ يعرف الشيء بمدلوله، أو عمله في الحياة.
وكل تعريفاته تدور حول ذلك، لكن الولوج إلى كنهه فلم أره، وكأنه النار التي يصعب تحليلها إلى جزيئات لتدّرس في درس جاف الروح، منزوع الحس، باهت الوجدان.
ومن غرائب الحب أن اجتهد البعض لتعريفه فخرجوا بالوله والهيام والشغف!
ولعمرك ما تعريفاتهم إلا كمن عرّف السيف بالحسام، والحديث بالكلام، فكلها دائرة حوله لم تبعد، تصف عمله لم تزد.
لكـن الحب سر مكنون أو طلسم مبهم تظهر آثاره ويستتر خلفها لا يبالي.
وهل السهد وطول الفكر والأرق وملازمة الطيف إلا دليل على وجوده دون الوصول إلى سره وسر هذا القلب!
إنه كالوجع الذي يستتر خلف آهات المريض دون رؤيته أو لمسه، فلا يُنزع باليد، ولا مقارعة الدواء، ولكن بالصبر عليه.
ومن غرائبه أنه استحدث للتعبير عنه قاموسه الذي يُعَبر به عنه، معرضاً متعالياً عن كل كلمة جافة لا تناسب رونقه ودلاله. حتى في شدة وطأته المؤلمة لم يشأ إلا يخرج حرفاً إلا إذا تشبّع بمرارة التجربة مغموساً في آلمها.
لذلك فالعاشق عندما يكتب، وتصفو نفسه لوصف ما فيه فإنما يُمسك القلم بقلبه، فتختلط دموعه بحبر قلمه فتخرج صفحته ولا تكاد تصل إلى فهم جملة واحدة لاختلاط الحبر والدمع معاً.
وهكذا الحب دائماً بآلامه وأضغانه وتباريحه وصورته في أغلب الأحيان.
ويتوهم العاشق وكأنه هو صاحب هذه الكلمات التي خطتها يداه، أو هي من اختلاق روحه الصافية وحسه المرهف ونفسه العاشقة.. كلا!
فإن قلب العاشق إذا رسخت فيه العاطفة بمعانيها فإنما تتصل روحه بالطبيعة من حوله، فتُلقي في نفسه سراً من أسرارها وشيئاً من جمالها، فتخرج منه الكلمات وردية من حيث المنظر، مشرقة كالصباح الربيعي من حيث طبيعته، يتلألأ من حيث معانيه التي يحملها.
وهكذا توحي إليه الطبيعة الفاتنة وكأنه بين يدي أستاذه يقول له: اكتب عني.
وليت شعري عندما تكتمل قصيدته المؤلمة، وينضب معين مأساته القلبية، ويترك قلمه، ثم يعود فيقرأ وحي الطبيعة، أكتب عشقاً في محبوبته، أم تغزل في الطبيعة نفسها.
إذ إن الطبيعة توحي كلاماً لم يُكتب من قبل ولم يقرأ، وإنما هو نهاية طبيعية لاتصال منطقي بين طبع العاشق وطبيعة العشق والجمال.
وانظر كيف يثُلج الصدر ويبتهج القلب وتنتعش الروح وتُبَث فيك نفسا جديدة عند اتصالك هذا، وتتنزل على قلبك آيات الجمال فتغمر روحك مشاعر تعجز حروفك عن إبدائها أو التعبير عن معانيها بقاموسك اللفظي المعتاد.
إن الكلمات الباهتة التي يلوكها اللسان ويلفظها الفم كأنها بصقة والتي يسميها البعض زوراً غزلاً وعاطفة، إنما هي الشين بعينه، وعيب المحبوب بذاته، فشتان بين من يتكلم بلسان قلبه ومن يتكلم بقلب لسانه، وهذه حقيقة مؤسفة أن تخرج الألفاظ العاشقة من الحلق مشوهة، خالية من المعنى الصادق، ثم تلبس ثوب النفاق العاطفي وتُصَدّق.
والحب هو "هي" إذا مال القلب لها وشغفت النفس بها، وانخلعت من وجودك لوجودها ولم تر في السماء من شمس ولا قمر سواها، ولم تأنس بالوسن إلا إذا التحفت بجفنيك إذا أغمضتهما.
فهي الحب، ومن أجلها كان، وهو ثوبها الذي حاكته الأماني بخيط من شعورك الصادق وأمنيتك القلقة المزعجة المؤلمة أن تفارقك.
وهي الألم المتوهج إن رحلت.. وقد كان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.