العبودي.. إدمان الترحال والكتابة

كنت -وأنا لابث في مكاني- أسافر معه كل يوم إلى مكان. فمرةً في الصين.. أحسو معه الشاي بدون سكر، ومرة في البرازيل التي شغفته حباً، ومرة في كشمير، وأخرى في السنغال، وتارة في غينيا الاستوائية، ومرة أكون معه في وفد رسمي إلى تايوان، كانت جولاته العجاب في أطراف الأرض وأركانها شيئاً يداعب أحلامي، ويدغدغ رغبة بفعل المثل، لا أدري إن كان في القدر أن أبلغها أو عشرها..

عربي بوست
تم النشر: 2015/11/20 الساعة 02:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/11/20 الساعة 02:50 بتوقيت غرينتش

بطاقة شخصية:

محمد بن ناصر العبودي، عالم وأديب ورحالة ورجل دولة ودعوة معاً، ولد عام ١٣٤٥ هـ في القصيم، وشغل مناصب رفيعة، كان منها: أمين الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وأمين المجلس الأعلى للدعوة بالمملكة العربية السعودية، وكان آخرها: الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي، مؤلف مكثر، كتب المئات من المؤلفات في اللغة والأدب والرحلات والأنساب وغيرها، ويسكن حالياً بمدينة الرياض، ولا يزال متمتعاً بالصحة وعاكفاً على التأليف حتى يومنا هذا.

إدمان الترحال والكتابة:

كان عمره حينها فوق السبعين.. وكان عمري عشر سنين بالضبط، حين رأيتُ كتاباً عنوانه "زيارة لسلطنة بروناي الإسلامية" في مكتبة منزل خالتي، أخذت أقرأ في ذلك الكتاب مستمتعاً بالصور الملونة، والأسلوب السهل الذي لم يبلغ ذهني -في ذلك العمر- مرتبة إدراك كونه ممتنعاً بالإضافة إلى سهولته.

لا أزال أذكر ضحكتي الأولى حين قرأتُ وصفه للقارب الذي أبحر بهم في البحر وقد ارتفعت مقدمته وغاصت مؤخرته بفعل ثقل المحرك؛ فذكر المثل القديم: "أنف في السماء واست في الماء".

ولا أزال أتذكر دهشتي، بل وصدمتي، حين طالعت على ظهر الكتاب ذاته قائمة بالمؤلفات المخطوطة في أدب الرحلات للمؤلف ذاته، كانت مكتوبة بخط دقيق ليتسع الغلاف لنحو مئتي كتاب!

ولا أزال أذكر كيف كنت أستغل انشغال أستاذي الشيخ عبدالمالك بالتحضير لدرسنا في حلقة القراءات بجامع الخياط، فأفر إلى مكتبة الحرم المكي الشريف المقابلة للجامع، كي أقرأ ما تيسر من أسفار العبودي التي دون فيها أسفاره. وخير الأسفار ما خُط في الأسفار!

كنت -وأنا لابث في مكاني- أسافر معه كل يوم إلى مكان. فمرةً في الصين.. أحسو معه الشاي بدون سكر، ومرة في البرازيل التي شغفته حباً، ومرة في كشمير، وأخرى في السنغال، وتارة في غينيا الاستوائية، ومرة أكون معه في وفد رسمي إلى تايوان، كانت جولاته العجاب في أطراف الأرض وأركانها شيئاً يداعب أحلامي، ويدغدغ رغبة بفعل المثل، لا أدري إن كان في القدر أن أبلغها أو عشرها..

المدهش، والذي لا يزال مدهشاً إلى اليوم، أن العلامة الرحالة العبودي، الذي يخجل ابن بطوطة من نفسه لو طالع قائمة مؤلفاته وعرف ما زاره من البلدان، والتي تشمل العالم كله عدا قطر، المدهش.. أنه يكتب كما يتنفس، ويؤلف كما يتغدى، ويجد في نفسه جلداً على أن يحبس ظلال أسفاره الكثيرة بتفاصيلها في قراطيسه، ويخرجها لك في حلل رائقة.. على ذات النسق البديع السياب الذي لا يختلف ولا يتفاوت مع مرور العقود وتوالي العشرات من السنوات.

والأكثر إدهاشاً أن العبودي حين أصدر كتابه الأول لم يكن يظن أنه سيلاقي الاستحسان الذي لقيه، ولا كان في نيته أن يكتب المزيد عن أسفاره..

ذلك أنه حين أصدر كتاب الرحلات الأول "في إفريقية الخضراء، مشاهدات وانطباعات عن الإسلام والمسلمين" لم يتوقع أن يلقى الكتاب ذلك الصدى الذي بلغ من دويّه أن ما كُتب عنه لو جمع لكان كتاباً آخر!

وهناك ألح الملحون على المؤلف، وراودوه عن قلمه، يسألونه أن يكتب المزيد من الكتب التي تحكي عن أسفاره الكثيرة التي فرضها عليه عمله في الدولة.

عندما أكثر عليّ القوم من ذكر الكتاب، يسألونني عما فعلت في رحلاتي التي تلت رحلتي إلى إفريقية، ويسألونني أين أشقاء هذا الكتاب؟ ولماذا يكون فرداً ومؤلفه قادر على الإنجاب؟ وكيف تذره دون شقيق يشد عضده، ويستمر فيما بعده؟

فأقول لهم: يا قوم؛ إن للكتاب إخوة آخرين ولله الحمد ولكنهم من أم غير أمه، وفي موضوع غير موضوعه، كبر من أولئك الإخوة ما كبر، وصدر منها عن المطابع ما صدر.

ولكنهم يتساءلون عن هذا الموضوع بالذات؛ موضوع الرحلات، وموضوع الحديث عن المسلمين في أقطارهم البعيدة، وأمصارهم العديدة.. (وراء المشرقين، ١٥)

وقد أثمر السؤال والإلحاح مئات من الكتب في الأسفار التي غطت العالم من رأسه حتى أخمص قطبيه!

والعبودي مدرسة في اختيار عناوين مؤلفاته، فهي تكاد تصير أمثالاً لولا أنها عناوين كتب.. انظر عنوان: "القلم وما أوتي.. في جيبوتي"، أو "تائه في تاهيتي"، أو "التعليق.. على السفر إلى أقطار البلطيق"، و"تلبية الندا.. لزيارة كندا".. وانظر إلى العنوان الذي كاد أن يصير فلماً متحركاً: "خلال أوكرانيا بحثاً عن المسلمين"، و"فوق سقف الصين"!

وحين تقرأ للعبودي كتاباً من كتب الرحلات تشعر معه بالتعب إذا أدركه، وتضجر معه حين يضجر، وتشاهد بعينيك من خلال السطور وصف "الجواء"، وتقويم شأن الطائرة، ومهارة الطيار، وجمال المضيفات، وجودة الخدمة، وطعم الوجبة المقدمة فيها. ثم تقرأ ملامح الناس في المطار، من الضباط والحمالين والمنتظرين، ثم تتأمل برفقته الذريق من المطار إلى البلد.. وتشاهد الأرصفة والطرقات والأشجار والزحام، والناس والبنيان، والأسواق، في انطباع أولي بعيون خبيرة، وقلم بارع ينقل لك كل هذا في سطور معدودة.. ثم إنك لتعيش في غرفة الفندق، وتعرف مبلغها من الفخامة، وتدرك إن كان الفندق يستحق أربع نجوم أم خمساً، وإن كانت خمساً فهل هي من الطبقة العليا أم الدنيا!

ولولا أنْ قرأتُ العشرات مما رقمته يدا العبودي؛ لما صدقت أن بوسع كلمات مكتوبات على ورق.. أن تنقلك حول العالم وأنت لابث في محبس الوطن.

ولولا أن رأيتُ طائفة من تلك المؤلفات أمام عينيّ؛ ما هضمتُ أن ثمة إنساناً يبلغ به الجلَدُ على الكتابة هذا المبلغ العجاب، الذي يعرفه من يعاني الكتابة ويقاسيها.

ولو لم يكن للعبودي من المؤلفات إلا كتب الرحلات لكفاه ذلك فخراً وأثراً يخلده في تاريخ الأدب العربي علماً غير مسبوق غزارة قلم وروعة سبك. فكيف لو علمت أن هذه المؤلفات في الرحلات ليست إلا جانباً من جوانب ما كتب، فله معاجم عدة في أنساب أسر القصيم وعوائلها وتأريخ أعلامها.. في عشرات من المجلدات، وله معاجم لغوية عدة في موضوعات فريدة، يبلغ أحدها ثلاثة عشر مجلداً، وهو معجم الأصول الفصيحة للكلمات الدارجة!

فإن زعم أحدهم.. من ذوي المقالة والمقالتين، أو الكتاب والكتابين، أو التغريدات المجموعة في شيء يدعى كتاباً.. إن زعم واحد من أولئك أنه كاتب؛ فقل له: شتان بين الثرى والعبودي!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد