تجولت في مدينة الإسكندرية عندما زرتها ليلًا ونهارًا دون ملل، والفَطن من يفرق بين الليل والنهار ويتقى بحسه النبيه أن يخطفه الوقت دون أن يدري وهو بين أحيائها الجميلة، وقد تركت لروحي مطلق الحرية في أن تستقي من معالمها الرائعة ما يفيض عن استيعاب مشاعري.
أمضيت هناك أسبوعًا واحدا من عمر الزمن .. لكنه دَهرًا في عمر الحضارة والقيم، ما نهيت نفسي عن الاستمتاع بمفاتنها، فلها سحر غريب متقنه منسقة بإبداعٍ عجيب، وكأن رساماً هاوياً مبدعاً رسمها على لوح التأمل قبل أن يشيدها بحسه المبدع لحضارة قائمة، فمبانيها ومعالمها، تسحر القراء إذا ما لامستها أعينهم.
منسقة كحروف هجاء نُقشت بريشة التأني تتبارى بينها بود تصنع متضادات ترضي كل ذوق دون أن يتفق عليها ذوقان إلا بعد اختلاف آراء حام الوطيس، تتفقد مبانيها فيحار الفكر، فمنها ما أسدل الزمن عليها من عطائه وذكرياته عطاء من زهد فلم يبقِ شيئاً.
لن تملأ عيناك منها أبدًا، مبان موغلة في القِدَم ترسم الماضي بفن عمارته وأسلوب حياته، تقف شامخةً تحدثك سرًا حديث الود، تنادي بصوتها الخافت: يا زائري .. هنا قامت حضارات ومن هنا مرت, صورة خلابة لما ننته بعد من رسمها إذ أنها لن تكتمل وحدها، فهده الأصالة بروعتها هي أروع وأجمل حين تتسع دائرة التأمل فتتلمس بحسك المفتتن مبان شامخة تزينت بكل ما يتسع له المقام من فن العمارة الحديث.
فيها من حسن الصُنع وبراعة التركيب والبناء ما فيها، لولا أنك تراها رأي العين لقلت هي مجسمات كرتونية يستحيل على عاقـل أن يُشغلَها مكانا، يتجاور البناءان القديم والحديث لا تجاور جدران وحيطان، بل تجاور الأصالة والإبداع، تجاور الماضي والحاضر والسابق واللاحق، لا يطمس أي منهما حقاً للآخر، فكل له جمهوره ولكل عشاقه، وكلاهما ينطق بما يعلم وبما يهوى دون أن يمنعه الآخر أو يسفهه, بل تجد الواحد منهما دون الآخر ناقصا صما يتلعثم حتى في الإفصاح عن كينونته، فكيف لمن يجهل ماضيه أن يجد مستقبله؟ أو لمن أهمل حسابات المستقبل أن يفخر بماضيه؟
هو التكامل فالحديث بزهاء ألوانه وفنون تصاميمه وتعدد مكوناته يرمم القديم عاكساً عليه من هذا المزيج الحضاري الراقي ما يخفي شيئاً من تلك التجاعيد الموهنة، وأما القديم فبحياء أصالته يبرق على الحديث وقارا ووجاهة وهيبة، ويسقيه من عذب خبرته ما لا يتسع العمر لتجربته، وييسر له مهمة الثبات شامخا بنصيحة بذل لأجل الخلاص لها ثمنٌ تنوء العصبة أولي القوة بأمانته، وطوي في سبيلها جيلٌ أو نحو ذلك.
لو أمضيت عمراً كاملاً تقرأ ما في البناءان من روعة التجاور، وتكتب دهراً كاملاً عن التكامل بينهما والتناسق والتداخل في خطوط حضارتهما وتباين أفكار من شيدوهما فلن يكفيك، وإن حاولت عابثا أن تفك طلاسم تقاطع خطوطها المتداخلة عقَّدتك، فلن تحسن الخلاص منها أبداً، إذ أنك تقرأ حضارتين فرَّق بينهما زمان عظيم.
مدينة الإسكندرية الجميلة غرقت بمياه الأمطار والمياه العادمة قبل أيام، نتيجة إهمال واضح يمثل جريمة حقيقية في حق هذه المدينة العريقة والأصيلة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.