عالمٌ صوفيٌ، وفيلسوفٌ إسلاميٌّ ذو نزعة إنسانية، بالإضافة إلى كونه قائداً عسكريّاً مدهشاً، هذه صفات اجتمعت في الأمير عبد القادر الجزائري، ذلك الرجل الذي بدأ حياته شيخاً للطريقة القادرية الصوفية، ثمّ عالماً ومجاهداً وقائداً للمقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، ثم رجل سلم ومصالحة بين المسلمين والمسيحيين في سوريا.
ألهمت سيرته الأعداء قبل الأتباع، فغيّرت مدينة أمريكية اسمها لتحمل اسم الأمير عبد القادر، تقديراً لمقاومته وبطولاته، بينما شيّدت فرنسا، التي حاربها لـ17 عاماً، تمثالاً تذكارياً يخلّد الأمير عبد القادر.
أراد البعض جعل الأمير عبد القادر أميراً على الشام، بينما أرادت فرنسا جعله ملكاً على الجزائر، لكنّ الأمير رفض العرضين.
لم تسلم سيرة البطل الجزائري من التشويه، فاتُّهم تارة بالماسونية، وأخرى بعلاقته مع نابليون الثالث، كما لامه البعض على استسلامه، فما قصة الأمير عبد القادر الجزائري؟
من هو الأمير عبد القادر؟
هو الأمير عبد القادر ناصر الدين ابن الأمير محيي الدين الحسيني، تذهب بعض المصادر التاريخية إلى اتصال نسبه مع سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- الحسن بن علي.
وُلد الأمير عبد القادر في 6 سبتمبر/أيلول عام 1807 في قرية القيطنة، التابعة لأيالة وهران في جزائر الغرب، وتنتسب عائلته إلى الأدارسة الذين يمتد نسبهم للنبي محمد، وكانوا حكاماً في المغرب العربي والأندلس، وكان والده محيي الدين شيخاً للطريقة القادرية الصوفية في الجزائر.
حفظ القرآن الكريم صغيراً، إذ لم يكن تجاوز عمره الـ11 عاماً عندما أتمّ ذلك، ليتوجه إلى مدينة وهران ليتعلّم على يد علمائها، وفي عام 1825 أدى فريضة الحج رفقة والده، وهناك كان أوّل احتكاكٍ بين الأمير عبد القادر وبلاد المشرق العربي.
في سنة 1830، بدأت فرنسا غزوها للجزائر؛ لتبدأ المقاومة الشعبية الجزائرية للمحتل الفرنسي، فلم تتأخر الطريقة القادرية عن ركب الجهاد ضد المستعمر الفرنسي.
الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية وأوّل قائد للمقاومة ضد المحتل الفرنسي
في العام 1832، أجمع الجزائريون على اتخاذ أميرٍ لهم ليقود جهادهم ضد الفرنسيين واتجهوا إلى محيي الدين الحسيني من أجل مبايعته، لكن محيى الدين رفض وأشار للمبايعين إلى ولده الذي كان يرى فيه أفضل قائد ممكن للمقاومة الشعبية الجزائرية.
في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1832م، بايعت القبائل الجزائرية الأمير عبد القادر أميراً للجهاد ضد الفرنسيين، كان ذلك في مسجد الحسن، في عين البيضاء بولاية معسكر غربي الجزائر.
وعقب مبايعة الجزائريين له، اتخذ الأمير عبد القادر من مدينة معسكر عاصمة لدولته الفتية، وسارع في توحيد صف القبائل، وتنظيم شؤون الإدارة بالمناطق الجزائرية، وسكّ العملة الجزائرية، وكذا محاربة أشكال الفساد والنهب المتفشية، بالإضافة إلى بناء جيش وصناعة سلاحه وتصميم رايته، والانطلاق بعدها في المقاومة، ليكون الأمير عبد القادر المؤسس الفعلي للدولة الجزائرية الحديثة.
أمام قوة وتنظيم مقاومة الأمير عبد القادر، والتي أجبرت الفرنسيين على البقاء على تخوم الساحل الجزائري، اضطرت فرنسا إلى عقد اتفاقية دي ميشيل (سميت باسم الجنرال الفرنسي الذي وقّعها) سنة 1834 مع دولة الأمير عبد القادر التي اعترف من خلالها بسيطرة الأمير على غرب وجنوب الجزائر.
لكن لم يمضِ عام واحد حتى نقض الجيش الفرنسي هذا الاتفاق، ليعلن الأمير عبد القادر "الجهاد" ضد المحتل الفرنسي، ويكبّد الفرنسيين خسائر كبيرة في معارك المقطع، التافنة، السكّاك.
لتُجبر فرنسا مرة أخرى على عقد هدنة ثانية مع الأمير عبد القادر بعد 3 سنوات من المعارك الطاحنة، ففي سنة 1837م وقّع الأمير عبد القادر مع المحتل الفرنسي معاهدة التافنة، التي اعترفت من خلالها فرنسا بسيادة الأمير عبد القادر على غرب الجزائر.
استغلت فرنسا تلك الهدنة لطلب التعزيزات، وإخماد ثورة شعبية جزائرية كانت مندلعة في الشرق بقيادة باي قسنطينة أحمد باي.
بعد نجاحها في التغلب على مقاومة الجزائريين في الشرق، عاد الجيش الفرنسي بكل قوته من أجل ضرب مقاومة الأمير عبد القادر في مرحلة ثانية وحاسمة بدءاً من سنة 1939، حيث قامت القوات الفرنسية بهجوم عنيف على المناطق التي تحت يد الأمير، نتج عنها خسائر بشرية هائلة وتدمير البيوت والحقول الزراعية.، خلال هذه المرحلة استعملت فرنسا سياسة الأرض المحروقة، فأبدت كل قبيلة أو قرية تدين بالولاء للأمير عبد القادر في طريقها لاحتلال الغرب الجزائري.
فرنسا تضيّق على الأمير عبد القادر وتجبره على الاستسلام
بدأ الأمير عبد القادر في خسارة مناطقه رويداًً رويداً، فابتكر عاصمة متنقلة له أطلق عليها "الزمالة"، تتحرك معه ومع جنوده في المعارك، وضيق عليه الجيش الفرنسي الخناق، فلم يجد من ملجأ إلّا الفرار إلى المغرب والاستنجاد بسلطانها، لكن أمام الضغط الفرنسي الكبير الذي مورس على المغرب حينها، رفض السلطان مولاي عبد الرحمن بن هشام بقاء الأمير في التراب المغربي.
وأمام هذا الوضع، قرر الأمير عبد القادر الاستسلام للسلطات الفرنسية في 2 ديسمبر/كانون الأوّل عام 1847.
اشترط الأمير عبد القادر على الفرنسيين مقابل استسلامه أن يُسمح له بالانتقال إلى الإسكندرية أو إلى مدينة عكا، ولكن تم نقله إلى فرنسا.
وطيلة سنوات المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي، عُرف عن الأمير عبد القادر – بشهادة المؤرخين الفرنسيين – احترام العهود، وحسن معاملة الأسرى؛ لكن فرنسا، لم تُبادله الصفات ذاتها. فبعد استسلام الأمير لم تنفذ شروطه، فنُقل إلى فرنسا حيث زُجّ به في سجن لو أمبواز.
ومن حسن حظّ الأمير عبد القادر أن سقطت الملكية، وصار نابليون الثالث رئيساً للجمهورية الفرنسية، الذي قرر إطلاق سراحه من السجن، ونفيه إلى الباب العالي في إسطنبول.
الأمير عبد القادر ينقذ آلاف المسيحيين ويقف في وجه احتلال فرنسا المبكر لدمشق
غادر الأمير عبد القادر فرنسا باتجاه مدينة بورصة العثمانية التي استقرَّ فيها لوقت قصير، قبل أن ينتقل بعدها إلى مدينة دمشق التي استقرَّ فيها سنة 1956، وقد وقع اختيار الأمير عبد القادر على دمشق؛ بسبب إعجابه الشديد بها منذ زيارته الأولى لها مع والده أثناء رحلتهما إلى الحج في شبابه، وأقام في دار القباقي، وكان يُلقي دروساً دينية في المسجد الأموي، أو في دار الحديث النووي.
وبعد 4 سنوات من إقامته بدمشق، وبالضبط في سنة 1860، اندلعت في جبل لبنان الواقع آنذاك تحت الحكم العثماني، أحداث عنف بين طائفة الموارنة المسيحيين والدروز، ما أدى إلى اقتسام المنطقة بين شمال وجنوب لكلٍّ حاكمه، وأدى ذلك إلى تدخل بشكل غير مباشر لفرنسا وبريطانيا بذريعة حماية الأقليات الدينية، ففي حين حملت فرنسا لواء الدفاع عن الموارنة المسيحيين، دعمت بريطانيا الدروز رداً على الفرنسيين.
وسط هذه الأجواء المشحونة، تشكَّلت فرق شبه عسكريَّة من الدروز والمسلمين، وبدأت في الهجوم على الموارنة الذين كانوا يشكِّلون أقليَّة، وبدأت عمليات القتل والنهب والتخريب وحرق الكنائس.
ليتدخَّل الأمير عبد القادر بالتنسيق مع المهاجرين الجزائريين المقيمين في دمشق، برفقة العائلات الدمشقية العريقة، ويفتحوا بيوتهم للمسيحيين للاختباء بها طيلة أسبوعين.
تشير تقديرات إلى أن حوالي 15 ألف مسيحي اختبأوا في هذه البيوت، ونجوا من الموت المحقَّق، ومن بين هؤلاء الذين حماهم الأمير، الرهبان والراهبات والقناصل الأجانب، كما أمَّن الأمير ومساعدوه الطرق والمسالك للمسيحيين الفارين من دمشق إلى بيروت، وساعدهم بالحراسة والحماية، وهو ما أدَّى إلى نجاة مئات المسيحيين اللاجئين من الموت.
أفشل تصرف الأمير عبد القادر الحكيم، محاولة فرنسا احتلال دمشق حينها، بعد أن كانت تنوي إرسال جيشها إلى دمشق بحجة حماية الموارنة.
بحسب ورقة بحثية بعنوان "دور الأمير عبد القادر الإنساني في أزمة الشام الطائفية سنة 1860م" للباحث سعد طاعة، تعاقبت الإشادات الدولية بالأمير عبد القادر على عمله البطولي في حماية أرواح آلاف المسيحيين في دمشق، فقدمت روسيا له الصليب الأكبر للنسر الأبيض، والسلطة العثمانية منحته وسام المجيدية من الدرجة الأولى، وفرنسا التي أرسلت له الوشاح الأكبر لجوقة الشرف.
بينما أطلقت مدينة أيوا الأمريكية اسمه عليها تخليداً لأعماله وسيرته.
وفي الوقت الذي علت أصوات تعيين الأمير عبد القادر أميراً على منطقة الشام، ومحاولة نابليون الثالث إقناعه بإعلانه ملكاً للجزائر، لم ينجُ الأمير عبد القادر من حملات التشويه، إذ اتُّهم بالانضمام إلى الماسونية، وهي الفكرة التي نشرها العقيد الإنجليزي هنري تشرشل في كتابه حياة الأمير عبد القادر، كما اتهم الأمير بعلاقته مع نابليون الثالث، الذي كان معجباً جداً بشخصية عبد القادر الجزائري.
في 24 مايو/آيار 1883 توفي الأمير عبد القادر في قصره قرب دمشق عن عمر يناهز 76 عاماً، ودُفن بجوار الشيخ ابن عربي، تنفيذاً لوصيته، وفي عام 1965 نُقل جثمانه إلى الجزائر ودُفن في المقبرة العليا.