يُعتبر كريم عبد الجبار أحد أكبر أساطير رياضة كرة السلة الأمريكية، وأكثرهم تتويجاً بالألقاب الفردية والجماعية. وقد شكّل تحوّله من المسيحية إلى الإسلام، في بداية سبعينيات القرن الماضي، صدمةً كبيرةً لجمهور الرياضة العالمي، من دون أن يؤثر ذلك على مساره الاحترافي.
وقد شكّلت قصة اعتناقه الإسلام مصدرَ إلهامٍ بالنسبة إلى عددٍ كبير من معجبيه، تماماً كما ألهمته السيرة الذاتية للمناضل الأمريكي من أصل إفريقي "مالكوم إكس"، وجعلته يتعرّف أكثر إلى الدين الإسلامي.
وُلد كريم عبد الجبار يوم 16 أبريل/نيسان 1947 في مدينة نيويورك الأمريكية، تحت اسم فرديناند لويس ألسندور جينيور، وكان الابن الوحيد لوالديه فرديناند وكورا دوغلاس اللذين هاجرا من جزيرة ترينداد في البحر الكاريبي ليستقرّا في حي "هارلم" بنيويورك، قبل أن ينتقلا للعيش في حي "انوود".
ولمن لا يعرف، فإن غالبية سكان حي "هارلم" من أصولٍ إفريقية. أما حي "انوود"، فيضمّ سكاناً من مختلف الثقافات.. ما سمح للطفل فيرديناند لويس التعرّف على ثقافاتٍ مختلفة، ساهمت في تكوين شخصية كريم عبد الجبار الرافضة للعنصرية، لاحقاً.
رحلة كريم عبد الجبار إلى عالم الاحتراف
نشأ فيرديناند لويس وسط عائلةٍ كاثوليكية متديّنة؛ وكان والده يعمل شرطياً، فتلقى الطفل تربيةً صارمة، تعتمد أساساً على الانضباط وضرورة التركيز على الدراسة من أجل النجاح في الحياة.
سعى والدا فرديناند لويس ألسندور جاهدين لوضعه في أحسن المدارس، ومساعدته على النجاح في الدراسة. وبالموازاة، كان حبّه لرياضة كرة السلة بدأ يظهر بشكلٍ واضح. وبحكم قامته الطويلة، مقارنةً بأقرانه، لم يلعب ضمن فريق صفّه (السنة الخامسة)، بل مع فريق السنة الثامنة.
ففي عامه الـ11، كان يبلغ طول فرديناند 1.86 متراً، حتى وصل في سنّ الـ14 إلى المترين و3 سنتم، الأمر الذي ساعده على التألق في كرة السلة بشكلٍ لافتٍ، ودفع بالتالي المدارس الثانوية للتهافت عليه وإغرائه بمواصلة دراسته داخل أقسامها.. فاختار الانضمام إلى ثانوية "باور ميموريال" في حي "مانهاتن" بنيويورك.
كانت تلك الثانوية وما زالت شهيرة بفريقها لكرة السلة؛ وعند التحاقه بها، وجد الفتى فرديناند لويس في انتظاره المدرب الكندي جاك دونوهو، الذي سيصبح لاحقاً المدير الفني لمنتخب كندا، والذي أشرف على تطوير قدرات فرديناند الفنية وضمّه لفريق الثانوية، فور التحاقه بها.
وبعد عامٍ واحدٍ فقط، قاد فرديناند لويس ألسندور فريق الثانوية للتتويج بلقب دوري ثانويات ولاية نيويورك في ثلاثة مواسمٍ متتالية. لكن تألقه الفعلي بدأ منذ عامه الدراسي الأول في جامعة لوس أنجلوس، حيث فرض نفسه ضمن التشكيلة الأساسية لفريق الجامعة الذي تُوّج بلقب دوري الجامعات للولايات المتحدة الأمريكية، ونال جائزة أفضل لاعب لثلاث سنواتٍ متتالية محققاً إنجازاً فريداً.
وسط كل هذا التألق، كان من المنطقي أن يتلقى ألسندور بعض العروض المغرية من أنديةٍ محترفة، فاختار الشاب البالغ طوله 2.18 متراً الانضمام إلى نادي "ميلووكي باكس" من ولاية ويسكونسن، الذي تعاقد معه لمدة 5 سنوات.
ولم يجد لويس ألسندور أي صعوبة في التأقلم مع عالم الاحتراف؛ فتم اختياره كأفضل لاعب جديد بدوري المحترفين الأمريكي (NBA) في موسم 1969-1970، ثم أفضل لاعب بالدوري في الموسم التالي، إضافةً إلى لقب أفضل هدّاف برصيد 2596 نقطة، بمعدّل 31.7 نقطة في المباراة الواحدة، كما قاد فريقه للتتويج بلقب الدوري.
من فرديناند إلى كريم عبد الجبار.. كيف اعتنق الإسلام؟
في 1 مايو/أيار 1971، أي اليوم التالي لفوز فريقه على نادي بالتيمور في نهائي دورة اللقب (بلاي أوف)، أعلن فرديناند لويس ألسندور تغيير اسمه إلى كريم عبد الجبار، مؤكداً اعتناقه الإسلام، بعد سنوات عدة من البحث والدراسة.
وأوضح عبد الجبار أنّه كان قد بدأ يفكّر في اعتناق الإسلام منذ عام 1966، في سنته الجامعية الأولى، وذلك بعد قراءته السيرة الذاتية لمالكوم إكس.
وكان إكس ناشطاً سياسياً يدافع عن الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد اعتنق الإسلام بعد دخوله السجن سنة 1946 بتهمة السرقة، ثم انضمّ إلى حركة "أمة الإسلام" التي كان يتزعمها إليجا محمد.
ولدى خروجه من السجن في منتصف عام 1952، سرعان ما أصبح شخصية قيادية بارزة في الحركة، بفضل فصاحته وقدراته الخطابية المميزة.
ولكن مالكوم إكس، وبعدما حجّ إلى بيت الله الحرام سنة 1964، خرج من حركة "أمة الإسلام" وغيّر اسمه إلى الحاج مالك الشباز، مواصلاً نضاله من أجل الحقوق المدنية للأمريكيين من أصول إفريقية حتى وفاته مقتولاً بالرصاص يوم 21 فبراير/شباط 1965. حدث ذلك خلال تجمُّعٍ له داخل إحدى القاعات في مانهاتن، وقد أُدين بقتله 3 أشخاص من حركة "أمة الإسلام".
وقد روى كريم عبد الجبار قصة اعتناقه الإسلام في تصريحات نقلها عنه موقع Foster's Daily Democrat الأمريكي. وقال فيها: "في ربيع عام 1966، عندما كنت طالباً في جامعة لوس أنجلوس، قرأت السيرة الذاتية لمالكوم إكس. وعندما انتهيت من الصفحة الأخيرة، عرفتُ أن حياتي قد تغيّرت إلى الأبد".
وأوضح عبد الجبار أنه تأثر كثيراً بفقرةٍ محدّدة من كتاب مالكوم اكس، جاء فيها على لسان إكس: "أتذكر أنّه في أحد الأيام، كان كوباً من الماء القذر على المائدة. وضع السيد محمد (يقصد إليجا محمد) بجانبه كوباً نظيفاً من الماء، وسألني: "أتريد أن تعرف كيف تنشر تعاليمي؟"، ثم أشار إلى كأس الماء وقال: "لا تسخط إذا رأيتَ شخصاً لديه كوب ماءٍ متّسخ، فقط أرِه كوب الماء النظيف. وعندما يقوم بفحصه، لن تضطرّ إلى القول إنك الأفضل".
وتابع عبد الجبار موضحاً سبب إعجابه بتلك الفقرة، قائلاً: "كان عمري 19 عاماً فقط، لكني عرفتُ أني كنت أشرب من هذا الكوب المتسخ معظم حياتي.. كان هذا هو الوقت الذي كان فيه معظم الأمريكيين السود يمسكون بكوب الماء، ويقولون إنهم سئموا انتظار أمريكا البيضاء لتتقاسم معهم المياه النظيفة".
وأشار كريم عبد الجبار إلى أنه، قبل قراءة كتاب سيرة مالكوم إكس، كان قد دخل في مرحلةٍ طويلةٍ من التأمل والبحث عن الذات، ما دفعه لترك ديانته المسيحية حتى قبل دخوله الإسلام.
وفي هذا الإطار، يقول: "كنتُ أعرف المكان الذي لا أنسجم فيه، وكان ذلك مع الكنيسة الكاثوليكية. تخلّيت عن تربيتي الكاثوليكية في اللحظة التي غادرتُ فيها نيويورك متوجهاً إلى جامعة كاليفورنيا، لأني شعرت كما لو أنها تخلّت عني منذ فترة طويلة وعن جميع الأمريكيين السود".
وتابع متحدثاً عن الديانة المسيحية: "لقد تخلّت عنّا عندما وَجَدَت تبريراً للعبودية. لقد تخلّت عنّا عندما روّجت لمنهجٍ في مدارسها ترفض من خلاله الاعتراف بأي إنجازاتٍ تاريخية لأصحاب البشرة الملوّنة".
وأضاف قائلاً: "السيرة الذاتية لمالكوم إكس منحتني إمكانيةً أخرى، وهي الإسلام. كنت أعرف أن ما بين 15 و30% من العبيد الأفارقة كانوا مسلمين، لذلك كان استكشاف الإسلام وسيلتي للتواصل مع جذوري الإفريقية، والذي جعلني أشعر براحة أكبر من المسيحية، التي قلّلت من قيمة أجدادي تاريخياً".
سعى كريم عبد الجبار للتعمق أكثر في المذهب السني، فوجد ضالته عند الداعية حماس عبد الخليص، الذي كان من أتباع إليجا محمد قبل أن ينفصل عنه سنة 1958، ويؤسّس "حركة الحنفية" التي تتبع الإسلام السني.
وقد أسلم عبد الجبار رسمياً على يد حماس عبد الخليص، كما أعلن بنفسه في مقالٍ كتبه باللغة الأمريكية، ونشره موقع الجزيرة Al Jazeera.
في المقال، أوضح لاعب كرة السلة سبب اختياره اسم عبد الجبار، قائلاً: "تبنّي اسم جديد هو امتدادٌ لرفضي لكل شيء في حياتي له علاقة باستعباد عائلتي وأهلي. فقد كان ألسندور (وهو اسم عائلتي) مزارعاً فرنسياً من جزر الأنتيل وكان يستعبد أجدادي. يعود أصل أجدادي إلى قبيلة يوروبا في نيجيريا الحالية، والاحتفاظ باسم سيد العبيد هو إهانةً لهم".
وأشار في تصريحٍ آخر: "الإسلام نقلني من العبودية إلى الحرية. عندما أسلمتُ وأردتُ تغيير الاسم، كان المقصود أن أغيِّره إلى اسمٍ يحمل معنى العزة والكرامة والنبل. لذا جاء اسم كريم، ثم جاء اسم عبد الجبار ليحمل معنى القوة المتمثلة في العبودية لله الجبار".
لاعب كرة سلّة.. وممثل مع بروس لي
في ذلك الوقت، وعلى الرغم من تعرّضه للإهانات وصافرات الاستهجان عندما كان يلعب خارج قواعد نادي "ميلووكي باكس"، واصل كريم عبد الجبار تألقه الرياضي بعد إعلانه دخول الإسلام؛ فنال لقب أفضل لاعبٍ وأفضل هدّاف في الدوري.
وازدادت شهرته، كما تطوّر أداءه وكَثُرت ألقابه، عندما انتقل في العام 1975 إلى نادي لوس أنجلس الذي نشط في صفوفه 14 سنة كاملة، نال خلالها 5 ألقاب للدوري الأمريكي للمحترفين، كما تُوّج بجائزة أفضل لاعب بالدوري في أعوام 1976 و1977 و1980.
بالموازاة مع شغفه برياضة كرة السلة، فقد مارس كريم عبد الجبار رياضة الفنون القتالية، وتلقى تدريباتٍ -لما كان طالباً جامعياً- على يد البطل والمنتج السينمائي المعروف بروس لي، الذي أسّس فناً قتالياً خاصاً سُمّي بـ Jeet kune do.
وقد شارك عبد الجبار، إلى جانب بروس لي، في الفيلم السينمائي الشهير "لعبة الموت"، حيث أدّى بعض المشاهد في هونغ كونغ عام 1972، قبل أن يتوقف تصوير الفيلم بعد وفاة بطله ومخرجه بروس لي في يوليو/تموز 1973.
وبعد اعتزاله لعبة كرة السلة، شارك كريم عبد الجبار في بعض الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، أغلبها أدوار ثانوية، كما خصّص وقته للكتابة؛ فألف عدة روايات تتحدث جميعها عن معاناة الرجال السود، إضافة إلى كتاب سيرته الذاتية الذي صدر عام 1983، بعنوان Giant Steps: The Autobiography of Kareem Abdul-Jabbar.
تزوج كريم عبد الجبار مرتين: الأولى سنة 1971 من جانيس براون -التي غيرت اسمها إلى حبيبة بعد إسلامها- وله معها 3 أبناء، هم: حبيبة وسلطانة وكريم جونيور. لكن الزوجين انفصلا عام 1978، فتزوّج عبد الجبار في المرة الثانية من شيريل بيستونو عام 1980 وأنجبا أمير عبد الله.