هناك عدد لا يُحصى من أصحاب المشاريع الذي يَّدعون أن لديهم فكرة ثورية ستغير العالم، ولكنْ قليل من يستطيع تحقيق ذلك الادعاء، أو يستطيع جمع التمويل الكافي لإثبات مدى نجاح اختراعه.
إليزابيث هولمز ينطبق عليها كل ما سبق، فهي ادعت أنها وجدت الحل الثوري الذي سيغير عالم مجال الطب إلى الأبد، وأقنعت عدداً كبيراً من أصحاب المليارات لتمويل مشروعها، وأقنعت أهم الشخصيات السياسية في واشنطن للانضمام إلى مجلس إدارة شركتها.
لكن مع فارق بسيط أنها خدعت الجميع، وهي تواجه الآن حكماً بالسجن لمدة 20 عاماً، بتهمة الاحتيال، وخاطرت بأرواح آلاف الأشخاص.
تركت دراستها الجامعية لتحقيق حلمها
ولدت هولمز عام 1984، في واشنطن، وأمضت وقتاً في الصين خلال المدرسة الثانوية، وأبدت دائماً اهتماماً بالتكنولوجيا، أثناء وجودها في الصين، بدأت نشاطاً تجارياً لبيع برامج الكمبيوتر للجامعات في آسيا.
بعد عودة هولمز إلى الولايات المتحدة، التحقت بجامعة ستانفورد للحصول على شهادة الهندسة الكهربائية والكيميائية، وخلال العطلة الصيفية، حصلت على وظيفة في "معهد الجينوم في سنغافورة" للعمل على شريحة كمبيوتر مصممة لاكتشاف وجود فيروس السارس في الجسم.
سافرت إليزابيث هولمز إلى سنغافورة، وأصبحت مهتمة بفكرة تطوير أجهزة طبية أكثر كفاءة يمكنها تحسين الاختبارات التشخيصية التقليدية والتقييم العلاجي.
غادرت "هولمز" ستانفورد عام 2004 خلال سنتها الدراسية الثانية، لإطلاق شركة "Theranos"، وهي شركة لتطوير خدمات الاختبارات الطبية.
ادعت إليزابيث هولمز أن شركتها "Theranos" لديها اختراع ثوري يعمل على تحسين عملية جمع الدم واختباره عن طريق تصغير العملية وأتمتتها.
وبينما اعتمدت اختبارات الدم التقليدية على سحب 5-10 ملغم من الدم عن طريق الوريد باستخدام حقنة، لملء أنبوب واحد لكل اختبار يطلبه الطبيب، وغالباً ما كانت هذه العملية مؤلمة للمرضى، وكان الإجراء قد يؤدي إلى امتناع المرضى الذين كانوا صغاراً أو مسنين أو لديهم خوف حقيقي من الإبر عن إجراء فحوصات الدم في الوقت المناسب.
من ناحية أخرى، أكدت هولمز أن منتج شركة "Theranos" لا يحتاج سوى عينة أصغر بكثير (بضع قطرات مأخوذة من وخزة إصبع)، وأن تلك القطرات كانت كافية لتوفير الدم اللازم لإجراء أكثر من 200 اختبار طبي دفعة واحدة، وأن الإجراء أقل إيلاماً وتكلفة من الاختبارات التقليدية.
منذ البداية أخبر العديد من الخبراء في مجال الطب هولمز أن فكرتها لن تنجح، إلا أنها لم تستسلم واستمرت في ترويج فكرتها، وحصلت في النهاية على دعم أحد أساتذتها، الذي قدمها إلى أصحاب رؤوس الأموال.
إقناع المستثمرين دون إعطائهم تفاصيل
في عام 2002 التقت هولمز بشخص يدعى "راميش بالواني"، يكبرها بحوالي 20 عاماً، خلال برنامج في بكين لتعلم اللغة الصينية. وتمتع بلواني بمهنة ناجحة في صناعة البرمجيات، وبعد بيع شركته الناشئة في مجال التجارة الإلكترونية واستمرت صداقتهما منذ ذلك الوقت.
في 2009 سمع بالواني بقصة إليزابيث هولمز وفكرتها العبقرية، فقدم لها قرضاً بقيمة 10 ملايين دولار، وبعد فترة وجيزة تولى دوراً رئيسياً في إدارة الشركة الناشئة.
بدأت هولمز في جمع الأموال من مستثمرين بارزين مثل الملياردير روبرت مردوخ والكثير من اصحاب المليارات في وادي السليكون وانضم كبار الشخصيات مثل هنري كيسنجر والجنرال جيمس ماتيس وزير الدفاع الأمريكي السابق في مجلس الإدارة.
كان الأشخاص الأقوياء مفتونين بشخصيتها واستثمروا دون رؤية حسابات مالية مدققة، وكان من بين مؤيديها وزير الخزانة الأمريكي "جورج شولتز"، وأغنى عائلة أمريكية، عائلة والتونز، ومنحها كل ذلك الدعم مصداقية كبيرة.
وظهرت على غلاف مجلة Forbes، وظهرت متحدثة على منصة TED، وجلست في الندوات جنباً إلى جنب مع الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون ووزيرة الخارجية السابقة "مادلين أولبرايت" والملياردير الصيني "جاك ما" صاحب موقع "علي بابا".
وأصبحت الأضواء كلها مسلطة على إليزابيث هولمز وكانت حينها قد جمعت أكثر من 700 مليون دولار من المستثمرين. وأخذت هولمز أموال المستثمرين بشرط، ألا تضطر إلى الكشف عن كيفية عمل تقنية "Theranos"، بالإضافة إلى ذلك، سيكون لها القول الفصل في كل ما يتعلق بالشركة.
السرية التامة المستوحاة من ستيف جوبز
خلال العقد الأول الذي أمضته "هولمز" في بناء شركتها، عملت في "وضع التخفي"، وأحاطت نفسها بسرية كبيرة بحجة الخوف من سرقة فكرتها من الشركات المنافسة.
استلهمت هولمز طريقتها في السرية وإدارة شركتها بهذه الطريقة من بطلها في وادي السيليكون: "ستيف جوبز"، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "Apple". بدأت هولمز في ارتداء الملابس ذات الياقة العالية مثل جوبز، وزينت مكتبها بأثاثه المفضل، ومثل جوبز، لم تأخذ إجازات أبداً.
حتى صوت هولمز العميق بشكل غير معهود ربما كان جزءاً من صورة مصممة بعناية تهدف إلى مساعدتها في الاندماج في عالم الأعمال الذي يهيمن عليه الذكور.
في بودكاست عن قصة "إليزابيث هولمز" المسمى "The Dropout"، قال موظفون سابقون في "Theranos" إنها أحياناً كانت "تخرج عن الشخصية"، خاصة بعد تناول المشروبات الكحولية، وكانت تتحدث بصوت مختلف وأعلى.
بداية الانهيار
بعد النجاح الإعلامي الهائل ادعت "إليزابيث هولمز" أن الاختراع جاهز للاستخدام، وتم إجراء الفحوصات اللازمة للتأكد من أنه يعمل بشكل جيد.
وتمكنت من إبرام صفقة شراكة بمئات الملايين من الدولارات مع شركة مختبرات طبية، وفي عام 2013، وضعت "Theranos" أجهزتها في 40 مركزاً صحياً، وأجرت أكثر من 1.5 مليون فحص دم لمئات الآلاف من الأشخاص.
وكانت نتائج تلك الاختبارات تبدو غير صحيحة بشكل كبير، ما أثار انتباه الصحفي "جون كاريرو" في صحيفة "وول ستريت جورنال" عام 2015، نشر "كاريو" تحقيقاً صحفياً أثار ضجة عن المخالفات والثغرات في قصة الاختراع بأكملها.
وقابل خبراء في المجال أكدوا استحالة أن يعمل هذا الجهاز بهذه الطريقة.
كانت التقنية غير واضحة منذ البداية، سيتم وضع كمية من دم وخز الإصبع في قارورة صغيرة بطول سنتيمتر واحد تسمى "nanotainer"؛ سيتم بعد ذلك تحليل هذه الكمية الضئيلة من الدم بواسطة جهاز سري يسمى Edison، والذي يمكن أن يجري 200 اختبار على تلك القطرات من الدم.
ولن تكون كمية الدم تلك كافية للقراءة والتحليل، لذلك يجب تخفيف الدم مما قد يؤدي إلى تحريف البيانات في التحليل، وهناك مشكلة أخرى، تتمثل في أن تكوين الدم المأخوذ من وخز الإصبع لن يكون له تركيز مشابه إذا ما تم أخذه من الوريد، وهذا من شأنه تشويه البيانات.
أنكرت إليزابيث هولمز تلك التهم وفي مقابلة مع مجلة "The New Yorker" حاولت أن تدافع عن نفسها وتشرح الآلية بالتفصيل، ولكن كان يبدو أن هولمز نفسها لا تعرف سوى القليل "الاختراع الثوري" التي كانت قد صممته، ولم تستطع أن تشرح آلية عمله.
التكلفة البشرية المروعة
في دعوى قضائية جماعية في أريزونا، استمعت المحكمة إلى كيف تم إخبار امرأة أجرت اختبار ثيرانوس بأنها كانت تجهض، عندما كانت لا تزال حاملاً، وأظهرت نتائج اختبار فيروس نقص المناعة البشرية أن النتيجة إيجابية وهي لم تكن كذلك، وطُلب من مريض آخر أن يتوقف عن تناول دواء ترقق الدم.
وفي 2007 رتبت هولمز عن علم استخدام الجهاز الذي كانت تعلم أنه لا يعمل لإجراء دراسة لمدة 15 شهراً بدءاً من عام 2007 لقياس استجابة 27 مريضاً بالسرطان في المرحلة المتأخرة للعلاج .
نهاية قصة المليونيرة العصامية بفضيحة مدوية
في عام 2018، اتهمت لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية شركة "Theranos" و"إليزابيث هولمز" بخداع المستثمرين من خلال ادعاءات كاذبة حول "المنتج"، بما في ذلك الادعاءات بأن وزارة الدفاع الأمريكية كانت تستخدمها في مواقف القتال.
وحكم على هولمز بدفع غرامة قدرها 500 ألف دولار، وإعادة 18.9 مليون سهم للشركة، وحُظرت لمدة 10 سنوات من العمل كمدير لشركة عامة.
وفي عام 2022، واجه كل من هولمز و"بلواني" تهماً تصل عقوبتها إلى 20 عاماً في السجن، بالإضافة إلى غرامة قدرها 250 ألف دولار ودفع التعويضات عن كل تهمة.
وكانت هولمز وجدت مذنبة في أربع تهم تتعلق بالاحتيال على المستثمرين، لكن تمت تبرئتها من تهم تتعلق بالمرضى، ولم يتمكن المحلفون من اتخاذ قرار بالإجماع بشأن تهم تتعلق بالاحتيال على مستثمرين معينين.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2022، حُكم على إليزابيث هولمز، بالسجن لأكثر من 11 عاما بتهمة الاحتيال على المستثمرين.