في 2 يناير/كانون الثاني من العام 2020 رحل مراد هوفمان، الكاتب والدبلوماسي الألماني، الذي عمل مديراً لقسم المعلومات في حلف الناتو، ثم سفيراً لألمانيا لدي كلّ من الجزائر والمغرب.
وبرحيله عن عالمنا، ترك مذكّراتٍ فيها الكثير من نشأته وحياته وأفكاره، لكنها تضمّنت أيضاً تجربته الفكرية والروحية الأهمّ، وهي اعتناقه الإسلام قبل نحو 40 عاماً.
3 كتب ألّفها هوفمان بعد اعتناقه الإسلام، وهي:
رَوى مراد هوفمان في هذه الكتب ما خفيَ من منعطفات حياته الدبلوماسية والفكرية المختلفة، سارداً في الوقت نفسه ما عايشه من قصص النضال الجزائري الملهمة له أوائل الستينيات، خلال حرب الاستقلال ضدّ المستعمر الفرنسي.
يروي هوفمان أيضاً مشاهداته لحجم الفوضى والخراب، وأعمال القتل التي أشاعتها منظمة الجيش السريّة الفرنسية في أرجاء الجزائر؛ وكيف انتهت به تلك الأحداث، مع مؤثرات أخرى، إلى اعتناق الإسلام داخل المركز الإسلامي في مدينة كولونيا الألمانية في 25 سبتمبر/أيلول 1980.
قرار اعتناق الإسلام سبّب له -بحسب ما يروي- الكثير من الهجوم والنقد العنيف داخل ألمانيا، نظراً لموقعه الدبلوماسي المرموق. وفي كتابه "يوميات ألماني مسلم"، يقول هوفمان: "من المؤكد أنها ليست تسجيلاً لاعترافاتٍ نفسيةٍ درامية، لشخصٍ حديث الإيمان".
ويتابع: "إن هذا الكتاب أقرب ما يكون إلى تصوير مراحل محدّدة، لتلك العملية العقلية المُفضية إلى اعتناق الإسلام، والتي غذّاها عددٌ محدودٌ من التجارب الهامة، وهي العملية التي قامت فيها ميولي الشخصية العميقة إزاء مقوّمات الإسلام الجمالية والثقافية، أي حضارته وفلسفته، بدورٍ مهمّ".
مراد هوفمان ترك المسيحية بسبب الجزائر
ويلفريد هوفمان، وهو اسمه الأساسي قبل تغييره إلى "مراد"، مولودٌ لعائلة كاثوليكية عام 1931 في أشافنبورغ، وهي بلدة كبيرة في شمال غرب بافاريا. عمِلَ مديراً لقسم المعلومات في حلف الناتو ببروكسل من العام 1983 حتى 1987، ثم سفيراً لبلاده في الجزائر حتى العام 1990، وسفيراً في المغرب من بعدها حتى 1994.
وتزامناً، كان هوفمان متخصّصاً في القضايا المتعلقة بالدفاع النووي في وزارة الخارجية الألمانية من العام 1961 إلى 1994. وجوده في الجزائر في بداية الستينيات، كان سبباً رئيسياً لترك المسيحيّة واعتناقه الإسلام، بعد معايشته لمعاناة الناس خلال حرب الاستقلال الجزائرية.
في مقابلةٍ له مع محمد رضا نصر الله، ضمن برنامج "هذا هو" في العام 1997، يروي مراد هوفمان لماذا اختار الإسلام، وكيف كان متفاجئاً من قدرة تحمّل الجزائريين، وكيف أنهم -في الوقت نفسه- لم يفقدوا سلوكهم الإنساني في عزّ المعاناة.
قال هوفمان: "خدمتُ 30 سنة في السلك الدبلوماسي الألماني، وكانت البداية في الجزائر أثناء حرب الاستقلال. وقد أثّر فيّ التزام الشعب الجزائري، بالرغم من كلّ المعاناة. فقلتُ في نفسي إنه يجب عليّ قراءة الكتاب الذي يجعلهم يتصرّفون بهذا الشكل، ولم أتوقف عن قراءة القرآن. هذا هو الذي هداني للطريق إلى مكّة".
لمس الدبلوماسي الألماني إنسانية الجزائريين حين تعرّضت زوجته للإجهاض، وواجهت الموت بسبب عدم تمكّن سيارة الإسعاف من الوصول إليها بسبب ظروف الحرب حينها. فتوجّه بها هوفمان إلى عيادةٍ خاصة، حيث أنقذ حياتها سائقه الجزائري، من خلال التبرّع بالدم.
اعتناق مراد هوفمان الإسلام لم يكن ظاهرياً
يؤكّد الدبلوماسي الألماني أن هناك آية معيّنة قادته إلى الإيمان، فقد تأثّر كثيراً بقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام: 164].
يقول هوفمان إنه قد فهم الآية أوّل الأمر بشكلٍ خاطئ؛ واعتقد أنها غير أخلاقية لأنها تطلب من الناس عدم مساعدة بعضهم، لكن وبعد مزيدٍ من التأمل، توصّل إلى أنها تؤكد على حقيقتين مهمتين:
- الأولى: أن الناس سيواجهون ربّهم وخالقهم، مباشرةً ومن دون وجودٍ لوسيطٍ بينهما.
- الثانية: رفض وإنكار مفهوم الخطيئة الأزلية الموروثة؛ فإذا لم ينطلق أحدنا من فرضية أننا جميعاً بحاجة للنجاة، فلن يبحث أي منّا عن المنقذ، وبالتالي لن يجده.
عندما سُئل: "كيف ندعو للإسلام"؟ قال: "عندما نمارسه"
قرأ هوفمان القرآن بتمعّنٍ كبير، وتأثر به، واعتبره مفتاح الهداية والمدخل الصحيح لقلوب وعقول كلّ الناس لمعرفة الإسلام. لكن الإشكالية الأكبر بالنسبة له هي ترجمة معانيه لمن لا يعرف العربية.
لهذا، فقد حرص -بعد إشهار إسلامه- على الاهتمام بالقرآن، وإعادة ترجمته إلى الألمانية لمن لا يفهم العربية، بالإضافة إلى تقديمه والحديث عنه من خلال مقابلاته، أو مقالاته. فبالنسبة إليه، لم تكن الدعوة إلى الإسلام سوى التمسّك به وتجسيده في السلوك اليوم، وعندما سُئل: "كيف ندعو للإسلام"؟ قال: "عندما نمارسه".
لم يختر ويلفريد هوفمان اسم "مراد" عن عبث، بل الحقيقة هي أن زوجته من اختارت له الاسم. ويقول في هذا الإطار: "زوجتي تركية، وقد اختارت الاسم على أساس أن الأصل اللغوي له هو (أَرادَ) و(يُريدُ)، أي أن شخصاً أرادَ شيئاً، وأنا أردتُ الإسلام".
"مراد هوفمان كان مسلماً قبل إشهاره الإسلام"
في كتابه "الإسلام كبديل"، نجد نقداً للدين المسيحي، ونقداً لفكرة الديمقراطية، أو بالأحرى كما يوضّح هوفمان "نقداً للطريقة الغربية في ممارسة الديمقراطية". ويردّ على الادّعاء بأن الديمقراطية العلمانية والرأسمالية هي قمة الحضارة، ويعتبر أنه يقدّم هذا الكتاب إلى "الغربيين الذين يسعون إلى فهم الإسلام على المستوى الشخصي".
ورغم ذلك لم يتجنّب هوفمان التطرّق إلى قضايا حساسة، مثل: أحكام الحدود، وتعدّد زوجات الرسول، ومسائل القضاء والقدر، والربا، والمذاهب الأربعة، فضلاً عن مواضيع مثيرة للجدل مثل: الخلافة، والتصوّف، والتطرف، وقضايا المرأة، والفن وغيرها.
الكتاب أثار جدلاً حتى قبل نشره، بمجرّد الإعلان عن أن دار نشر ألمانية معروفة ستتولى طباعته. وتعرّض هوفمان للعديد من الشائعات وحملات التشويه ضدّ صورته كدبلوماسي، أشهرها أن كلّ امرأة في وزارة الخارجية الألمانية تعمل تحت إدارته ستُجبر على ارتداء الحجاب.
الخارجية الألمانية طلبت منه حينها تقديم إفادة حول آرائه، وفي النهاية صدر الكتاب بتقديم أكاديمية ألمانية معروفة، أثنت على الكتاب الذي شكّل حدثاً بحدّ ذاته بالنسبة للألمانيين، والغرب عموماً.
وجاء إسلام هوفمان بعد عمليةٍ طويلة من الدراسة والمقارنة بين الأديان والفلسفات الحديثة التي درسها الدبلوماسي، الحاصل على الماجستير في القانون من جامعة هارفارد، والدكتوراه من جامعة ميونيخ، وله أيضاً كتاب بعنوان "نهج فلسفي لتناول الإسلام" (1983)، و"دور الفلسفة الإسلامية" (1985).
في كتابه "الطريق إلى مكّة"، يتناول هوفمان رحلته الأولى إلى مكة بعد إشهار إسلامه، متطرقاً لأركان الإسلام وحقيقة الإيمان، ومتعرّضاً لتأملاته الفلسفية خلال رحلة الحج.
وينتقد هوفمان "المسلمين المهزومين نفسياً" مؤكّداً أن الإسلام بديل لحلّ مشكلات العالم الكبرى، في عصر ما بعد الحداثة والألفية الثالثة.
يقول الدكتور كمال حبيب، وهو باحث مصري في الشؤون الإسلامية، في لقاءٍ مع تلفزيون "العربي" إن "مراد هوفمان كان مسلماً قبل إشهاره الإسلام"، بمعنى أنه كان مسلماً من الناحية الفكرية لا العملية التطبيقية.
لكن هوفمان التزم بعدها بتعاليم الإسلام، وعلّ أشهر مظاهر التزامه هو توقّفه عن شرب الكحول وتناول لحم الخنزير، ويقول في هذا الإطار: "ظننتُ أولاً أني لن أستطيع النوم جيداً من دون جرعة قليلة من الخمر، ولكن ما حدث بالفعل كان عكس ما ظننت تماماً".
ويضيف: "جسمي لم يعد بحاجة إلى التخلّص من الكحول، فقد أصبح نبضي أثناء النوم أهدأ من قبل. صحيحٌ أن الخمر مريح في هضم الشحوم والدهون، لكننا كنا قد ألغينا لحم الخنزير من مائدتنا إلى الأبد".