ربما لم ينل السلطان مراد الأول شهرة جدّه عثمان الأوّل، مؤسس الدولة العثمانية، ولا حاز شهرة ابنه الشهير بايزيد يلدريم الذي اشتهر بسرعة حركة جيشه كـ"البرق"؛ ولذلك نال لقبه "يلدريم". لكنّ أوراق التاريخ تحفظ لمراد الأول لقبه "السلطان الشهيد"، فهو أوّل سلطان عثماني يسقط في أرض المعركة وهو ممتشقٌ سيفه متفقداً آثار المعركة التي انتصر فيها نصراً كاسحاً وأسَّس فيها لسيطرةٍ عثمانية طيلة 5 قرون في بلاد البلقان- جنوب شرق أوروبا. في هذا التقرير نأخذكم في جولة نحكي لكم فيها قصة حياة هذا السلطان.
أصبح سلطاناً على غير المتوقّع!
السلطان مراد الأول هو ثالث سلاطين الدولة العثمانية، فهو الحفيد المباشر لمؤسس الدولة عثمان الأول، لكنّه مع ذلك أوّل من تلقّب بلقب "السلطان"؛ إذ كان لقب والده أورخان وجدّه عثمان "بك" واللذين كانا "أميري منطقة حدودية"، لكنّ السلطان مراد الأول استطاع أن ينقل العثمانيين من كونهم إمارةً صغيرة إلى كونها دولةً قويّة.
حاز مراد الأول عدّة ألقاب أخرى كذلك، فقد اتخذ لقب "سلطان معظّم" و"سلطان الغزاة والمجاهدين" و"غياث الدنيا والدين" و"ليث الإسلام"، وغيرها من الألقاب التي صادق عليها الخليفة العباسي في القاهرة. وفق ما يذكره المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية".
ولكن بعيداً عن الألقاب التي اتخذها، فإنّ قصة وصول مراد الأول لعرش السلطنة مثيرة جداً. في ذلك الوقت كانت الدولة العثمانية مجرّد إمارة كبيرة في ذلك الوقت، ولم تكن بعدُ دولة واسعة كالتي نعرفها. بدأت تلك الإمارة بالأساس من بلاد الأناضول في آسيا، وانطلقت نحو أوروبا، وتحديداً نحو الدولة البيزنطية الشائخة.
كان مركز الفتوحات العثمانية كلها منصباً على شيء واحد: فتح القسطنطينية، ذلك الانتصار الأضخم الذي حققه السلطان محمد الفاتح عام 1453.
بعدما أسّس عثمان الأول إمارته واتخذ مدينة بورصة عاصمةً له، أورثها لابنه أورخان الذي حكم 34 عاماً، كلِّلت بتوسيع رقعة الإمارة، بل الوصول للساحل الآسيوي من مدينة إسطنبول الحالية. وبهذا أصبح على الجهة المقابلة من أسوار مدينة القسطنطينية المنيعة. كما كفلت له قوة جيشه التدخُّل أحياناً لصالح الإمبراطور البيزنطي، وبالطبع نظير بعض الامتيازات في أراضي الدولة البيزنطية.
للقراءة أكثر حول عثمان الأول من (هنا). للقراءة أكثر عن ابنه أورخان من (هنا).
كان مراد الأول هو الثالث في ترتيب إخوته، وكان أخوه سليمان بن أورخان هو ولي العهد، وقد كان سليمان أقدر إخوته على إدارة الدولة، فهو الذي يقود جيوش الدولة العثمانية في منطقة البلقان، وقد حقَّق انتصاراتٍ كبيرة، أبرزها السيطرة على منطقة جاليبولي التي تحتوي على مضيق الدردنيل، وما له من تأثير كبير على الدولة العثمانيّة.
على الجانب الآخر كان مراد الأول شخصاً إدارياً، فقد سلّمه والده أجزاء إدارية كبيرة من الإمارة، وهكذا أصبحت الإمارة مقسّمة بين الأخوين، أحدهما يقود الإمارة وفتوحاتها، والآخر يدير الدولة و"يُخدّم" على الفتوحات. وهي نفس الطريقة التي انتهجها الجدّ عثمان، عندما قسّم شؤون الإمارة بين أورخان وأخيه.
لكنّ القدر كان يخبئُ شيئاً آخر، فقد توفي سليمان وهو في الأربعينيات، عندما سقط من فوق فرسه وارتطم رأسه ببعض الصخور، وهكذا أصبح مراد خليفة والده.
كان مراد قائداً لأحد المناطق في منطقة الروملي (وهي المناطق العثمانية في أوروبا)، وعندما أصبح ولياً للعهد بدأ في استخدام جيشه ليحقِّقَ بعض النجاحات التي ستجعله جديراً بولاية العهد، وتجعل أباه مطمئناً أنّه كفؤ لأخيه سليمان.
وما إن توفي أورخان وجلس مراد الأول على العرش عام 1360 حتّى استطاع أن يسيطر على مدينة أدرنة، التي ستصبح عاصمة الدولة العثمانية. وفي السنة التالية لجلوسه على العرش قام ببعض الغزوات حتّى وصل جبال البلقان، وهنا دعا البابا أوربانوس الخامس المسيحيين إلى حملةٍ صليبيّة ضدّ العثمانيين.
وقد اتّحد ملوك: المجر وصربيا والبوسنة ورومانيا، واقتربوا من أدرنة، وقد استطاع القائد العثماني المرابط في أدرنة أن يهزم هذا الجيش الضخم.
السلطان مراد الأول في البلقان.. صولات وجولات وتثبيت أركان دولته 5 قرون
كانت الدولة العثمانية منذ أن دخلت منطقة الروملي تحارب على جبهتين اثنتين. الجبهة الأولى في الشرق في منطقة الأناضول، حيث الأمراء الأتراك والتركمان المتصارعون أحياناً والمتصالحون أحياناً فيما بينهم. والجبهة الأخرى هي جبهة التوسُّع والجهاد في شرق أوروبا.
كان السلطان مراد الأوّل يعلم مثل أبيه أنّه كلّما توسّع في بلاد البلقان الأوروبية زادت شرعيته أمام الأمراء التركمان والأتراك في الأناضول، وكان يرجو أن يضمّ الإمارات التركمانية والتركية في الأناضول لدولته دون قتال.
أرسل السلطان مراد الأول قائده العسكري قولا شاهين باشا ليقود المعارك العثمانية في بلاد البلقان، فهزم العديد من الإمارات البلقانية، بينما كان مراد الأول يدير دولته ويحرز انتصاراتٍ أخرى في بلاد الأناضول.
كانت التوسعات العثمانية في البلقان مقلقة بطبيعة الحال؛ ما جعل أمير الصرب لازار يسعى لتكوين حلفٍ بينه وبين بلاد البوسنة (التي لم تكن مسلمة بعد) وكذلك بعض الإمارات الأخرى المناهضة من النفوذ العثماني في البلقان.
دخل قولا شاهين باشا بلاد البوسنة عام 1388 ومعه 20 ألف جندي عثماني، وعلى حين بغتة هاجم لازار وجيوش حلفائه الجيش العثماني في منطقة تدعى بلوشنك، وهزموه هزيمةً كبيرة خسر فيها 15 ألف جندي، وأجبروه على التقهقر بل التخلِّي عن بعض الأراضي التي ضمها في جنوب صربيا.
ومن خلال إثبات لازار بعد هذا الانتصار أنّه يمكنه هزيمة العثمانيين، انضمّ له حلفاء آخرون، فأصبح حلفه يضم إلى جانب البوسنة البلغار والأفلاق (رومانيا) وبولندا والألبان.
لكنّ هذا لم يفتّ في عضد السلطان مراد الأوّل، الذي كان عمره آنذاك 64 عاماً. وجمع جيشاً ضخماً وتوجّه هو بنفسه إلى بلاد البلقان، ليمحو عار هزيمة جيشه بقيادة قولا شاهين باشا.
وفي سهل كوسوفو الواسع، التقى الجيش العثماني بقيادة السلطان مراد الأول ومعه ولداه، في يوم 20 يونيو/حزيران 1389 بالحلف البلقاني المسيحي، واستمرّت مدّة 8 ساعات متواصلة.
كانت الكفة في بداية المعركة تميل لصالح الجيش البلقاني، لكنّ مقدمة الجيش العثماني استطاعت امتصاص الهجوم، وفي لحظةٍ مواتية هاجم الجيش العثماني فاستطاع تفريق الجيش البلقاني وأسر لازار ملك الصرب نفسه، وبعض القادة. وقد كان جزاء لازار القتل، فقد كان سابقاً متصالحاً مع العثمانيين قبل أن ينقلب عليهم.
وأثناء تفقُّد السلطان لساحة المعركة بعد انتصاره الكبير، اقترب منه أميرٌ صربيٌّ جريح قائلاً إنّ لديه ما يعرضه عليه، وما إن اقترب حتّى طعن السلطان مراد الأول فمات من فوره. وقد دفنت أحشاؤه في صحراء كوسوفو وصُنع له قبرٌ معروف باسم "خذازندكار" وهو أحد ألقاب السلطان والتي تعني "الحاكم بأمر الله أو بفضل الله". ولا يزال قبره موجوداً في كوسوفو حتى الآن. ونُقل جثمانه إلى بورصة؛ حيث دفن والده وجدّه.
وقد كان انتصار كوسوفو ساحقاً بالنسبة للعثمانيين، فقد تثبّت الحكم العثماني في منطقة البلقان بسببها لمدّة 500 سنة لاحقة. وبوفاته وعمره حوالي 64 عاماً، حكم فيهم قرابة 28 عاماً، كان قد وسّع الدولة العثمانية كثيراً، ووضعها على أولّ الطريق لتصبح إمبراطوريةً ضخمةً مترامية الأطراف.
ويقال إنّ استشهاد السلطان مراد الأوّل جاء قبل نهاية المعركة، ولكنّ الجنود التفُّوا حول ابنه وخليفته بايزيد الأوّل الملقّب بـ"يلدريم" والتي تعني البرق، واستطاع بايزيد يلدريم أن يكمل النصر الذي بدأه والده. وبالطبع، فإنّ الأمير الذي قتل السلطان أصبح أحد الأبطال القوميين في الذاكرة الصربية القومية.