قصة المشرق الإسلامي في مواجهة الحروب الصليبية وممالكها الأربع التي تأسّست على مدار قرنين من الزمان في بلاد المسلمين مليئة بالقصص والبطولات والقادة الأفذاذ، كما هي مليئةٌ أيضاً بالخيانات والمواقف المتخاذلة. ومن أبرز أبطال هذه الفترة عماد الدين زنكي.
أبرز إنجازات زنكي العسكرية أنّه استطاع عبر رحلته الطويلة أن يسقط أولى الإمارات الصليبية الأربع، إمارة الرها عام 1144، وذلك قبل معركة حطين الفاصلة التي قادها صلاح الدين الأيوبي عام 1187.
لكنّ أحد أبرز إنجازاته الأخرى أيضاً أنّه استطاع توحيد أكبر مساحة ممكنة من بلاد الشام تحت سلطانه، ما جعل ابنه نور الدين محمود زنكي يكمل ما بدأه والده في قتال الصليبيين، وهو ما تكلّل في النهاية بميراث صلاح الدين الأيوبي لنور الدين محمود وتوحيده بلاد مصر والشام في مواجهة الصليبيين.
بدايات عماد الدين زنكي.. ابن أميرٍ وفيّ قُتل بسبب وفائه لسلطانه
مع ضعف الخلافة العباسية في بغداد، تقسّمت الدولة العباسية إلى عدّة دول تدين بالولاء الاسمي فقط للخليفة الجالس في بغداد لا يملك من سلطته شيئاً. لكنّ دولةً واحدة استطاعت القضاء على هذه الدول المتناحرة وتؤسس دولةً داخل الخلافة، تكون هي الدولة الوحيدة: هي الدولة السلجوقية.
وهكذا أصبح هناك السلطان السلجوقي وعاصمته في بلاد فارس، وهناك الخليفة العباسي المقيم في عاصمته التاريخية: بغداد.
وفي عام 1073 وصل إلى العرش السلطان ملكشاه ابن السلطان القوي الشهير ألب أرسلان، الذي قاد معركة ملاذكرد الحاسمة وأسر الإمبراطور البيزنطي.
للقراءة أكثر حول معركة ملاذكرد وألب أرسلان، يمكنك الاطلاع على هذه المادة.
كان والد عماد الدين زنكي هو آق سنقر التركماني، ترقّى آق سنقر في الدولة السلجوقية إلى جانب سلطانها القوي ملكشاه، حتّى حاز لقب "قسيم الدولة"، وتعني أنّه شريك في إدارة الدولة السلجوقية، وهو لقبٌ كبير.
برز دور آق سنقر عندما نشب خلافٌ في بلاد الشام والأناضول بين أميرين سلجوقيَّين، فقد تنازع أميران السيطرة على مدينة حلب الاستراتيجية وما حولها من مدنٍ وقلاع.
اضطرّ السلطان للتدخُّل بجيشه الكبير ليحسم الصراع، وقبل عودته إلى عاصمته في بلاد فارس وضع آق سنقر على مدينة حلب وما حولها من مُدن.
عندما توفي ملكشاه عام 1092 قرّر أخوه تتش (والي جنوب بلاد الشام) المطالبة بالعرش، وهنا انضمّ له آق سنقر على غير رغبته، ولكن في ساحة المعركة بين تتش وابن أخيه بركياروق بن ملكشاه انسحب آق سنقر بقواته وانضمّ إلى بركياروق (إبه صديقه السلطان ملكشاه) الذي حسم خلافة والده لصالحه.
بعد ذلك، سار تتش بن ألب أرسلان إلى آق سنقر في حلب، لينتقم منه، فهزمه وأسره ثمّ قتله فوراً عام 1094، واستولى تتش على كامل بلاد الشام، لتنقسم بعد وفاته بين ابنيه رضوان ودقّاق، وهما أحد أكبر المتعاونين مع الصليبيين لاحقاً.
بين كلّ هذه الأجواء نشأ عماد الدين زنكي، وقد كان عمره عندما قتل والده في حدود السابعة، وقد حرص أصدقاء والده والسلطان السلجوقي نفسه على تبنّي عماد الدين وفاءً واحتراماً لأبيه ولما قدّمه للدولة.
تقرّر إلحاق عماد الدين بإمارة الموصل، ليكون تحت تربية وتدريب الأمراء المتعاقبين الذين يحكمونها.
وكان أحد الذين حكموا الموصل الأمير كربوقا، صديق والده القديم، والذي حرص على تربيته تربيةً عسكريةً عالية، وهكذا، عندما أصبح عماد الدين شاباً كان أحد الشباب الذين ربّتهم الدولة السلجوقية على يديها.
ترقّى عماد الدين في السلّم الإداري والعسكري داخل الدولة السلجوقية حتّى حاز لقب "أتابك" وتعني الأمير المربِّي، وقد عهد له السلطان بتربية ولديه، ملحقاً له إمارة الموصل والجزيرة الفراتية وعلى "ما يفتحه من بلاد الشام".
وهكذا بدأ عماد الدين رحلته الطويلة في تأسيس إمارته التي ستكون المسمار الأوّل الحقيقي في ظهر الدول الصليبية الأربع التي أسّستها الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي.
بدأ عماد الدين أول ما بدأ في توسيع دائرة ملكه وسيطرته، فضمّ العديد من الإمارات والمدن والقلاع في الجزيرة الفراتية وبلاد الشام. فضمّ مدن: البوازيج وجزيرة ابن عمر وغيرهما، لكنّ هدفه الكبير كان مدينة حلب، تلك المدينة التي قتل والده دفاعاً عنها سابقاً.
وهكذا تمّ له ضمّ حلب عام 1128. كما ضمّ كذلك مدن بُزاعة ومنبج وحماة وسرجي ودارا وديار بكر وغيرها، كما حاول ضمّ دمشق مراراً لكنّها استعصت عليه.
الإنجاز الأكبر.. استعادة إمارة الرها من الصليبيين!
بعد كل ما مضى في هذا التقرير، سيكون من السهل استنباط أحوال المسلمين في تلك الفترة. فهذا الانقسام الموجود في بلاد المسلمين، ترافقت معه سيطرة الصليبيين على أربع إمارات رئيسية وما يتبعها في بلاد الشام والأناضول، هي: كونتية الرها، وإمارة أنطاكية، وإمارة طرابلس، ومملكة بيت المقدس.
وقد ظلّ المسلمون متفرقين طيلة نصف قرنٍ من الزمان تقريباً قبل أن يواجهوا الصليبيين في معركة حاسمة لتحرير بلادهم.
كانت أبرز هذه المحاولات هي محاولة الأمير مودود بن التونتكين في بدايات القرن الثاني عشر، إلا أنّ الأمير قد تلقّى طعنةً غادرةً بعد خروجه من صلاة الجمعة في دمشق عام 1113. للقراءة أكثر حول جهود مودود بن التونتكين، يمكنك قراءة هذه المادة.
مثل عماد الدين زنكي، كان الأمير مودود بن التونتكين أميراً على الموصل، ومنها انطلق لحصار إمارة الرها، ورغم حصاره لها ثلاث مرات خلال أربع سنوات فقط، إلا أنّ جهوده لم تُكلّل بالنصر، لكنّه في عام 1113 استطاع إحراز نصرٍ كبير على جيشٍ صليبيّ قرب بحيرة طبريّة، لكنّ اغتياله بعد النصر أوقف جهود المسلمين طيلة ثلاثة عقود، حتّى ظهر عماد الدين زنكي.
مثل الأمير مودود انطلق زنكي من الموصل لتوحيد ما يستطيع من بلاد الشام، وبعدما وحّد بلاد الشام انطلق لحلمه الأكبر: استعادة الرها من الصليبيين.
وفقاً لما يذكر ابن الأثير في كتابه "الكامل"، فقد خدع عماد الدين زنكي الصليبيين وأمير الرها جوسلين، عندما تحرّك تجاه ديار بكر ليوهمه بأنّه ما أراد إلا مواجهة بعض الأمراء الأكراد.
غادر جوسلين الرها مسافراً إلى فرنسا لزيارةٍ كان مخططاً لها، وهنا انقضّ عماد الدين زنكي على الإمارة الصليبية التي تأسست هنا منذ قرابة نصف قرن، وبعد 28 يوماً من الحصار، مَلَكَها. ليُسطّر بذلك أوّل انتصارٍ إسلاميّ على الصليبيين، وليعطي من بعده الأمل باستعادة بقية الأراضي الإسلامية من أيادي الصليبيين، والتي استمرّ بعضها طويلاً، مثل عكّا التي استعادها المسلمون أخيراً عام 1291.
لم ينتهِ الشّبه بين عماد الدين زنكي وبين مودود بن التونتكين، فكما اغتيل مودود بعد انتصاره مباشرةً، حدث مع عماد الدين زنكي نفس ما حدث معه.
ما إن استعاد زنكي إمارة الرها حتّى سار إلى قلعة جعبر ليضمّها لإمارته الناشئة، وأثناء الحصار، وبينما كان في خيمته هاجمه بعض خدمه وقتلوه على حين غفلة، ليسلم الروح في وقتها عام 1146، ويتسلّم ابناه سيف الدين غازي ونور الدين محمود راية تحرير بلاد المسلمين من الاحتلال الصليبي، ولكن لذلك قصّة أخرى.