في كتابه "إمبراطورية رابح الزبير.. مذابح الاستعمار الفرنسي في السودان" يحكي لنا سعد الدين الزبير أنه في عام 1846، وفي قرية بحر الغزال في جنوب السودان، حيث تعيش قبائل متعددة العادات واللهجات، والتي انتشر بينها القتل والتشريد والهمجية وُلد "رابح"، وكان ذلك بعد 15 عاماً من مولد رجل آخر في شمال السودان يسمى "الزبير رحمت العباسي" الذي تفتحت عيناه على نوعٍ آخر من الحياة في جزيرة واوسي قرب الخرطوم، حيث الأمن والسلام ينتشران، يجتمع الرجلان معاً فيصبح الاسم واحداً: رابح بن الزبير.
لكسب المال؛ اتجه الزبير إلى الجنوب، حيث عمل في خدمة علي آبي عموري، وهو أحد كبار التجار، وسرعان ما ذاع سيط الزبير حتى غدا ذا مكانةٍ كبيرة في جنوب السودان، وهو ما أهّله لمصاهرة الملك تكمة، ملك نيام نيام، وهي منطقة واقعة بين جنوب السودان والكونغو، وبذلك راجت تجارة الزبير، وتوسعت دائرة نفوذه، واجتذب قلوب الناس حتى دخل الكثير في خدمته، والذي كان من بينهم الشاب رابح.
أدى كل هذا لتوطيد مركز الزبير ونمو زعامته نمواً أخاف صهره ملك نيام نيام نفسه، وملوك القبائل المجاورة؛ فمضوا يكيدون له ويتربصون بتجارته، ما دفع الزبير للتفكير للمرة الأولى في أن يتخذ لنفسه جيشاً لحماية تجارته ونفوذه المتزايدَيْن.
رابح تحت لواء الزبير
كوَّن الزبير جيشاً قوامه 500 رجل، ضَمِنَ ولاءهم المطلق، ثم زوَّدهم بالسلاح، وبهذا الجيش حارب الزبير الملك "تكمة" و"دوية" و"شكو"، وكان هؤلاء من أقوى ملوك القبائل في تلك المنطقة، فما كان له أن يفرغ من هزيمتهم حتى دان له باقي الملوك بالطاعة واستتب له الحكم في منطقة حوض بحر الغزال، وسرعان ما نما حجم جيش الزبير من رجال القبائل التابعة له، وقد أظهر رابح في خدمة جيش الزبير موهبة حربية لفتت الأنظار.
كان رابح لا يزال شاباً عمره 23 سنة، ولكنّ قدراته الفذة لفتت له أنظار الزبير نفسه، وأصبح له مكانة خاصة في قلبه، حتى احتل مكان الابن تماماً، فلم يتردَّد الزبير في إعلان تبنّيه لهذا الشاب المميز في فنون القتال، وضمه إلى أسرته.
تعرَّضت قوة الزبير لأول خطر حقيقي -كما يذكر سعد الدين الزبير في كتابه الذي ذكرناه سابقاً- في مواجهة "حملة البلالي" الذي أرسلها الخديوي إسماعيل.
كان جيش الزبير قد بلغ 4 آلاف رجل، أبقاهم الزبير تحت قيادة رابح، ودارت معارك عدة بين جيش البلالي وجيش الزبير، تُوّجت بانتصار جيش الزبير على يد القائد الشاب الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين.
تحولت البلاد تحت زعامة الزبير في تلك الفترة، وخاصة بعد فشل حملة الخديوي بشكلٍ ما، من طورها القبلي إلى طور الأمة الموحدة التي يسودها عهدٌ جديد يعم فيه الرخاء وازدهار التجارة وانتشار حلقات العلم، وبقي رابح والزبير ينتقلان من نصر إلى نصر، حتى دُعِي الزبير إلى القاهرة لمقابلة الخديوي، والتي كانت في واقعها مؤامرة خطط لها حاكم السودان الذي أراد أن يتخلص من نفوذ الزبير في السودان.
بالرغم من معارضة رابح لذهاب الزبير، فإن الزبير استجاب لدعوة القاهرة، ما تسبب في احتجازه هناك وعدم قدرته على العودة؛ وكان هذا إيذاناً بانتهاء تلك الحقبة الهامة من حياة رابح التي عاشها تحت لواء الزبير، ابناً له، وقائداً لجيوشه، وتلميذاً له في دروس السياسة والحرب. نحو حقبة جديدة، وعهدٍ جديد، عهد رابح نفسه.
رابح بن الزبير والإنجليز والحركة المهدية
استعمرت بريطانيا مصر عام 1882، وتطلّعت لحكم السودان، نشبت عدة مؤامرات ضد جيش الزبير، إذ تشارك كل من رابح وسليمان بن الزبير في معركتين ضد الاحتلال الإنجليزي، نتج عنهما قتل سليمان غدراً على يد الاحتلال، بعد أن قرَّر الاستسلام تلبيةً لرغبة أبيه المحتجز في القاهرة.
أمّا رابح فقد عارض قرار الاستسلام وانفصل بجزءٍ صغير من الجيش، واتجه إلى الجنوب بادئاً لحياة جديدة.
مضى رابح يُخضع القبائل في منطقته إلى إمرته حتى عام 1885، حيث ظهر محمد أحمد المهدي وقواته في السودان، مطالبةً بالتحرر الوطني، فيما عرف باسم "الثورة المهدية". ولأن شهرة رابح قد بلغت أذن المهدي سارع لدعوته للانضمام للحركة، وسرعان ما رحّب رابح بتلك الدعوة، في الوقت الذي نُفي فيه الزبير من القاهرة إلى جبل طارق، لإبعاده عن نطاق حوادث الثورة المهدية.
عندما بدأ رابح يتحرك بقواته للانضمام إلى المهدي، وما كاد أن بلغ حدود دارفور الغربية حتى بلغه موت المهدي، في 22 يوليو/تموز 1885، وتولى عبدالله التعايشي الزعامة من بعده. وهو ما جعل رابح يتراجع.
كان بين رابح وعبدالله التعايشي تاريخٌ قديم، فقد كان أسيراً عند الزبير أثناء حربه مع عرب الرزيقات، وقد كان الزبير قد أمر بإعدامه، وأيّده رابح في ذلك القرار، لكنَّ الزبير قد استجاب لرأي العلماء الذين اعترضوا بحجة أن الشرع لا يجيز له قتل أسير حرب؛ لذلك رفض رابح الانضمام للحركة المهدية، خوفاً من انتقام التعايشي، فقرر الرجوع لإقليمه السابق يعاود الغزو والتجارة.
في هذه الفترة اتصل رابح بزعيمٍ دينيٍّ آخر هو محمد المهدي السنوسي في ليبيا اتصالاً قُدِّر له أن يلعب دوراً هاماً في حياة رابح، وفي كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي بعد ذلك. فعندما سمع السنوسي برابح وفتوحاته، وجد فيه حليفاً قوياً، ولم يلبث هذا التحالف أن تُوِّج بزواج نجل رابح، فتح الله، بإحدى بنات السنوسي.
على إثر ذلك اقتنص رابح زواج ابنه من ابنة السنوسي واتّفق مع السنوسي في عام 1891 على الهجوم على بعثة بول كراميل الفرنسية، وقتلوا رئيسها، وكان هذا بدء اصطدام رابح بالفرنسيين، حاملاً على كتفيه هذا العبء طوال عشر سنوات.
رابح بن الزبير يقاوم الاستعمار الفرنسي
استطاعت فرنسا أن تستميل السنوسي إلى صفها دون قتال، كما عقدت معاهدة مع السلطان عبدالرحمن جوارنج، سلطان الباجورميين، الذي كان يخاف على نفسه من قوة رابح، فرحب بتلك المعاهدة التي تضمن له حماية فرنسا ضد رابح، وبذلك استطاعت فرنسا أن تتخلص من قوتين سياسيتين، فلم يبقَ أمامها من ندٍّ إلا رابح، الذي وقف ضد الاستعمار الفرنسي وحده، وكانت دولة رابح قد توسّعت إلى بحيرة تشاد.
وبالرغم من تصديه وحيداً للاستعمار الفرنسي استطاع رابح أن يصمد في وجه الفرنسيين، كما جعلهم يتكبدون خسائر في القوات والأرواح، ما ألجأهم في النهاية للسعي لدى الزبير من جديد؛ كي يتوسط عند رابح بقصد إيقاف الحرب.
وبسبب صعود الإمبريالية الأوروبية في ذلك الوقت، وتطلعها للموارد البشرية والطبيعية، ولأن إفريقيا أرض غنية بالموارد الطبيعية والبشرية؛ جعل ذلك كله الدول الأوروبية تتطلَّع إلى احتلال القارة، وكانت فرنسا من أنشط الدول التي تسعى لضم الأراضي الإفريقية إلى إمبراطوريتها.
كانت فرنسا ترسل بعثات علمية وتجارية تغزو البلاد تحت ستار التجارة والعلم، لكنها في الوقت نفسه تعقد اتفاقيات مع ملوكها ورؤسائها يخضعون بمقتضاها لنفوذ فرنسا.
وكانت من ضمن تلك البعثات حملة بقيادة كرامبل في 1890 لاستكشاف المنطقة، الذي التقى رابح به كما التقى بقواته المجهزة بقدر كبير من العتاد الحديث، لكن الأمر انتهى بمقتل كرامبل، الذي تنصّل السنوسي من تهمة قتله، فما كان للسلطات الفرنسية بداً إلا أن تكتل جهودها ضد رابح، الذي بدأ يوسع نفوذه في تلك البقاع كقوة حربية كبرى.
مملكة رابح بن الزبير
بعد مقتل كرامبل وتجهيز فرنسا لقوة أكبر لقهر قوة رابح الصاعدة؛ يروي لنا سعد الدين بن الزبير في كتابه "إمبراطورية رابح الزبير.. مذابح الاستعمار الفرنسي في السودان" أن رابح بدأ يفكر في أن تكون له مملكة واسعة، يجمع حول رايتها القوى المناهضة للغزو الفرنسي المنتظر، إذ إنه أدرك بخبرته أنه إن لم يوحد القبائل المتفرقة في حوض نهر شاري وعند بحيرة تشاد، فلن تستطيع تلك المناطق الوقوف في وجه الغزو الفرنسي.
لكنّ رابح قبل أن يبدأ في خطته الكبيرة تلك، هاجم ملك ودّاي، أحد أكبر تابعي وخادمي السنوسي، وبالفعل استطاع رابح أن يوقع بعض الهزائم بقوات ودّاى، كانت كفيلة بإشعار السنوسي بمدى قوة وخطر رابح، وبأنه قد خسر حليفاً قوياً، وبعدها أخذ رابح يضمّ إليه القبائل الواحدة تلو الأخرى، واستسلمت له العديد منها بغير جهد كبير.
ولأن تلك القبائل كانت وثنية، عمل رابح على نشر الإسلام بينهم، وأخذ ينظم شؤون تلك القبائل على ضفاف نهر شاري حتى عام 1893 حتى اطمأن لشؤون مملكته، فتحرك نحو الشمال لإتمام هدفه الكبير حتى بلغ حدود باجورمي، وهي ولاية إسلامية في وسط إفريقيا تحت حكم السلطان جورانج حتى بلغ رابح حدودها عام 1893.
لم يكن احتلال باجورمي من أهداف رابح، لكنه اضطر للهجوم عليها ليفتح لنفسه طريقاً إلى ما وراء نهر شاري غرباً، وهو الطريق الذي تتحكم فيه بلدة مانهافا، التي أحكم الحصار عليها حتى دخلها.
وبالرغم من أن معركة مانهافا قد فتحت الطريق الغربي لرابح، فإنها أضافت إلى أعدائه عدواً جديداً، وهو السلطان جورانج، الذي لم يتورع أن يساعد الفرنسيين ويضيع جهود رابح في مكافحة الاستعمار الأجنبي، في مقابل الاحتفاظ بسلطانه.
فتح الطريق أمام رابح، ومضت قواته وهي تنتقل من نصر إلى نصر وتزداد عدداً وقوة حتى تمكن من الاستيلاء على لوجون وعلى مملكة بورنو (في نيجيريا)، والتي سعى سلطانها للتعاهد مع رابح حقناً للدماء وتجنيباً لبلاده أهوال الحروب، لكن ابن اخته "خيارى" رأى قرار خاله هذا جبناً، فقتل خاله وتولى الحكم بدلاً منه، وحارب رابح وهزمه، وفي هذه المعركة جُرح فضل الله بن رابح جرحاً بليغاً.
سرعان ما أعاد رابح توزيع الذخيرة وترتيب جيشه، فما كاد جيش خيارى أن يهاجم جيش رابح في الصباح حتى تفاجأ من سرعة معاودة جيش رابح الهجوم عليهم بعد هزيمة أمس. وانقلبت النتيجة وانتصر رابح، وأسر خيارى وأعدمه.
استطاع رابح أن يضم مملكة بورنو بأطرافها الواسعة لمملكته، وبعدما استقر فيها اتجه إلى جنوب بحيرة تشاد ليفتح مدينة دكوة، التي اتخذها عاصمةً لحكمه، وقام بتعميرها حتى شهدت عصراً زاهياً وأصبحت المدينة الأولى في وسط إفريقيا، فقد نشطت التجارة واستتب الأمن وانجذب إليها جميع سكان وسط إفريقيا.
وكان لازدهار وإعمار تلك المدينة صيت ودوي، حتى المؤرخون الأجانب تغنوا به، حتى شبّهوا أزقتها وطرقاتها بأنها مدينة تشبه القصر، من كثرة رخاء ورقي ما وصلته تلك المدينة.
انتقام رابح من الجاسوس الفرنسي
في عام 1895، عندما كان رابح في أوج مجده، جاءه إيميل جنتيل، المبعوث الفرنسي المختار من الحكومة الفرنسية، وافداً يرتاد مناطق نهر شاري وبحيرة تشاد، ويمهد تلك المناطق لتقع تحت النفوذ الفرنسي، وقد استغرقت بعثة جنتيل الأولى ما بين 1895 إلى 1898، والتي استطاع فيها تسوية الموقف بين السنوسي والفرنسيين بعد مقتل كرامبل، وعقد معاهدة مع السلطان جورانج، وبهذين العملين ضمن جنتيل لنفسه صداقة قوتين هامّتين بجانب مساعدتهم ضد عدوهم المشترك.
وما كاد جنتيل يغادر مناطق السودان الوسطى، وقد خُيل إليه أنه قد ضمنها نهائياً للنفوذ الفرنسي، حتى تحرّك رابح بقواته نحو القبائل التي رحبت بالفرنسيين، وإلى الباجورمي ليعيد قبضته عليهم وعلى حكامهم، كما تحرك سلفاً لملاقاة جنتيل في مدينة كونو، قبل أن يصل إليها ليُحكم قبضته عليها، واندلعت معركة كونو بين رابح وجنتيل -التي وصفها جنتيل بعد ذلك بأنها من أفظع المعارك التي خاضوها على الإطلاق- فقد كبدهم رابح وجيشه خسائر كبيرة.
3 حملات ضد رابح وانهيار مملكته
أدرك الفرنسيون أنه من المستحيل أن تستطيع حملة واحدة أن تخلصهم من رابح، لذلك أصدرت الأوامر للقوات الفرنسية إلى السودان الوسطى للتقدم صوب بحيرة تشاد، للانضمام لحملة جنتيل، في الوقت الذي كانت فيه حملة أخرى سميت بالحملة الصحراوية تتقدم من الجزائر بقيادة ضابط فرنسي يدعى لامي للمشاركة في نفس الغرض، وهكذا اجتمعت ضد رابح حملات ثلاث.
احتدمت المعارك بين رابح والفرنسيين، وانضم إليهم السلطان جورانج والشيخ عمر، أكبر أبناء السلطان هاشم، حاكم بورنو السابق، الذي كان يطمع في استرداد مملكة أبيه من رابح.
في الليلة التي سبقت معركة كاسوري الفاصلة، وفي الوقت الذي كانت فيه الاستعدادات في المعسكرين المتناحرين تقوم على قدمٍ وساق، جلس السلطان جورانج والشيخ عمر يقسّمان تركة رابح، وطالت بينهما المناقشات والمفاوضات، بينما انهمك جنتيل ولامي يضعان خطة المعركة لليوم التالي، أما رابح فقد كان في المعسكر الآخر ساهراً بين رجاله يحثهم على الثبات في المعركة.
وفي سرده لأحداث المعركة يذكر سعد الدين الزبير في كتابه أنه في الساعة السادسة من صباح يوم 22 أبريل/نيسان 1900، اجتمعت قوات الحملات الثلاث بقيادة لامي خارج مدينة كاسوري لمهاجمة معسكر رابح، وكان رابح قد نظّم قواته عند مساحة تحيطها الأرض بارتفاع متر، لتكون حصناً لحماية المشاة، أما لامى فقد قسَّم قواته إلى ثلاث فرق، وهم جنود البعثة الصحراوية، وجنود الحملة الإفريقية، وجنود جنتيل، بالإضافة إلى 800 من قوات الباجورميين الذين لم يشاركوا في المعركة، إذ أبوا أن يطلقوا نيرانهم على رجال رابح الذين تجمعهم صلة العرض.
بدأت المعركة بإطلاق رجال الفرقة الإفريقية النار، فأجاب رابح على هذا الهجوم بإطلاق النار، وهو ما كبَّد لامي خسارة اضطرته للاستعانة بالاحتياطي بعد رفض الباجورميين المشاركة.
صمدت قوات رابح في خطوطها، واستطاعت أن تحطِّم الموجة الأولى من الهجوم الفرنسي، ثم ساد جو المعركة هدوء نسبي، ومع قدوم وقت الظهيرة عاود الفرنسيون الهجوم، إذ استطاعوا أن يدخلوا لثغرة في خطوط رابح، وتخطوا الأسوار واشتبكوا مع قوات رابح، فاضطر للانسحاب بقواته خارج الحصن، وخُيّل للعدو أنهم كسبوا نهائياً، لكن رابح لم يكن ليخضع لتلك الهزيمة، فأعاد تنظيم قواته وكر على الحصن لينتزعه من الأعداء، ودارت معركة أقسى من الأولى، أُصيب فيها لامي برصاصة في صدره.
كانت القوات الفرنسية بوجودها داخل الحصن تتمتع بمركز ممتاز، في الوقت الذي كانت فيه المعركة الأولى استنزفت قوى رابح وكبدته خسائر فادحة في القوات والعتاد، وبالرغم من أنه استطاع في هجومه الثاني أن يوقع بالفرنسيين خسائر جسيمة، كان على رأسها إصابة لامي، إلا أن رابح قد أُصيب هو الآخر بأثر من جرح خطير لم يقوَ بعده على مواصلة القتال، فانطرح أرضاً بين قتلى وجرحى رجاله.
انتشر خبر مقتل رابح سريعاً، حتى بلغ مسامع جنتيل، لكنه لم يصدقها وظن أنها مجرد شائعة، إلا أن الأمر بدا أكثر جدية، فأرسل للتحقق من وجود جثته، ولم تكد تمضي عشر دقائق حتى وضعوا عند أقدامه رأساً مقطوعاً ينزف دماً.
كتب جنتيل في مذكراته: "إن هذا الرجل الذي يقطر رأسه دماً تحت قدمي هو الشجاع الذي كان يجب على الأقل أن نحفظ له حياته، ولقد كنت أود لو سقط حياً بين أيدينا لندَّخره من الموت، ولكنها إرادة القدر".
بلغ مقتل رابح ابنه فضل الله، الذي كان مقيماً في لوجون، حيث انضمت إليه فلول جيش رابح، فآثر الانسحاب والاتجاه إلى دكوة للانضمام لأخيه محمد نيابي.
في غضون ذلك استولى الفرنسيون على لوجون وعلى دكوة أيضاً، بعدما أخلاها فضل الله بعد علمه بزحف الفرنسيين تجاهها، واقتحمت القوات الفرنسية سراي رابح، وكان أحد الفدائيين قد تسلل إلى الدهليز الذي كان رابح يحتفظ فيه بأسلحته وذخائره، وأشعل فيه النيران فانفجر، وكان امتداد النار كفيلاً بنسف مدينة دكوة بأسرها، أما القصر فقد تحول إلى حطام وأنقاض، وهذا ما تبقى من البناء الشامخ الذي أدار منه رابح إمبراطوريته.
استولت القوات الفرنسية بعد ذلك على العديد من المدن، واستطاعوا إيقاع الكثير من جيش فضل الله في الأسر، ومن بينهم زوجته خديجة بنت السنوسي، لكن لم توهن هذه الهزائم المتلاحقة من عزيمة فضل الله؛ فانحدر إلى الجنوب وراح يحشد الجنود ويحرض الأهالي لتطهير البلاد من الغزاة.
خاض فضل الله في آخر أيامه معارك عديدة، فاز بها، وهو ما أحيا في صدره آمالاً واسعةً، ورفع كثيراً من روح رجاله المعنوية، وبعد أن أُنهكت القوات الفرنسية كثيراً من احترابها مع رابح، ومِن بعده فضل الله؛ أرسلت إليه لعقد معاهدة تمنح فضل الله بمقتضاها حكم بورنو، مقابل أن يعترف بالحماية الفرنسية، لكن فضل الله أبى أن يتحالف مع أعدائه وأعداء أبيه، أو أن يعطي الاحتلال الذي مات أبوه وهو يقاتله صكاً بشرعية وجوده في البلاد.
رفض فضل الله العرض، وسار يُكمل فتوحاته وانتصاراته، ويضم إليه كل كارهي الاحتلال، فخشيت السلطات الفرنسية أن يعيد فضل الله مسيرة أبيه، فما كان منها إلا إعداد وإرسال حملة كبيرة ضد فضل الله، استطاعت أن تهزمه، ليسقط صريعاً كما سقط والده رابح بن الزبير، وتبدد جيشه ومن بعده المملكة.