عادةً ما يكون الفاتحون الكبار في سنّ الشباب، فإذا تحدثنا عن الإسكندر الأكبر فقد كان في فورة شبابه عندما غزا الإمبراطورية الفارسية، وفي سنّ العشرين استطاع محمد الفاتح أن يفتح القسطنطينية، وكذلك في العصر الأحدث بعض الشيء كان نابليون بونابرت في سنوات شبابه عندما بدأ رحلته العسكرية بعد الثورة الفرنسية.
لكنّ الغريب بعض الشيء أن يكون أحد الفاتحين الكبار في أواخر عمره، فقد كان أسد بن الفرات في السبعين من عمره عندما قاد الجيش المسلم ليفتح جزيرة صقلية، وليبدأ فيها عصر المسلمين الذي استمرّ طيلة 3 قرون، ولتترك اللغة العربية تأثيرها في اللغة الصقلية القديمة، بطريقةٍ لا يخطئها مستمع.
أسد بن الفرات.. من بلاد الشام إلى تونس
وُلد أسد بن الفرات عام 759 في منطقة حرّان بالشام، وأصله من نيسابور. كان أبوه أحد أعيان الجند في جيش محمد بن الأشعث، ارتحل والدُه مع جيش محمد بن الأشعث إلى إفريقيا عام 761، وهكذا انتقل مع ابنه أسد.
كانت الدولة العباسية في أوجها في تلك الفترة، وعلى الهامش منها نشأت وتأسّست دولة الأغالبة بإفريقيا. أسّس دولة الأغالبة الأغلب بن سالم بن عقال التميمي، وقد كان قائداً لجيش العباسيين في إقليم إفريقيا (شمال إفريقيا).
بعد وفاته أصبح ابنه إبراهيم والياً على إفريقيا، شرق الجزائر وتونس وغرب ليبيا. وهكذا أصبحت تلك الدولة مستقلة نسبياً، ولكن تحت عباءة الدولة العباسية في بغداد. ومع الوقت توسّعت تلك الدولة لتشمل ممتلكاتها جنوب إيطاليا وجزيرة صقلية وسردينيا ومالطة، وقد حكمت هذه الأسرة منذ عام 800 وحتى 909.
كان عمر أسد بن الفرات سنتين حين أخذه والده معه إلى شمال إفريقيا، وهكذا فقد كانت نشأته أغلبها في تونس، فدرس الفقه هناك، ثمّ سافر إلى الشرق طلباً للعلم، فسمع كتاب الموطأ على الإمام مالك في المدينة.
ومن المدينة أخذ طريقه شمالاً إلى العراق، ودرس مذهب الإمام أبي حنيفة، ومن العراق إلى مصر، حيث قابل أئمة الفقهاء المالكية، ثمّ عاد من جديد إلى موطنه. استقرّ بن الفرات في القيروان بتونس، وبدأ التدريس، ويعتبر أوّل من أدخل المذهب المالكي في الجزائر، وقد كان يدرّس المذهبين المالكي والحنفي كذلك.
فتح صقلية.. 3 قرون من وجود الإسلام هناك
في عام 817 وصل إلى حكم دولة الأغالبة زيادة الله بن إبراهيم الأغلبي، وقد حكم هذا الرجل 21 عاماً، استطاع خلالها أن يوسّع رقعة الدولة التي أسسها أبوه، وكانت ضربته القوية والكبيرة عندما فتح جزيرة صقلية التابعة للدولة البيزنطية.
تعتبر جزيرة صقلية هي أكبر جزر البحر المتوسط من حيث المساحة، وقد حاول المسلمون مراراً السيطرة عليها.
تضمّنت محاولات المسلمين للسيطرة على الجزيرة محاولة معاوية بن حديج وعقبة بن نافع وعطاء بن رافع وغيرهم. كانت هذه المعارك كراً وفراً بين المسلمين في شمال إفريقيا وجزيرة صقلية، فقد أغارت قوات الجزيرة أيضاً على سواحل المغرب في بعض الفترات.
لكنّ الفرصة سنحت عندما وقعت بعض الاضطرابات في الجزيرة. وقع نزاع بين قائدين في الجزيرة، يوفيميوس وبلاتريوس. انتصر بلاتريوس في النهاية، ما جعل يوفيميوس يطلب مساعدة زيادة الله الأغلبي ضدّ عدوه. وهنا كانت الفرصة سانحة لزيادة الله لتوسيع رقعة مملكته، وللتخلُّص من القلق والاضطراب على حدوده البحرية.
كان أسد بن الفرات قاضياً على القيروان منذ عام 819، وعندما قرّر زيادة الله الأغلبي مهاجمة صقلية عيّنه قائداً وقاضياً للحملة.
كان هذا عام 827، وكان أسد حينها على أعتاب السبعين من عمره، خرجت القوات من القيروان، 10 آلاف جندي، و 700 فارس، يحملهم أسطول مكون من 100 سفينة كبيرة. وقد انطلق الأسطول من ميناء سوسة.
وبعد ثلاثة أيام من الإبحار في المتوسّط وصلت قوات أسد بن الفرات إلى الجزيرة وبدأت هجومها. أثناء مسيرته داخل الجزيرة الكبيرة وقعت العديد من القلاع تحت سيطرته، حتّى وصلت القوات إلى موقع المعركة الحاسمة.
انتهت المعركة بهزيمة بلاتريوس هزيمة منكرة، فرّ على إثرها بلاتريوس من أرض المعركة منسحباً، ولاحقاً هرب إلى إيطاليا حيث لقي حتفه هناك.
واصل أسد بن الفرات زحفه داخل الجزيرة، حتّى وصل إلى مدينة سيراكيوز في شرق الجزيرة، كما وصل إلى مدينة باليرمو في غربها. وهناك وافى الأجل أسد بن الفرات، فقد حلّ بجيش المسلمين وباء الطاعون، فحصد الكثير من أرواحهم، وعلى رأسهم كان أسد بن الفرات. وقد دفن بمدينة قصريانه عام 828. وقد اختلف المؤرخون هل توفي على أسوار باليرمو أو في مدينة سيراكيوز.
كانت وفاة أسد بن الفرات خسارة كبيرة لزيادة الله الأغلبي، باعتباره قاضياً ذا مكانة روحية، وكذلك باعتباره قائداً مغواراً، لكنّ انتصار أسد الفرات كان مقدمةً لسيطرة الأغالبة على بقية الجزيرة، وتمهيداً لسيطرة استمرت 3 قرون على الجزيرة الأكبر في البحر المتوسط.
حفظ لنا الرحالة المسلم ابن حوقل مشاهداته في القرن التاسع عن جزيرة صقلية، فوصف الأحوال الاجتماعية والسياسية والعمرانية فيها، وذكر أنّ مدينة باليرمو وحدها كانت تحتوي على 300 مسجد.
لكنّ هذا الوضع لم يستمرّ، فبعد نحو قرنين ونصف كان الرحالة الأندلسي المسلم ابن جبير يذكر لنا مأساة المسلمين في جزيرة صقلية، وكيف أنّ الحكام المسيحيين حوّلوا المساجد إلى كنائس، ونصّروا المسلمين هناك بالقوة.
ويمكنك القراءة بالتفصيل عن جزيرة صقلية الإسلامية، وتأثر لغتها القديمة تاثراً كبيراً باللغة العربية من هنا.