دائماً ما يكون التصوُّر عن عملاء المخابرات أنّهم أشخاصٌ غريبيون، غامضون، لديهم شخصياتٌ متعددة، وهذا صحيح بالطبع، ولكن قصّة هذا الجاسوس مثيرة للغاية، لأنّه لم يكن بالأساس جاسوس وإنما كان مجرماً. لديه عصابة تسرق الناس. فكيف تحوّل إيدي تشابمان إلى جاسوس بريطاني يؤثر في مجريات الأحداث ويخدع النازيين؟!
إيدي تشابمان.. عسكري فاشل يتحوّل إلى جاسوس
عندما بدأت الحرب العالمية الثانية سيطر النازيون على أغلب أوروبا، حتّى احتلوا باريس، ومن هناك فكّر هتلر أنّه يمكنهم الآن عبور القناة الإنجليزية وغزو بريطانيا. عرفت هذه الخطّة باسم "خطّة أسد البحر" لكنّها لم تنجح. يمكنك القراءة عن تفاصيل هذه الخطة من هذه المادة.
كان حلم هتلر هو السيطرة على كامل أوروبا، بما فيها الجزيرة البريطانية المفصولة عن أوروبا بالقناة الإنجليزية. وأثناء أيام الحرب المرعبة تلك كان البريطانيون متوجّسين من الجواسيس الألمان الذي جابوا أوروبا طولاً وعرضاً.
لكنّ الضربة الحقيقيّة أنّ الجاسوس الذي سيعمل لصالح النازيين داخل بريطانيا كان بريطانياً خالصاً. هو إيدي تشابمان.
وُلد إيدي تشابمان في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1914 لعائلةٍ عسكرية والتحق بالجيش البريطاني عندما بلغ 17 عاماً. وعقب تخرجه وعمله لمدة تسعة أشهر في حراسة برج لندن، هرب مع امرأة إلى منطقة سوهو في لندن.
قُبض على تشابمان وسُجن. وبمجرد إطلاق سراحه وتسريحه من الجيش عاد إلى منطقة سوهو، وانخرط في لعب القمار وارتكاب الجرائم الصغيرة، حيث ارتكب بضع مخالفاتٍ قانونية، وشكّل في النهاية مجموعة إجرامية عرفت باسم "عصابة جيلي".
وفي عام 1939، بعد أن ارتكب سلسلةً من عمليات السطو في جميع أنحاء "بريطانيا العظمى" وصار مطلوباً بسببها، هرب إدوارد أرنولد تشابمان إلى جزيرة جيرزي على بحر المانش، على بُعد أميالٍ قليلة من ساحل فرنسا. وهناك، كان يأمل في الهروب من الملاحقة القضائية وربما مواصلة مسيرته الإجرامية.
لم يمضِ على تشابمان وقتٌ طويل قبل أن يقبض عليه المحققون ويحكم عليه بالسجن لمدة عامين. وتمّ تمديد هذه العقوبة في وقتٍ لاحق عندما سرق تشابمان ملابس شخصٍ آخر أثناء سجنه في محاولة للهرب مرة أخرى.
وفي هذه الأثناء، عندما كان إيدي تشابمان يقضي فترة عقوبته عام 1940، غزت القوات الألمانية جزر بحر المانش، وهكذا أصبحت الأراضي البريطانية الوحيدة التي احتلتها قوى المحور خلال الحرب.
فجأةً اتخذ تشابمان قراراً من شأنه أن يغير مسار حياته بشكلٍ دائم، بل وسيغير في مصير الحرب بعض الشيء: الانضمام إلى المخابرات الألمانية جاسوساً ضد بريطانيا.
رسالة واحدة جعلته جاسوساً للنازيين
من سجنهما تحت سلطة القوات الألمانية النازيّة أرسل تشابمان وزميل له في السجن يدعى "فاراموس" رسالة إلى القائد الألماني في الجزيرة، كتبا فيها عن مؤهلاتهما وفضائلهما الإجرامية وقدراتهما اللغوية، وعرضا عليه أن يصبحا جاسوسين للنازيين على الأراضي البريطانية.
كانت خطّة تشابمان كما قال: "إذا كان بإمكاني خداع الألمان، فمن المحتمل أن يرسلوني إلى بريطانيا".
قوبلت الرسالة في البداية بالصمت. وبعد ذلك بفترة أيقظ ضباط البوليس السري الألماني تشابمان وفاراموس من السرير، ودفعوهما بشكلٍ غير رسمي إلى قارب مُتّجه للبرّ الرئيسي لإنجلترا.
كما اتضح بعد ذلك، لم يتم تجاهل رسالتهما على الإطلاق؛ إذ جرى اختيار تشابمان للتدريب على يد الكابتن ستيفان فون غرونينغ، وهو ضابط مخابرات أرستقراطي رأى إمكانات لا مثيل لها في اللص الإنجليزي إيدي تشابمان.
إيدي تشابمان.. العميل المزدوج
تمّ تدريب إيدي تشابمان طوال عام 1942 على المتفجّرات والاتصالات اللاسلكية وكذلك على القفز بالمظلّات. كان يتم تدريبه ليصبح جاسوساً نازياً معتبراً.
طوال عام 1942، قام النازيون بتدريب تشابمان على المتفجرات، والاتصالات اللاسلكية، والقفز بالمظلات. وأصبح يتحدث الفرنسية بطلاقة ويتقن اللغة الألمانية. وبحلول نهاية العام، كان تشابمان قد أصبح أكثر إنجازات الكابتن ستيفان فون غرونينغ فخراً وحسداً من قبل كل قائد شرطة سرية ومسؤول تجسُّس في أوروبا المحتلة. لقد أصبح تشابمان جاسوساً مميزاً.
وكان فون غرونينغ يجهز تشابمان لإنجاز مهمهٍ خاصة، وفي حال نجاحها قد تجعل غرونينغ قريباً من كبار أعضاء الدائرة الداخلية لهتلر.
خدعة تفجير مصنع الطائرات البريطانية
في عام 1940 مثلت الطائرة البريطانية "دي هافيلاند موسكيتو" كابوساً للقوات الألمانية. الطائرة موسكيتو هي قاذفة فائقة السرعة مصنوعة من الخشب الخفيف الوزن، دمّرت بنجاح سلسلة من الأهداف البارزة.
وأثارت هذه الانتصارات المحرجة غضب المارشال هيرمان غورينغ، قائد القوات الجوية الألمانية النازية. ولتهدئة المارشال ولاكتساب ميزة في حروب السماء، خطَّط فون غرونينغ (مدرّب تشابمان) لإرسال تشابمان إلى إنجلترا حيث كان من المقرر أن يفجر مصنع تلك الطائرات.
وفي ديسمبر/كانون الأول 1942، هبط تشابمان في حقلٍ موحل في كامبريدجشير قرب لندن، وفجأةً استسلم للبريطانيون.
رغم أنّه كان مجرماً مُداناً ومسجوناً في سجنٍ بريطانيّ لم ينوِ تشابمان أن ينفّذ مهمّة تفجير المصنع.
وجرى احتجاز تشابمان بسرعة من قِبل المكتب الخامس وهي وكالة بريطانية لمكافحة التجسس. تمّ استجوابه وفحصه قبل أن يقرر خاطفوه أنه يمكن الوثوق به.
سرعان ما جرى إدخال تشابمان، الذي أطلق عليه اسم "العميل Zigzag"، في نظام الصليب المزدوج البريطاني، وهو نظام يهدف للسيطرة على شبكة التجسس الألمانية بالكامل في بريطانيا باستخدام عملاء مزدوجين سريين.
العميل Zigzag يدمر النازيين تماماً
بالطبع كان تجنيد تشابمان أحد أهم الإنجازات للمخابرات البريطانية في ذلك الوقت، فقد استطاعوا تجنيد أهم جاسوس نازي في بريطانيا لصالح بريطانيا.
لكن كان عليهم أيضاً ألا يفقدوا تشابمان موقعه في الاستخبارات النازية، ولهذا رتّبت المخابرات البريطانية عملية "تفجير زائفة" لمصنع طائرات الموسكيتو، وبثوا تقارير مزيفة عن تفجير المصنع، وعندما عادت طائرات الاستطلاع الألمانية بصور الحطام الواضح، اعتبر جهاز المخابرات الألماني أنّ العملية ناجحة. وهذا بالطبع أعطى إيدي تشابمان رصيداً لدى النازيين.
بعدما أصبح إيدي تشابمان محل تقديرٍ كبير بسبب عملية تفجير المصنع الزائفة، أرسلته المخابرات الألمانية إلى النرويج لتدريب الجواسيس النازيين الجُدد.
وفي 20 يوليو/تموز عام 1944 وقعت محاولة اغتيال هتلر، وعلى أثرها تمّ تفكيك جهاز الاستخبارات العسكرية الألماني، حينها أصبح تشابمان دون مرشد له أو ضابط مسؤول عنه في الاستخبارات الألمانية، وظل طوال الفترة المتبقية من الحرب يرسل معلوماتٍ كاذبة ويتعمَّد تحريف فعالية برنامج الصواريخ الألماني وتأثيره على أراضي إنجلترا.
وعلى الرغم من نجاحاته العديدة وقيمته التي لا مثيل لها، سئم المكتب الخامس MI5 من رجل رأوه -في النهاية- عبئاً. جعلوا تشابمان يُقسم على السريّة الدائمة وطُرد رسمياً من الخدمة السرية في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1944. ولم يعد العميل Zigzag بعد ذلك.
إيدي تشابمان.. الجاسوس المزدوج يعود لحياة الجريمة مرة أخرى!
بعد تسريح المكتب الخامس MI5 لإيدي تشابمان كانت فرصة مثالية له للعودة إلى حياته المهنية الإجرامية.
كمجرم، كان تشابمان يتمتّع بحصانةٍ لا مثيل لها: فبعد قيامه بأكثر مهام التجسس جرأة في الحرب العالمية الثانية، لن تخاطر الحكومة البريطانية أبداً بوقوعه في أيدي أيٍّ من ضباط الشرطة العاديين أو المراسلين الصحفيين الذين قد يحثُّونه على إفشاء الأسرار.
وعلى الرغم من كل السرية التي أحاطت بقضية Zigzag ونظام الصليب المزدوج (العملاء المزدوجين)، فقد كانت مسألة وقت فقط قبل ظهور الحقيقة. وكان تشابمان أول من خرق تعليمات الحفاظ على السرية ونشر قصته في فرنسا قبل أن يحاول أن يفعل الشيء نفسه في صحيفة News of the World البريطانية. وفي عام 1953 أصدر مذكراته.
تزوّج Zigzag من صديقته بيتي فارمر، تلك الفتاة التي هجرها عندما ألقي القبض عليه أول مرة في جزيرة جيرزي، وأنجب منها لاحقاً ابنة.
أسس إيدي تشابمان حياةً هادئة وأصبح رجل أعمال وتاجرَ تحفٍ في السنوات اللاحقة. وتوفي بسبب قصور في القلب عن عمر يناهز 83 عاماً في 11 ديسمبر/كانون الأول 1977.
وفي عام 1960، عندما سُئل عما إذا كان يفتقد حياته الإجرامية السابقة في الجريمة والجرأة والتجسس، أجاب تشابمان ببساطة: "نعم قليلاً. أنا لست نادماً على تلك الفترة ولا أشعر بأي ذنب حيال أي شيء فعلته. أحب أن أعتقد أنني كنت شريراً صادقاً ومخلصاً".