عُرفت الأندلس بإنجابها العديد من العلماء الكبار في شتى العلوم والمعارف، والمؤثرين بشكلٍ كبير في النهضة الأوروبية الحديثة مثل الطبيب والفيلسوف ابن رشد على سبيل المثال.
وبالحديث عن العلوم الطبيعية يتبادر للذهن دوماً عباس بن فرناس، العالم المشهور بأول محاولة طيران ناجحة، إلا أن هناك علماء آخرين لم يحوزوا نفس الشهرة رغم إنجازاتهم العلمية الكبيرة، ومن ضمن هؤلاء عالم الفلك الأندلسي جابر بن أفلح.
جابر بن أفلح.. القليل من تفاصيل حياته رغم إنجازاته
لا يُعرف سوى القليل عن حياة جابر بن أفلح، إلا أنّ موسى بن ميمون، الفيلسوف والطبيب اليهودي الشهير من مواليد قرطبة عام 1135، ذكر في كتابه دلالة الحائرين أنّ جابر كان من إشبيلية وأنه عاش في نهاية القرن الحادي عشر والنصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي.
كان حظّ جابر أن يأتي في فترة سياسية صعبة من تاريخ الأندلس، فترة ملوك الطوائف التي كَثُرَت فيها الفتن وانتشرت فيها النزاعات والحروب، إلا أن ذلك لم يثنِه عن الوصول لأهم الإنجازات والاكتشافات في علمي الفلك والرياضيات.
تصحيح المجسطي.. الانتقاد والتصحيح الأبرز لآراء بطليموس
كان جابر بن أفلح الإشبيلي الأندلسي، أحد كبار علماء الرياضيات والفلك. كان العمل الرئيسي وأكثر ما اُشتهر به جابر هو إسهامه العلمي في علم الفلك وما قام بتصحيحه من آراء بطليموس التي ذكرها في كتابه الشهير المجسطي. وبطليموس هو أشهر عالم رياضيات وفلك وجغرافيا إغريقي، من مواليد القرن الثاني الميلادي في الإسكندرية.
في موسوعةٍ مكونة من تسعة مجلدات، كان الاختلاف الأبرز لجابر بن أفلح عن بطليموس يتعلق بنموذج الكواكب الأدنى (عطارد والزهرة)، حيث اعتقد بطليموس أنّ مكانهما بين القمر والشمس بما يجعل هذين الكوكبين يمرّان بالخطّ الفاصل بين الشمس والأرض.
إلا أن جابر اكتشف خطأ هذه الحجة، ودلَّل بالبرهان أنَّ الكوكبين ليسا أبداً على الخط الفاصل بين الشمس ووجهة نظر الراصد، ما جعل جابر ينتقد بطليموس بشدة، وقال إنه يجب تحسين الأساس الرياضي لكتاب المجسطي الذي كتبه بطليموس، على الرغم من تعديل بعض نماذج الكواكب من قبل علماء الفلك المسلمين السابقين له. وبذلك، أصبحت مؤلفات جابر بن أفلح أول نقد لكتاب المجسطي في الغرب الإسلامي.
وفي العالم اللاتيني لاحقاً، اعتُبر جابر أشد المنتقدين لبطليموس، وشهدت انتقاداته لبطليموس على قدراته الرياضية، إلا أنّ أدوات عصره لم تسمح له لتسجيل أرقام وأطروحات دقيقة حول اكتشافاته، إذ اُعتُبرت العديد من أعماله مؤلفاتٍ نظرية، ينقصها الجانب التطبيقي. فلا تتضمن مؤلفاته عروضاً توضيحية بالأرقام. كما خلت بعض مؤلفاته من الجداول والأرقام كلياً.
مع ذلك، يبدو أنّ عمل جابر بن افلح كان له تأثير كبير على علماء الفلك العبرانيين. فهناك ترجمتان عبرانيتان لهذا العمل إحداهما يرجع تاريخها إلى عام 1274 لموشيه بن تيبون والثانية بواسطة يعقوب بن مخير، ونقحها عام 1335 صموئيل بن يهودا.
وبفضل هذه الترجمات العبرية والترجمة اللاتينية على يد جيرارد كريمونا – وهو مترجم إيطالي للأعمال العلمية العربية والذي عُثر على أعماله في مكتبات طليطلة في إسبانيا – وصل النص إلى جمهورٍ واسع من العلماء في أوروبا.
معادلة جابر لحل المثلّثات الكروية
المثلثات الكروية، هي المضلّعات – خاصةً المثلثات – التي تُرسم على كرة، بناءً على تقاطع عدد من الدوائر على تلك الكرة، والتي تُستخدم في الحسابات الفلكية وفي الملاحة ولها أهمية كبيرة في التطبيقات المعتمدة على هذين العلمين.
أُنشئ جل أساسيات علم حساب المثلثات – الذي تُعد المثلثات الكروية أحد فروعه – في عهد الإغريق، وتطور هذا العلم تطوراً هائلاً في العصر الإسلامي.
فبِدءاً من عالم الرياضيات الشهير ومخترع علم الجبر الخوارزمي مروراً بالعديد من علماء الرياضيات المسلمين؛ مثل المروزي والبتاني وأبي الوفاء، طور علماء المسلمين العديد من النظريات وساهموا بالكثير من الإسهامات في علم حساب المثلثات، والذي قدم فيه جابر بن أفلح معادلته لحساب المثلثات الكروية، إلا أننا لم نستطِع من خلال المؤلفات والمصادر التي بين أيدينا التي توثق إنتاجات جابر بن أفلح العثور على تلك المعادلة وأهميتها وتطبيقاتها.
تصميمه أول كرة سماوية محمولة
التوركيكوم هو جهاز ميكانيكي يقوم برصد وحساب الإحداثيات والأبعاد الأفقية والاستوائية والإهليجية لتحديد مكان ووقت وجود الأجرام السماوية. أُنشئت الآلة لأول مرة في القرن الثاني عشر، ولذلك؛ يُعتقد أن أول تصميم واختراع للجهاز كان على يد جابر بن أفلح.
بعد اختراعه وُضع الجهاز في العديد من الاستخدامات والتطبيقات في علم الفلك، خاصة أجهزة الرصد. وكان العالم الألماني بيتر أبيان المتخصص في علم الفلك والرياضيات ورسم الخرائط أحد أهم من وثَّقوا ملاحظات على جهاز توركيكوم، وذلك عام 1532.
فقد شرح بالتفصيل كيفية عمل واستخدام الجهاز والذي ذكر أنه يُستخدم في الرصد الفلكي، كما ذكر أن الجهاز أساس للأدوات الفلكية الشائعة في عصره، كما وصف أبيان كيفية صنع الجهاز ونظرية عزم الدوران للقياسات الفلكية التي يعمل على أساسها الجهاز.
ومن الجدير بالذكر أن العديد من العلماء اللاحقين على جابر بن أفلح، خاصة الأندلسيين، مثل ابن رشد الفيلسوف المسلم المعروف، والفيلسوف والعالم الفلكي نور الدين البطروجي، قد تأثروا بكتابات وآراء جابر بن أفلح، واعتمدوا على اكتشافاته كأساس علمي طوروا على إثرها العديد من الإسهامات العلمية الأخرى.