جميعنا سمع عن نضال الزعيم الأمريكي ذي الأصول الإفريقية مارتن لوثر كينغ، وكيف لا، وهو من ينسب له الفضل في إنهاء التمييز العنصري ضد السود في أمريكا (عام 1964) حتى حصل على جائزة نوبل للسلام، وكان أصغر من يحوز عليها. لكن الفضل وراء حركة النضال هذه كانت امرأة اسمها روزا باركس (Rosa Parks).
روزا باركس.. المرأة التي وقفت في وجه قوانين عنصرية
قبل أن نخبرك عن روزا، دعنا نرسم لك صورة لما كانت عليه أمريكا قبل 1 ديسمبر/كانون الأول 1955.
أين تحب أن تركب في الحافلة؟ بالنسبة لي – مثل ثلاثة أرباع الكوكب تقريباً – أحب الجلوس بجوار الشباك، قد يكون لك تفضيلات أخرى. لكن تفضيل المكان الذي تجلس فيه في الحافلة لم يكن حقاً لكل الأمريكان قبل تاريخ 1955، أو بالتحديد ذوي الأصول الإفريقية والبشرة السوداء، بسبب قوانين جيم كرو (Jim Crow laws)؛ وهي قوانين فرضت على بعض الولايات الأمريكية (سُنت بين عامي 1876 و1965)، وتحديداً الولايات الجنوبية الكونفدرالية السابقة، حيث كانت القوانين توصي بالفصل العنصري في استخدام المرافق العامة.
وقتها، كانت وسائل المواصلات والنقل العامة مقسمة، الكراسي الأمامية لذوي البشرة البيضاء أما الكراسي الخلفية لذوي البشرة السوداء، إذ يمكن لذوي البشرة السوداء أن يركبوا كراسي ذوي البشرة البيضاء في حالة كانت فارغة فقط، لكن بمجرد دخول راكب أبيض الحافلة، يكون على ذوي البشرة السوداء إخلاء المقاعد، وإن لم يفعلوا ذلك من أنفسهم، سيجبرهم سائق الحافلة، الذي امتلك – في بعض المدن – صلاحيات ضابط الشرطة في أثناء توليه قيادة الحافلة، إذ كان يُمكنه إجبار الركاب على الجلوس في المقاعد المخصصة لهم، ويتيح القانون له ذلك.
بل ويتيح القانون أيضاً أن يترك ذوو البشرة السوداء مقاعدهم المخصصة لهم، طالما لم يجد راكب أبيض مقعداً فارغاً يجلس فيه، المهم ألا يقف أي راكب أبيض حتى لو وقف كل الركاب من ذوي البشرة السوداء.
لنقرب الصورة أكثر. في مدينة مونتغمري بولاية ألاباما، حدث أن جلس مواطنون من ذوي البشرة السوداء في مقاعد البيض، وعندما بدأ الركاب من ذوي البشرة البيضاء في ركوب الحافلة، بدأ الركاب السود في إخلاء مقاعدهم للبيض بالتدريج، لكن لم يفعل جميعهم هذا.
إذ لاحظ سائق الحافلة أن ركاباً من ذوي البشرة البيضاء يقفون في الممر، بينما لا يزال 4 ركاب من ذوي البشرة السوداء يجلسون. هنا أوقف السائق الحافلة، وقال إن القانون يمنحه حق إيقاف الخدمة بل والاتصال بالشرطة عند مواجهة مشكلة عويصة كهذه، حيث يقف راكب أبيض بينما يجلس راكب أسود.
امتثل 3 ركاب لكلامه وعادوا فوراً للمقاعد الخلفية، لكن واحدة فقط رفضت أن تترك مقعدها، كانت هذه روزا باركس. سألها السائق سؤالاً غريباً على مسمعها حينما قال: "لماذا لا تقفين؟"، فأجابت بمنتهى البساطة: "لا أعتقد أن علي الوقوف". عندها اتصل السائق بالشرطة، التي لم تتأخر، وحضرت سريعاً لاعتقال السيدة المخالفة للقانون، التي لم تترك مقعدها للركاب البيض.
اعتقلت الشرطة باركس من الحافلة، واتهمت بانتهاك القانون (الفصل 6 من القسم 11 من قانون مدينة مونتغمري)، وجرى اقتيادها إلى مقر الشرطة. نعم، أفرج عن روزا بكفالة في وقت لاحق من تلك الليلة، لكن هذا الحادث لم يمر مرور الكرام، وفقاً للسرد التاريخي الذي قدمه موقع Biography.
انتشر الخبر سريعاً خصوصاً بين ذوي الأصول الإفريقية الذين احتجوا على ما حدث لباركس، وقرروا مقاطعة ركوب الحافلات احتجاجاً على اعتقالها، وأقاموا حملات تشجع الناس على البقاء في منازلهم، وعدم النزول للمدارس والعمل، أو استخدام سيارات الأجرة، أو حتى المشي، في مقابل مقاطعة ركوب الحافلات، وطبعوا منشورات وثبتوها على جدران أحياء ذوي البشرة السوداء.
بدأ ذوو البشرة السوداء في تجميع حشود لدعم باركس ورفض الفصل العنصري عموماً، حتى إن أكثر من 500 شخص كانوا في استقبالها أمام المحكمة في أولى جلساتها، بعد 4 أيام على حادث الاعتقال (5 ديسمبر/كانون الأول). بعد جلسة استماع استغرقت 30 دقيقة، أدينت باركس بانتهاك قانون محلي وغرمت 10 دولارات، بالإضافة إلى رسوم المحكمة 4 دولارات.
قرار المحكمة زاد غضب ذوي البشرة السوداء الغاضبين بالفعل، ولم تنته حملة المقاطعة بل زادت الدعوات لاستمرارها. وقرر ذوو البشرة السوداء في المدينة البالغ عددهم 40 ألفاً ألا يركبوا الحافلات لأطول فترة ممكنة (استمرت الحملات لـ381 يوماً)، وكان خيارهم إما أن يركبوا سيارات الأجرة التي يديرها الأمريكيون من أصل إفريقي، أو أن يمشوا، وكان هذا هو الخيار الأكثر تنفيذاً، رغم طول المسافات التي وصلت أحياناً لـ 35 كيلومتراً.
استمرت حملة المقاطعة لـ 381 يوماً، وتسبب هذا في تعطل عدد من الحافلات العامة وأزمات مالية لشركات النقل، فيما امتدت دعوات إيقاف التمييز العنصري لمدن وولايات أخرى، وأخذت حركة النضال ضد الفصل العنصري تتسع وتكبر، وكان أبرز قادتها، الذي نعرفه جميعاً، مارتن لوثر كينغ. انتهت حركة النضال هذه بحكم المحكمة العليا الذي أعلن أن الفصل العنصري في أنظمة النقل العام غير دستوري (13 نوفمبر/تشرين الثاني 1956).
نعم، نهاية النضال كانت جيدة، لكن حياة روزا انقلبت رأساً على عقب
روزا، التي كان لها الفضل في حركة النضال هذه، خسرت عملها هي وزوجها بسبب موقفها، وتوقف مصدر دخل السيدة البالغ عمرها وقتها 42 عاماً (ولدت بتاريخ 4 فبراير/شباط 1913 في توسكيجي بولاية ألاباما) هي وزوجها، وفق الموقع التاريخي History.
حياة روزا بالأساس لم تكن سهلة، إذ انفصل والداها وهي في الثانية من عمرها، وانتقلت مع والدتها إلى منزل جديها في مدينة باين ليفل، وتأثرت بمواقف جديها اللذين كانا مدافعين عن المساواة العرقية، خصوصاً أنها درست بمدارس منفصلة، ولم تكن حافلات المدارس متاحة للطلاب من أصل إفريقي، لذلك كانت تذهب سيراً للمدرسة.
لكن باركس تركت المدرسة وهي في المرحلة الثانوية بسبب مرض جدتها ووالدتها، وبدأت في العمل لتحصيل دخل، كان عملها الأول كموظفة في مصنع قمصان. بعد فترة تزوجت باركس من حلاق يدعى ريموند باركس، وانتقلا لمدينة مونتغمري، قد دعمها زوجها للحصول على شهادتها الثانوية، وبالفعل نالتها وهي بعمر الـ20 عاماً (سنة 1933).
كان زوج باركس أيضاً ناشطاً مطالباً بالمساواة العرقية، وقد شارك وأيضاً زوجته في العديد من النشاطات الحقوقية، وتفرغا لهذا الهدف، خصوصاً أنهما لم يملكا أطفالاً. لكن بعد حادث اعتقالها، فقد الزوجان مصدر دخلهما، حيث فقدت باركس وظيفتها في متجر، وفصل زوجها بسبب حديثه عن قضية زوجته، ولم يستطع الزوجان تأمين عمل بديل، ما اضطرهما في النهاية لمغادرة المدينة والانتقال لمدينة ديترويت.
لكن بعدها تحسنت حياة الناشطة ضد العنصرية خصوصاً مع الاستجابات التي كانت ترضخ لها الحكومة مع تصاعد حركة النضال والاحتجاج، حيث عملت باركس سكرتيرة وموظفة استقبال في مكتب الممثل الأمريكي جون كونيير في الكونجرس، كما عملت أيضاً في مجلس إدارة اتحاد تنظيم الأسرة في أمريكا.
لم يتمكنوا من العثور على عمل، غادروا مونتغمري في النهاية وانتقلوا إلى ديترويت، ميشيغان مع والدة باركس. هناك، صنعت باركس حياة جديدة لنفسها، حيث عملت سكرتيرة وموظفة استقبال في مكتب الممثل الأمريكي جون كونيير في الكونغرس. عملت أيضاً في مجلس إدارة اتحاد تنظيم الأسرة في أمريكا.
ثم في عام 1987، أسست باركس مع صديقتها القديمة إلين إيسون ستيل، معهد روزا وريموند باركس للتنمية الذاتية لتنظيم جولات بالحافلات بعنوان "مسارات للحرية-Pathways to Freedom" لتعريف الشباب من ذوي البشرة السوداء بحقوقهم المدنية. ثم في عام 1992، نشرت باركس كتاب "روزا باركس: قصتي"، وهي سيرة ذاتية تروي قصة حياتها، وبعد 3 أعوام نشرت كتاب "القوة الهادئة-Quiet Strength"، والذي يتضمن مذكراتها وتركز على الدور الذي لعبه الدين في حياتها، وصنفت مجلة Time باركس على قائمتها لعام 1999 لـ "أكثر 20 شخصاً تأثيراً في القرن العشرين".
كذلك سوت باركس قضيتها القديمة لكن متأخرة قليلاً (العام 2005) واعترف القضاء بأنها لم ترتكب أي مخالفة، وذلك قبل أشهر من وفاتها في شقتها في هدوء وصمت، (توفيت في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2005 عن عمر 92 عاماً بسبب مضاعفات إصابتها بالخرف التي شخصت به في 2002) بعد سنوات حافلة كان صوتها فيها عالياً ومسموعاً، وقد ودعها أكثر من 50 ألفاً حضروا جنازتها، فيما لا تزال ذكراها حاضرة في أمريكا إلى الآن، وأصبحت بطلة لكثير من قصص الكتب والأفلام.
وللمفارقة الغريبة بعض الشيء، فقد أعاد بعض ضباط الشرطة الأمريكية من ذوي البشرة السوداء إحياء ذكراها قبل أيام في مبنى الكابيتول (Capitol)، حيث التقطوا صوراً تذكارية أمام تمثالها الواقف هناك، في لفتة لاقت أصداءً وتغطية إعلامية واسعة بسبب توقيتها بعد أسبوع من اقتحام أنصار ترامب – كان أغلبهم من ذوي البشرة البيضاء – للمبنى.