نساء كثر ذاع صيتهم عبر التاريخ وعُرفن بنسبهم وما وصلن إليه من مراتب علمية وثقافية أو اكتشافات وإنجازات عالمية، وأميرات تربعن على عروشهم وتناقل المؤرخون فترات حكمهن. ولكن بعض الأميرات اللواتي قد لا يذكرن كثيراً في كتب المؤرخين. ومنهم الأميرة عزيزة الملقبة بـ"عثمانة" التي حكمت قلوب الفقراء والمساكين وتربعت على موائدهم وقدمت لهم أسرّة العلاج. لنتعرف على هذه الأميرة التي استمر أثر إحسانها حتى يومنا هذا.
أصل الأميرة وقصة لقبها بـ"عثمانة"
الأميرة عزيزة حفيدة الحاكم التركي الأصل عثمان داي، أميرة تونسية من أصل عثماني. عرفت بإحسانها وبرّها وتقواها وحبها لفعل الخير ومساعدة الناس والفقراء. وُلدت في بدايات القرن السابع عشر ولُقبت بـ"عثمانة" نسبة إلى جدّها.
تعرّف معنا على الأميرة صاحبة المآثر وأعمال الخير التي لا يزال إحسانها حاضراً إلى اليوم في ذاكرة التونسيين وحياتهم.
عثمانة في عيون شعبها والمؤرخين
كانت الأميرة عثمانة جميلة وبارعة متعددة المواهب. كما أنها كانت مدللة عند والدها الذي كان يعتبرها درة بيته.
عُرفت عثمانة بألقاب كثيرة عرفت بها بين الناس، منها: "أميرة الإحسان" و"صاحبة المبرات"، و"مفيضة الخيرات" و"ذات اليد البيضاء"، إذ إنها لم تترك نوعاً من أنواع أعمال الخير إلا وساهمت فيه وكان لها نصيب منه. والعديد من أعمالها الخيرية لا يزال أثرها حاضراً إلى يومنا هذا.
مآثرها وأعمالها الخيرية
عُرفت الأميرة عثمانة بأعمالها الخيرية لمساعدة الفقراء والمعوزين والمجتمع بشكل عام، وهذه أبرز أعمالها الخيرية:
عتق العبيد وإطلاق المماليك
بعد زيارتها الأراضي المقدسة وأداء مناسك الحج رفقة عدد كبير من الخدم والعبيد والمماليك الذكور والإناث، عادت الأميرة وأطلقت المماليك وأعتقت العبيد لوجه الله. كانت هذه خطوة جريئة تنم عن شجاعة وفهم إنساني عميق للدين.
وهب ممتلكاتها وثروتها للمشاريع الخيرية
لم تكتفِ عزيزة عُثمانة بهذا العمل الإنساني، بل قامت بخطوة عظيمة خلدت ذكراها وإحسانها حتى هذا اليوم، فقد أوصت بوقف ثلث العقارات والأراضي الشاسعة التي كانت على ذمتها والتي كانت تزيد مساحتها على 90 ألف هكتار. وفي كتابه "شهيرات التونسيات" يذكر الكاتب حسن حسني عبدالوهاب أن الأميرة تخلت، بمحض إرادتها، عن كل ثروتها وأملاكها وأوقفتها للمشاريع الخيرية لمساعدة الفقراء، وتجهيز الفتيات بلوازم زفافهن اللاتي يعانين من الفقر والمساهمة في الإنفاق من أجل عتق العبيد وافتداء الأسرى وغيرها من المشروعات الخيرية والدينية والإنسانية عامة. وكانت في مناسبة ليلة القدر من كل سنة تتعهد بمصاريف الختان لأبناء الفقراء.
مستشفى عزيزة عثمانة بالقصبة
حرصت الأميرة على مداواة الفقراء، ومن أهم الإنجازات التي حققتها تخصيص جانب من وقفها لتمويل بيمارستان بالقصبة لمعالجة الفقراء وإيواء العجز، وأطلق عليه "بيمارستان العزافين". وهو من أقدم المستشفيات في العاصمة التونسية، أطلق عليه الفرنسيون في عهد الحماية الفرنسية على الإيالة التونسية (1881 – 1956م) اسم المستشفى الصادقي.
وفي عام 1960 أعادت حكومة الاستقلال تسميته وأطلق عليه "مستشفى عزيزة عثمانة" تخليداً للأميرة المحسنة، وما زال يحمل الاسم نفسه حتى اليوم.
ميولها المبكرة للعبادة وللعلم
أظهرت الأميرة عثمانة ميولاً مبكرة لدراسة الأدب وتلقي العلوم الدينية، فدرستها على أيدي نخبة من الأساتذة والفقهاء. كما حفظت القرآن، ودرست الآداب وأصول التربية وإدارة البيت، وفقه الدين ومعارفه.
تحدث المؤرخ الصادق الزمرلي في كتابه "أعلام تونسيون" (Figures Tunisiennes) الذي ألفه بالفرنسية، وترجمه الكاتب والمؤرخ حمادي الساحلي إلى العربية بعنوان "أعلام تونسيون"، عن اهتمام عثمانة منذ فترة مراهقتها بالتأمل والعبادة، وأنها لم تكن تبالي أو تظهر عليها مظاهر الترف والبذخ الذي كان يحيط بالعائلة المالكة. بل على العكس، كونها نشأت في بيئة مترفة وغنية جعلها تدرك أكثر معاناة الفقراء وعامة الناس وتحاول مساعدتهم بكل الوسائل الممكنة لديها آنذاك.
وفاتها ووصيتها
تُوفيت الأميرة سنة 1669، فدُفنت قرب المدرسة الشماعية، في مقام الولي سيدي بن عروس، عند قدمي جدها عثمان داي.
كانت الأميرة محبة للطبيعة والنباتات؛ لذلك أوصت بوقف بعض الأموال كي يوضع على قبرها فجر كل يوم إكليلٌ من الزهور حسب الفصول، وإن تلاشت هذه العادة حالياً، فقد حافظت بعض فتيات العائلات بمدينة تونس العتيقة على وضع الزهور على قبرها عند حلول الربيع من كل سنة.