بعدما أزالت السلطات السعودية اسم السلطان العثماني سليمان القانوني من أحد شوارع العاصمة الرياض، دارت معركة تغريدات على تويتر حول هذا السلطان وإنجازاته وعلاقته ببلاد الحجاز، إلى غير ذلك من النقاشات والمعارك "التويترية"، وهي المعارك التي لا تلبث أن تخرج كلّ عدّة شهور، ليس آخرها المعركة التي دارت منذ أقل من شهرين حول #الرواق_العثماني في الحرم المكي.
فيما يلي نتناول بالبحث والتدقيق قصّة سليمان القانوني والحرم المكي، بعيداً عن المكايدات السياسية التي تخرج على تويتر بين وقتٍ وآخر. فإذا أراد القارئ العزيز الوقوف على الحقائق التاريخية المثبتة، فعليه أن يتخلّى أولاً عن المواقف المسبقة أو المعارك الأيديولوجية أو السياسية، التي تستدعي التاريخ أحياناً في غير سياقه.
فلنعد للوراء قليلاً: كيف وصل العثمانيون إلى بلاد الحجاز؟
دخل السلطان سليم الأوّل (والد السلطان سليمان) بلاد الشام، ثمّ مصر عام 1517، واستطاع القضاء على دولة المماليك التي كانت تضمّ مصر والشام وبلاد الحجاز واليمن وبعض المناطق الأخرى، ووسّع بذلك الدولة العثمانيّة. ويمكنك قراءة هذا الموضوع للاطلاع أكثر على ظروف وملابسات دخول العثمانيين مصر والشام وبقية الأقطار العربية.
ما يهمُّنا في هذا السياق هو أنّ السلطان سليم الأوّل حين ضمّ مصر والشام إلى سلطانه انضمّت بالطبيعة بلاد الحجاز إلى سلطان العثمانيين، بعد أن كانت تحت حكم المماليك بقيادة طومان باي. ويخبرنا المؤرخ الروسي نيقولاي إيفانوف في كتابه "الفتح العثماني للأقطار العربيّة، أنّ السلطان سليم الأوّل "حافظ على الاستقلال الذاتي لبلاد الحجاز. واعترف بوضعها الخاص"، بعدما وصلته سفارة شريف مكّة أبو البركات مسلِّماً مفتاح الكعبة للسلطان سليم، مشفوعاً بالتهاني وبعض الهدايا.
بل إنّه أقيم احتفال عام 1517، أدّى فيه شريف مكّة يمين الولاء للسلطان سليم الأوّل، واقسم معه بالولاء لكلّ القبائل العربية الكبرى في الحجاز وسوريا.
ومن هنا بدأ الوجود العثماني في بلاد الحجاز، التي كانت تابعةً لدولة المماليك في القاهرة، وبدأ معه الوجود العسكري أيضاً، لكنّ إيفانوف يذكر أيضاً أنّ العثمانيين تركوا للأشراف الاستقلال الكامل في الحجاز، واكتفوا بتأمين سواحلها عسكرياً، خصوصاً ضدّ هجمات البرتغاليين على البحر الأحمر.
توفي السلطان سليم الأوّل ليورِّث السلطنة لابنه الشاب سليمان القانوني، الذي استمرّ حكمه 46 عاماً، من عام 1520 وحتى عام 1566، ووصلت الدولة العثمانية في عهده لأقصى اتساع لها، من أسوار فيينا في أوروبا إلى الشرق الإسلامي كاملاً تقريباً.
سليمان القانوني وبلاد الحجاز
بالعودة لكتب التاريخ يمكننا تحديد علاقة سليمان القانوني، سلطان العثمانيين، ببلاد الحجاز في أمرين: الأوّل هو علاقته بالحرمين الشريفين وبالمساجد والآثار الإسلامية، والثاني له علاقة بالسياسة الخارجية لبلاد الحجاز، وسنتناول الأمرين الآن.
يَذكر لنا المؤرخ الروسي فلاديمير إيفانوف أنّ العثمانيين في بلاد الحجاز اهتمُّوا اهتماماً خاصاً بمراقبة أموال المساجد في مكّة باهتمامٍ بالغ، والاعتناء بحال الطرق وخزانات المياه وإرسال الحبوب وحماية الحجاج المسلمين.
وهو ما تؤكده رسالة الدكتوراه التي نشرها الباحث السعودي د. محمد فهد عبدالله الفعر عام 1984 بعنوان: الكتابات والنقوش في الحجاز في العصرين المملوكي والعثماني، من القرن الثامن الهجري حتى القرن الثاني عشر الهجرير. يعود بنا الكاتب إلى الإعمارات المملوكية والعثمانية في بلاد الحجاز، للمساجد والأماكن التاريخية.
ويذكر د. الفعر العديد من الترميمات والإنشاءات العثمانيّة للمساجد والمدارس وبقية أنواع البنايات الدينية في بلاد الحجاز. ولكننا هنا سنذكر فقط بعض التفاصيل الخاصة بالسلطان سليمان القانوني. فقد جدَّد السلطان سليمان مآذن الحرم، وجدَّد مئذنة باب العمرة، كما عمَّر مئذنة باب علي بالجانب الشرقي.
كما جدَّد المقامين المالكي والحنبلي، وأصلح مقام إبراهيم، ووضع منبراً من الرخام الأبيض في المسجد، وظلّ يُخطب عليه حتّى عام 1980، عندما نُقل المنبر لاحقاً لمتحف الحرم. كما عمّر مكان مولد النبيّ محمد، وكذلك عمّر مكان دار السيدة خديجة، وغيرها الكثير من الإنشاءات والإعمارات والترميمات.
وننقل هنا بعضاً مما كتبه المؤلف السعودي: "وكان للسلطان سليمان إصلاحات كثيرة ومتعددة بالحرمين الشريفين، أهمّها أنّه كان يرسل الصدقة الرومية، وهذه الصدقة وإن كانت معروفة من عهد أجداده من بني عثمان إلا أنّه هو الذي زادها وضاعفها، حتّى أصبحت على حد قول المؤرخين مادة حياة أهل الحرمين الشريفين، وبها معاشهم وقيام أودهم، حتى بلغت في عهده ثمانية عشر ألف دينار ذهباً".
ويُعدّد الباحث السعودي أنواع الصدقات التي كان يرسلها السلطان سليمان لأهل الحرمين الشريفين، مثل "صدقة الجوالي"، و"صدقة القمح"، ناهيك عن إرسال كسوة الكعبة أيضاً التي كان يرسلها المماليك من قبله.
بالمحصّلة النهائية، كانت الدولة العثمانية هي الدولة الإسلاميّة الأبرز في ذلك الوقت، وهي الدولة التي تخاطبها دول أوروبا عندما يتعلّق الأمر بالمسلمين، وبالتالي كانت هي الدولة المنوطة بحماية والحفاظ على بلاد الحرمين الشريفين في أفضل حال.
محاربة البرتغاليين في بلاد الحجاز
بشكلٍ عام، ولكي نفهم السياق العالمي في تلك الفترة علينا أن نعود قليلاً إلى الوراء. كان أحد أهم الطرق التجارية البحرية القديمة بين آسيا وأوروبا تمرّ من خلال الخليج والبحر الأحمر، أي من خلال مصر وبلاد الحجاز، ثمّ إلى أوروبا، وبهذا ازدهرت تجارة العديد من الدول الأوروبية، مثل دولتي البندقية وجنوة الإيطاليتين على سبيل المثال.
وبسبب اكتشاف البحارة البرتغاليين طريق رأس الرجاء الصالح، تضاءلت أهمية طريق البحر الأحمر، وأصبح البرتغاليون أسياد المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، حيث كانوا يدورون حول إفريقيا، ثمّ إلى الهند مباشرةً، دون اللجوء للبحر الأحمر أو الطرق الحجازية والمصرية. كان هذا التحوُّل تاريخياً، إذ أثّر على الاقتصاد المملوكي، ما أسهم لاحقاً -ضمن عوامل عديدة- في سقوط دولة المماليك التي كانت تعاني اقتصادياً بسبب الاكتشاف البرتغالي.
ومع تحوُّل الوجهة إلى الدولة العثمانية التي كانت تقلق كل أوروبا، أصبح الصراع في البحر الأحمر هائلاً وكبيراً، ووجودياً بالنسبة للدولة العثمانية والمسلمين من ناحية، وبالنسبة لأوروبا المسيحية والبرتغال من ناحيةٍ أخرى.
أصبح البرتغاليون مسيطرين بشكلٍ كبير على المحيط الهندي والأطلسي، وبهذا يهددون التجارة الإسلامية كاملةً، بل بدأوا يباشرون بعض الأعمال العدائية في البحر الأحمر، بل إنّهم في عصر المماليك هاجموا ساحل جدّة، عازمين على الوصول للحرم.
كانت أساطيل البرتغال تهدِّد سواحل وموانئ الهند المسلمة، ولذلك أرسل أحد أمراء الهند يطلب دعماً من السلطان سليمان القانوني لدعم الهند، ومن السويس في مصر أبحر الأسطول لمواجهة البرتغاليين في الهند. كان البرتغاليون قد سبقوا الأسطول المصري، ووصل سليمان باشا الخادم والي مصر إلى جزيرة ديو الواقعة تحت الاحتلال البرتغالي، ورغم سيطرته على بعض المناطق فيها وحصار قلعتها لمدة عشرين يوماً فإنّه لم يستطع إخراج البرتغاليين منها، فعاد إلى مصر، وفي طريقه ضمّ بعضاً من سواحل اليمن إلى العثمانيين.
وفي خطوةٍ استباقية هاجمت أساطيل البرتغال البحر الأحمر، لهجوم جدّة في بلاد الحجاز والسويس في مصر وإحراق الأسطول الراسي فيها. لكنّ هذه الحملة باءت بالفشل، رغم استطاعتها السيطرة على عدن لبعض الوقت، لكنّ بيري رئيس القبطان البحري العثماني استطاع استعادتها سريعاً، بعد إبحاره من ميناء السويس، وبالطبع السيطرة على عدن كانت تهدد ليس فقط التجارة الإسلامية، وإنما تهدد بلاد الحجاز أيضاً.
وفي عام 1551 خرج القبطان بيري ريّس من السويس بأسطولٍ كبير، واستطاع ضمّ بعض سواحل عُمان، واشتبك مع الأسطول البرتغالي واستطاع التغلب عليه. وفي عام 1553 أيضاً خرج القبطان علي (خليفة بيري رئيس) من البصرة، فواجه أسطولاً برتغالياً تمكّن من هزيمته قرب سواحل عُمان، وبعدها بقليل قابل أسطولاً برتغالياً آخر قريباً من مسقط، فاشتبكا، ولكن لم يفز أحد وانسحبا من المعركة الحامية.
بالإجمال كانت المعارك الدائرة حول البحر الأحمر ومنطقة الخليج معارك وجوديّة للمسلمين، ليس فقط لمسلمي المشرق العربي، وإنّما أيضاً لمسلمي الهند، الذين طلبوا تدخل السلطان سليمان. وغير خافٍ ما كان يمكن أن يحدث لبلاد الحجاز لو لم يجد البرتغاليون من يتصدَّى لهم، وسيطروا عليها. سواءٌ كان من تصدى لهم من العثمانيين في عهد السلطان سليمان القانوني، أو في عهد المماليك الذين دارت بينهم وبين البرتغاليين عدّة معارك.
كما أنّ بلاد الحجاز لم تكن في تلك الفترة معادية بأيّ شكلٍ من الأشكال للسلطنة العثمانيّة، والدلائل على ذلك كثيرة لمن أراد الغوص في كتب التاريخ.