منذ فجر التاريخ سيطرت "فكرة الخلود" على البشر، في الأساطير القديمة في حضارة وادي الرافدين تجد "ملحمة جلجامش" وقصة بطلها الذي خاض الأهوال حتى وصل إلى "زهرة سحرية" تمنحه الخلود.
وصولاً الى الثقافة الأوروبية غرباً وقصص الفرسان الذين بحثوا عن "ينبوع الحياة"،
أما شرقاً في الحضارة الصينية فتجد قصة الإمبراطور "تشين شي هوانغ" الذي كلّف رعاياه بإيجاد "إكسير الحياة" بعد أن سيطرت عليه فكرة العيش إلى الأبد.
الشيء المشترك بين تلك القصص، بالإضافة إلى فكرة "الخلود"، أن جميعها انتهت بفشل أصحابها في العثور على سر الحياة الأبدية.
اليوم بدلاً من ينبوع الحياة أو زهرة سحرية، تتوجه الأنظار نحو "شركات التكنولوجيا الحيوية" في وادي السيليكون، التي يدعي القائمون عليها أنها تستطيع إيجاد السر لحياة طويلة تمتد لمئات السنين أو كما وصفها البعض إيجاد حل لـ"مشكلة الموت".
في السنوات الأخيرة ظهر ما لا يقل عن عشرين شركة تعمل على تطوير الأدوية أو الأبحاث الجينية التي يمكن أن تبطئ، أو في بعض الحالات تعكس عمر أعضاء الجسم، وبدلاً من أن تتقدم خلايا تلك الأعضاء بالعمر وتنهار، تُجدد شبابها وتصلح نفسها، وربما في يوم من الأيام يمكن أن تُجدد شباب الجسم بأكمله.
بعض تلك الشركات أثارت اهتمام وأموال المليارديرات الذين جذبهم الوعد بالحياة الأبدية ورغبتهم باحتمالية وجود أموال يمكن جنيها في هذا المجال الواعد، وخصصوا بالفعل جزءاً من ثرواتهم للاستثمار في هذه الشركات وتمويل أبحاثها.
استثمر جيف بيزوس، ثاني أغنى رجل في العالم في شركة تسمى "Altos Labs"، الشركة الناشئة المناهضة للشيخوخة تسعى إلى تكنولوجيا "إعادة البرمجة البيولوجية"، وهي مدعومة مالياً أيضاً من الروسي "يوري ميلنر"، الذي حقق ثروة عندما استثمر في "Facebook" في بداية انطلاق الموقع.
في مكان آخر، تبرع مؤسس Oracle Ellison بأكثر من 370 مليون دولار للأبحاث عن الشيخوخة والأمراض المرتبطة بتقدم العمر.
وساعد مؤسسا "Google"؛ "سيرجي برين" و"لاري بيدج"، في تخصيص مليار دولار لدعم مختبر"Calico" لأبحاث محاربة الشيخوخة.
أما "بيتر ثيل" أحد مؤسسي "PayPal"، فتبرّع بمبلغ 3.5 مليون دولار لدعم أبحاث إطالة العمر وقال: "إن التطورات السريعة في العلوم البيولوجية تنبئ بكنز دفين من الاكتشافات هذا القرن، بما في ذلك تحسين الصحة بشكل كبير وطول العمر للجميع". كان "ثيل" قد رفع استثماره إلى 7 ملايين دولار بحلول عام 2017.
يقول الدكتور إريك فيردين، الرئيس والمدير التنفيذي لمعهد "باك لأبحاث الشيخوخة": "إن الأموال تتدفق إلى "فضاء الشيخوخة"، المليارديرات مثل بيزوس جادون حقاً في تأخير ما لا مفرّ منه، وبدأت عقود من العمل المخبري تؤتي ثمارها".
الشيخوخة مجرد مرض
يرى دعاة إطالة العمر مثل الدكتور "أوبري دي جراي" أن الشيخوخة ليست جزءاً من الحياة، إنما مجرد مرض جوهره هو إحداث ضرر بالجسم وهي عملية تستمر طوال الحياة"
مع وضع هذه المشكلة في الاعتبار، يحاول العلماء الآن الكشف عن الأسباب المعقدة للشيخوخة من أجل إيجاد طرق لإبطاء العملية أو إيقافها أو حتى عكسها.
على سبيل المثال، حدد الدكتور "ستيف هورفاث"، خبير "الإحصاء الحيوي" بجامعة كاليفورنيا، الدور الذي تلعبه "العمليات البيولوجية" داخل الخلايا المعروفة باسم "المثيلة" في الشيخوخة.
وقارن بين عمر الثدييات المختلفة، حيث تلعب أنماط "المثيلة" دوراً مهماً في تحديد كيفية تقدم الحيوانات في العمر سريعاً أو بطيئاً أو في بعض الحالات النادرة لا تتقدم بالعمر على الإطلاق، وتُستخدم حالياً هذه الطريقة المعروفة باسم "ساعة هورفاث" لمحاولة كشف أسرار الشيخوخة.
يقول الدكتور هورفاث : "كل نوع لديه أقصى عمر، والوعد العظيم هنا هو أنه ربما من خلال تعديل حالة (الشيخوخة) في حمضنا النووي، ربما يمكننا بعد ذلك التأثير على عمر جنسنا البشري، وربما يمكننا تمديده إلى 130 أو 150 عاماً".
ألهَم هذا الاحتمال بحث عالم الأحياء الأسترالي "ديفيد سينكلير"، الذي يشارك الآن في إدارة مختبر في كلية الطب بجامعة هارفارد، وأصبح رائداً عالمياً في أبحاث إطالة الحياة. بحسب قوله إنه يحاول "تغيير الساعة ورؤية ما سيحدث".
في دراسة نُشرت في ديسمبر 2020 قام "ديفيد سينكلير" بإجراء تجارب على فئران مُسنّة عمياء ومحاولة عكس عملية الشيخوخة وإصلاح خلايا جسم الفئران لـ"تجدد شبابها".
قال البروفيسور سنكلير: "نظرنا إلى عيونهم على وجه التحديد ..هل يمكنك استخدام الجينات لإعادة ضبط عمر العين؟ وإذا فعلت ذلك، فهل يحدث أي شيء؟".
وبالفعل، تمكن العلماء من "عكس" عملية الشيخوخة في عيون الفئران، واكتشف البروفيسور سنكلير أن عمر العين يتراجع، واستعادت الفئران رؤيتها. ويقترح البروفيسور سنكلير أن هذا النوع من "الترقيع الجيني" يمكن أن ينجح أيضاً في البشر.
تركز شركات أخرى على "التيلوميرات" كمفتاح لإيقاف الشيخوخة، وهي "الأغطية" الموجودة في نهاية كل خيط من الحمض النووي، تصبح التيلوميرات أقصر في كل مرة تنسخ فيها الخلية نفسها؛ ونظراً لأن خلايانا تنسخ نفسها طوال حياتنا فإن "التيلوميرات" تصبح قصيرة جداً في النهاية ولا تستطيع خلايانا أن تتجدد فنتقدم في السن.
من بين الشركات المتنافسة في هذا المجال شركة "BioViva" التي تلتزم مديرتها التنفيذية "إليزابيث باريش" بالقضية؛ لدرجة أنها أصبحت واحدة من أوائل البشر الذين خضعوا للعلاج "بالتيلومير" في عام 2015. وادعت في عام 2018 ، أن قياس التيلوميرات لديها أظهر أنها "نمت" أصغر من الطبيعي منذ أن تلقت العلاج وأن جسدها يتقدم في السن عكسياً.
يدعي آخرون أنهم يستطيعون بالفعل منع الشيخوخة في الحيوانات. يستخدم "جورج تشيرش"، الأستاذ بجامعة هارفارد ومؤسس "Rejuvenate Bio"، العلاج الجيني لإضافة تعليمات "مكافحة الشيخوخة" إلى الحمض النووي. يقول تشيرش إنه نجح في جعل الفئران تعيش ضعف عمرها الافتراضي، وأعلن أن الشركة تخطط لإجراء اختبار وشيك على الكلاب.
القرصنة البيولوجية
البعض الآخر من العلماء والأثرياء والمشاهير يعملون على مجموعة من التقنيات مثل "القرصنة البيولوجية" التي يدعي أنصارها أنه يمكننا تحقيق طول العمر ببساطة عن طريق تغيير عاداتنا وأسلوب حياتنا وبعض المبادئ المثيرة للجدل، وصولاً إلى ممارسة حقن دم الشباب في كبار السن، وهي عملية استنكرتها إدارة الأدوية الفيدرالية الامريكية باعتبارها احتيالاً وعلماً زائفاً.
أما السؤال المهم: "هل نحن قريبون من اكتشاف سر الخلود؟" فالإجابة تعتمد على الطرف الذي تسأله.
يرى أصحاب هذه الشركات أننا قريبون جداً من الوصول إلى سر حياة طويلة، ربما تمتد لمئات السنوات، ويرى المتشككون من بعض العلماء أننا لن نصل لهذه النتيجة حتى في المئة عام القادمة، وأنه بعيداً عن حماس تصريحات القائمين على هذه الأبحاث والوعود التي تقدمها تلك الشركات، فإن النتائج لا تزال بعيدة عن إمكانية تطبيقها على البشر.
وهناك أيضا مخاطر؛ مثل هذه العلاجات والآثار الجانبية لبعضها، والأسئلة التي يتم طرحها حول موارد الأرض وشكل العالم إذا توفر الخلود لجميع البشر، وعن إمكانية تحمل كلفة مثل هذه العلاجات للجميع وهل ستفيد جهودهم الإنسانية جمعاء أم مجرد نخبة قليلة من الأثرياء.