لا شيء أحب إلى نفس الإنسان من النقاش، والأخذ والرد، وتقديم الحجة والبرهان، واليد واللسان؛ لإثبات صحة رأيه وإبطال الرأي الآخر. يمكنك أن تلحظ نقاشاً دائراً في أي ساعةٍ من النهار أو الليل وفي أي بقعة أنت فيها. الآن، حالاً، لو نظرت حولك، أو مددتَ سمعكَ، أو تصفحت "الفيسبوك" لتناهت إليك أصوات نقاشٍ ساخن، عن السياسة أو الوباء أو وفاة أحد المشاهير أو الكرة أو الدين… إلخ.
يبدأ النقاش هادئاً، يتنادون بينهم بـ"أستاذي الفاضل، سيدي المحترم"، تعلو الأصوات شيئاً فشيئًا، ثم يتحفزون جميعاً للحظة الحتمية التي سيتعين عندها أن يُفرغَ كل منهم ما في جعبته من الشتائم والسباب والاتهامات. هكذا تسير النقاشات هنا.
أجدني أكثر التصاقاً بأداة الرأي تلك، وآلية استخدامها الآنِف ذِكرُها. كوني كاتباً، جعلني أكثر ميلاً للكتابة عن التعبير الشفهي. وقد أتاح لي فضاءُ "الفيسبوك" شيئاً من هذا وذاك. وكأي إنسان عادي، تحدوني رغبة دائمة في أن أقول رأيي وأن أدلو بدلوي، حتى لو كان دلوي فارغاً، أو به مسٌّ من غباءٍ أو جنون. أقول رأيي في منشورٍ أو تعليق، ليخرج عليَّ (أستاذي الفاضل وسيدي المحترم) يتبنى رأياً آخر، وليسفِّه من رأيي بالمرة. أتعصب لرأيي جداً، وآخذ الموضوع على محمل شخصي أحياناً، أتخطى بعض الخطوات اللازمة لإنهاء النقاش، وأصل إلى الخطوة الأخيرة سريعاً. أكسر كل معايير المجتمع الفيسبوكيّ واليوتوبيّ الفاضل، معياراً معياراً، فتصلني رسالة الحظر بعد دقائق معدودة، وتُغلق نافذة العالم في وجهي.
هذا ما حدث لي بالفعل، قبل يومين. كنت أمارس الديمقراطية الوهميّة، وأقول رأيي الذي أظن طوال الوقت- بسذاجة- أنه يعني شيئاً ما، قبل أن تخرج لي "أستاذة فاضلة" من حيث لا أدري، وتتهمني بقلة الأدب، ماذا تفعل لو كنت مكاني؟ عادةً لا تحركني الشتائم الإلكترونية ولا تستفزني للردّ، لأن أصحابها مساكين ضعفاء قليلو الحيلة. وأنا أيضاً مثلهم.
أنا (صاحب سوابق) على الفيسبوك وخوارزميات الفيسبوك تعرفني، تدرجت في العقوبات من تحذيرٍ شفهي إلى يومٍ كامل، ثم ثلاثة أيام ثم أسبوع كامل، ولم يكن في انتظاري هذه المرة سوى عقوبة بالحظر الكامل لمدة 30 يوماً. أمسكت لساني فوق ما أطيق، لكنني وقعت في الفخ هذه المرة، رغم حذري الشديد، ورددت الإهانة لتلك السيدة الفاضلة برِقّة وخفّة ظلّ، لم يفهمها "مارك" وخوارزمياته، وأحرزت العقوبة الكبرى: 30 يوماً بلا فيسبوك!
في عالمٍ قائمٍ على لفت الانتباه واستجلاب التعاطف حتى وإن تطلب ذلك الكذب والخداع وادّعاء المرض والعلّة، في عالمٍ تتحدد فيه تأثيرات الأفراد وقيمتهم وسعرهم أحياناً بمقدار ما يملكون من "فولورز" وما يحققون من "ريتش"، في عالمٍ يحلم فيه الجميع بأن يكونوا محطّ الأنظار، أن يكونوا مشهورين وإن لم يكن هنالك سبب لتلك الشهرة أو الاهتمام، في عالمٍ كهذا يُصبح الحظر لمدة 30 يوماً أقرب ما يكون للصراخ من خلف نافذة زجاجية عازلة للصوت والضوء والحركة، أو كما تم تصويره في نهاية حلقة "الكريسماس الأبيض" من المسلسل البريطاني الشهير "المرآة السوداء": لا أحد يراك، لا أحد يسمعك، لا أحد يتذكرك.
لفترة طويلة، كان "الفيسبوك" موقع التواصل المفضل بالنسبة لي، لأن الناس هناك، يشبهون الناس في بلادي، كما صَوَّرهم صلاح عبدالصبور، في قصيدته التي تحمل نفس الاسم: "الناس في بلادي جارحون كالصقور، ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأون، لكنهم بشر وطيبون حين يملكون قبضتي نقود ومؤمنون بالقدر". على عكس الانطباعات المسبقة لمعظمنا عن مستخدمي "تويتر" مثلاً أو "إنستغرام" وأنهم يستخدمون قاموساً مختلفاً، وينظرون في أمور الناس بمناظير ضيقة جداً أو واسعة جداً، غير مناسبة على كل حال.
لا أملك المال الكافي ليكون إنستغرامي كعبة الزوار والأصدقاء، ولست وسيماً بالقدر الكافي لأتكسّب منه، كذلك لستُ مخلصاً– ككاتبٍ يتغذى على الإسهاب والوصف- لتويتر الذي يُلزمك بـ280 حرفاً لا أكثر! لذلك أتحامى بالفيسبوك، الذي رفسني، وحظرني لمدة 30 يوماً لم يمضِ منها سوى عامين، أقصد يومين.
إنني غاضب على تلك السياسات التي يتبعها الفيسبوك، وعلى معاييره المجتمعية التي لا تُشبه معايير أي مجتمعٍ في العالم. لأنه حتى في الواقع، لا يُبتّ ولا يُنظر في النزاعات الجنائية والاتهامات الأخلاقية بتلك السرعة، في الواقع يتراشق الناس السباب ويكسرون عظام بعضهم البعض ويهشمون أنوفهم ثم يأخذ واحدهم بيدِ الآخر ليتشاركوا جميعاً الوقوف في أتوبيس النقل العام ولعن الغلاء والزمن. فما بال الرجل يكمِّمُ فمي ويكتم صوتي ويحجبني عن العالم بضغطة زرِّ إبلاغ واحدة! دعني أشرح لك الموقف يا مارك، دعني أخبرك بما قاله الذي أساء لي، اقرأ تعليقه وأقسم لك أنك ستشاطرني الضيق والسأم، ستشاركني في شتمهِ وسلْقهِ بألسنةٍ حداد. دعني على الأقل أُقبّل رأسه وينتهي كل شيء بلا حظر.
لو كنتَ قد تعثرت في هذا المقال صدفة، يمكنك أن تقرأ بقية مقالاتي هنا، لتدرك أنني شخص جادٌّ تماماً، لا يعني له حظر الفيسبوك شيئاً، لكنه يؤمن بشدَّة أن (الكومينتي ستاندردز) الخاصة بالفيسبوك، التي يكمم بها أفواه أقوام، ويدعم بها آخرين، ويصنف بها أفعال المقاومة والدفاع عن النفس والأرض والمقدسات محتوى غير ملائم، فيما يسمح للمحتلين والمتورطين في القتل بأن يقولوا ما بدا لهم، هذه المعايير المزعومة بحاجة لتعديلات كثيرة، أولها إضافة بندٍ هامٍ جداً، نَصُّهُ قولُ زُهير بن أبي سلمى في إحدى قصائده: ومَنْ لا يتَّقِ الشَّتم؛ يُشتَمِ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.