هل نشعر بالاطمئنان بعدما أقدم مؤسس شركة فيسبوك على الاعتذار مؤخراً جراء ذلك الخلل المتعلق بسوء الاستخدام الذي أسفر عن تعرّض البيانات الشخصية لأكثر من خمسين مليون مستخدم للتلاعب من قِبل مضاربين تجاريين؟ هل تشفع لمارك تلك النظرات المرتبكة التي أبداها عندما أدلى باعتذاره أمام الصحفية الأميركية العاملة في شبكة CNN لوري سيغال؟ أم هل نشعر بالهلع لأن أمننا الرقمي وخصوصيتنا أصبحا تحت رحمة ضمائر مصممي التطبيقات، أو أخطاء تقنية وسوء إدارة من شركات وسائل التواصل الاجتماعي؟
لقد اعتذر مارك وتحمّل المسؤولية عن الخطأ، وأقرَّ أن التسريب الذي جرى كان نتيجة تقصير وقعت به شركته. فقد كانت شركة فيسبوك منذ العام 2015 تعلم بأن هنالك تلاعباً من نوع ما يجري في البيانات الشخصية للمستخدمين لديها، ولكنها مع ذلك لم تقُم بأي إجراء وقائي فعّال للتعامل معه. ولا يُعفيها أنها أعادت تصميم سياساتها للخصوصية بعد ذلك بما يتوافق مع تحديد نسبة وصول طرف ثالث من مصممي التطبيقات لبيانات مستخدمي الفيسبوك، فتلك الإجراءات وبالرغم من أهميتها فإنها لا تتناسب وحجم الكارثة التي مسّت الأمن الشخصي للملايين من المستخدمين.
إن الاعتذار وتحمّل المسؤولية وبالرغم من كونه فعلاً أخلاقياً فإنه لا يخفف من حجم الضرر الذي وقع، فالأمر لا يتعلق بمقدار وحجم البيانات التي تعرضت لسوء الاستخدام بل بالثقة التي نمنحها كمستخدمين لبرامج التواصل الاجتماعي لهذه الشركات من أجل الحفاظ على خصوصيتنا وبيناتنا الشخصية.
إن المشكلة في أصلها ليس تقنياً بل ثقافي وليس قانونياً وحسب بل أخلاقي؛ يمس جوهر الحياة التي بتنا نحياها في ظل غلبة الفضاء الإلكتروني.
ما الذي حدث؟
تبدأ المشكلة التي اعتبرتها صحيفة نيويورك تايمز بأنها تمثل أضخم تسريب للبيانات في تاريخ شبكات التواصل الاجتماعي من سياسة شركة الفيسبوك التي كان معمولاً بها في السابق؛ حيث كانت الشركة تسمح لطرف ثالث من مصممي التطبيقات بالولوج إلى البيانات الشخصية (الاسم، البريد الإلكتروني، الموقع) للمستخدم، فإذا أردت تحميل أحد التطبيقات على سبيل المثال، فإنه يطلب منك بالعادة السماح للدخول إلى بياناتك الشخصية كإجراء روتيني لإتمام عملية التحميل.
غير أن القضية لا تتوقف عند هذا الحد، فالكثير من التطبيقات تطلب الإذن للدخول إلى قائمة الأصدقاء عندك أيضاً، بمعنى أنه إذا ضغطت على خيار "قبول" يكون للتطبيق الحق في الوصول إلى البيانات الشخصية لجميع قائمة الأصدقاء لديك، ونظراً للتسلسل الشبكي لخدمة الفيسبوك فلنا أن نتخيل حجم وصول هذه التطبيقات لقائمة الأصدقاء المتصلة.
لقد كان معمولاً بهذه السياسة في الفترة الواقعة بين عامَي 2007 و2014؛ حيث أوقفت فيسبوك بعد ذلك السماح لأي طرف ثالث بالوصول للبيات الشخصية للمستخدمين وذلك كإجراء احترازي قامت به الشركة بعدما قدمت صحيفتا الغارديان البريطانية والنيويورك تايمز الأميركية استجواباً لإدارة الشركة حول وجود تلاعب محتمل للبيانات الشخصية للمستخدمين، وأن مصممي التطبيقات يحتمل أنهم يقومون باستخدام هذه البيانات لأغراض تجارية ودعائية.
وفي الوقت الذي جرى فيه تحديد مستوى الوصول للبيانات الشخصية أمام الطرف الثالث بعد عام 2014، كان على شركة فيسبوك أن تفرض شرطاً إلزامياً إضافياً على التطبيقات السابقة من أجل العمل وفق سياسة محددة تقوم وفق مبدأ عدم التصرف بالبيانات الشخصية للمستخدمين بدون إشعارهم بذلك، وأي خرق لهذا المبدأ يعتبر خرقاً لسياسة الخصوصية للشركة، وهو ما لم يتم الالتزام به وفق ما حدث مؤخراً بقضية كامبريدج أناليتيكا.
لقد كان الأكاديمي البريطاني المتخصص في تحليل البيانات في جامعة كامبريدج ألسكندر كوغان قد قام بتصميم تطبيق فيما مضى؛ عرف باسم thisisyourdigitallife (هذه حياتك الرقمية) يقوم بتوفير خدمة للمستخدمين تتعلق بالتنبؤات المتعلقة بحياتهم، بالإضافة لاستخدامه كأداة للمختصين في علم النفس. استطاع ألسكندر استهداف 27 ألف مستخدم بهذا التطبيق، ووفق السياسة السابقة لشركة فيسبوك التي تسمح باستخدام تطبيق Graph API فإن ألكسندر قد استطاع الوصول إلى بيانات أكثر من 50 مليون مستخدم، وهو ما يشكّل ثروة كبيرة بمنطق هذا العصر الذي أصبحت فيه البيانات تشكّل عموده الفقري.
إلى هنا لا يبدو أن هناك في الأمر شيئاً غريباً يسترعي الانتباه، فقد اتبع ألكسندر السياسة الرسمية لشركة فيسبوك، وكان وصوله إلى البيانات قانونياً، فكل مستخدم وافق على تحميل التطبيق يكون قد وافق على سياسة الخصوصية المستخدمة، وبذلك أصبح لصاحب التطبيق الحق في الوصول إلى معلوماته الشخصية.
ماذا الذي حدث ليتسبب ألكسندر بكل هذه الضجة؟
قام ألكسندر بتمرير هذا الكم الهائل من البيانات إلى شركة تحليل بيانات تدعى كامبريدج أناليتيكا (التي كان يعمل بها في فترة ما) مخالفاً بذلك كل القواعد الأخلاقية والضوابط الأكاديمية وسياسات الخصوصية المعمول بها، ذلك أنه لم يطلب موافقة المستخدمين على نقل بياناتهم إلى طرف ثالث.
وما زاد الطين بلّة هو أن شركة كامبريدج أناليتيكا لتحليل البيانات، المموّلة من الملياردير روبرت ميرسر وصاحبة التوجهات المحافظة، قد لعبت دوراً في توجيه الرأي العام للناخبين في أكثر حادثتين للانتخابات إثارة للجدل هما: انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي تثار شائعات كبيرة حول تواطئه مع الروس للوصول إلى البيت الأبيض، والاستفتاء العام الذي صوَّت فيه الشعب البريطاني على خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي؛ حيث ما زالت تثار تكهنات حول حجم التلاعب بالبيانات التي قام بها الفريق المؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد للتأثير على صوت الناخب البريطاني بطريقة لا تخلو من التضليل.
تقوم شركة كامبريدج أناليتيكا ببناء ملفات تعريف "سيكوغرافيك" للمستخدمين وأصدقائهم بناءً على بياناتهم الشخصية وذلك لأغراض سياسية محددة يتم توجيهها من خلال تسليط مجموعة من الإعلانات ذات الطابع التجاري.
وإذا كان قياس المدى الذي ساهمت به هذه الحملات الموجّهة بالفعل في دعم الرئيس ترامب للفوز بالرئاسة أو استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليس واضحاً كفاية؛ حيث يحتاج الموضوع للمزيد من الدراسات، إلا أن الأمر المؤكد الذي لا يحتمل الشك هو أن خرقاً كبيراً للثقة تم ارتكابه، وأن الملايين قد تعرضوا للتضليل رغماً عنهم، وهذا يمثل بحد ذاته جريمة يُعاقب عليها.
يُعيد طرح هذه الفضيحة القضية الجدلية التي تتعلق بالدور الذي تلعبه البيانات العملاقة أو ما يسمى Big Data في حياتنا.
فقد أصبحت البيانات بترول العصر الرقمي، فالقيمة السوقية للشركات ومقدار تأثيرها بات يعتمد على مقدار البيانات التي تجنيها من المستخدمين، ولأن هذه الشركات مثل Google وfacebook وamazon على سبيل المثال توفر خدماتها مجاناً، فإن المستخدم يصبح هو السلعة، وتصبح بياناته الشخصية أصولاً عند هذه الشركات لتوظيفها تجارياً من خلال الإعلانات الموجّهة لجني أرباح تصل إلى مئات المليارات.
إن شركات تكنولوجيا المعلومات كانت بما توفره من تقنيات حديثة للاتصال تمثل أملاً للتحرر والانعتاق، ودعم المساواة بين الأمم وتعزيز الديمقراطية والمشاركة السياسية، وجعل هذا العالم أكثر أمناً وقدرةً على مواجهة الأزمات العالمية التي تعصف به مثل الفقر والاحتباس الحراري، غير أن الأمر يبدو أنه قد انقلب رأساً على عقب؛ حيث أصبحت هذه الشركات تعزز من خلال هذه التقنيات ما يمكن أن نطلق عليه بالعبودية الرقمية، فعندما يتم التصرف بالبيانات الشخصية للمستخدمين من غير إذنهم، ومن ثم استخدامها من أجل التلاعب بقناعاتهم الشخصية عبر مجموعة موجّهة من الإعلانات، فهذا يمثل عبودية بلباس جديد تهدف إلى سلب هوية الشخص من خلال إعادة هندسة قناعاته وتصوراته بشكل لا واعٍ.
ومن هنا فلا نستغرب أن الكثير من البريطانيين قد اعترفوا بأنه قد تم التلاعب بهم في حملة الاستفتاء من خلال معلومات مُضَلّلَة، وهو ما يضع علامة استفهام كبيرة حول حقيقة رغبة البريطانيين في الخروج من الاتحاد الأوروبي مع ارتفاع الأصوات التي تقول بأن نتيجة الاستفتاء لا تمثل حقيقة رأي الشارع البريطاني الذي يبدو أنه يؤيد البقاء في الاتحاد وليس الخروج منه.
إن الأمر يبدو خطيراً عندما يكون التلاعب بتوجهات الناخبين يتم من خلال شركات يسيطر عليها أصحاب النزعات اليمينية المحافظة أو المتطرفة، أولئك المسكونون بهواجس الصراع والقوة من أمثال ستيف بانون اليميني – العنصري الذي شغل منصباً كبيراً استراتيجيياً بالبيت الأبيض في إدارة الرئيس ترامب، قبل أن يجبر على المغادرة؛ حيث كان يعمل نائب رئيس مجلس إدارة شركة كامبريدج أناليتيكا، وجون بولتن أيضاً الذي تم تعيينه مؤخراً مستشاراً للأمن القومي الأميركي خلفاً لمكاك ماستر؛ حيث ذكرت صحيفة الغارديان أن بولتون قد تعاون مع شركة أناليتيكا من خلال ظهوره على مقاطع فيديو سياسية على موقع اليوتيوب تناسب مجموعة من أنماط الناخبين الأميركيين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.