لم يكن إعلان واشنطن تقديم مساعدات عسكرية بقيمة 230 مليون دولار للجيش اللبناني خطوة عابرة. فالمبلغ الذي يُعدّ الأعلى في تاريخ التعاون العسكري بين البلدين، ترافق مع مؤشرات ميدانية ودبلوماسية تكشف عن تحول أمريكي متدرّج في الملف اللبناني، بحسب وصف مصادر حكومية تحدثت إلى "عربي بوست".
وقالت إنها ترى في التطورات الأخيرة، عبر إرسال خبراء عسكريين أمريكيين ووحدات من قوات المارينز، والحديث عن قوة جديدة تحل محل "اليونيفيل" بعد انتهاء ولايتها نهاية العام 2026، انتقالاً لأمريكا في لبنان، من مرحلة "الاحتواء السياسي" إلى مرحلة الانخراط الميداني المباشر في الجنوب اللبناني.
المساعدات الأمريكية: إعلان دعم ومرحلة جديدة
المصادر الحكومية اللبنانية أكدت أن "القرار الأمريكي يحمل دلالات سياسية تتجاوز قيمته المالية، فهو يعبّر عن تبنٍ واضح لخيار دعم الجيش اللبناني، مؤسسة وحيدة يمكن الركون إليها لضبط الحدود الجنوبية، واحتواء السلاح خارج سلطة الدولة".
كان لافتاً وخلال خطابه في مؤتمر شرم الشيخ لوقف الحرب على غزة، إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن تقديره "للجهود الشجاعة" التي يبذلها رئيس الجمهورية جوزيف عون وقائد الجيش العماد رودولف هيكل في سياسة "حصر السلاح بيد الدولة، مؤكداً أن واشنطن "تثق بدور الجيش في حفظ الاستقرار، وترى فيه الشريك الأكثر موثوقية في منطقة مضطربة".
بحسب المصادر ذاتها، فإن جزءاً من هذه المساعدات "سيخصص لتحديث أنظمة المراقبة الحدودية، وتطوير القدرة اللوجستية وتوسيع عديد الجيش عبر انتشاره على طول الحدود اللبنانية، إلى جانب تعزيز قدرات التدريب المشترك مع البعثات العسكرية الأمريكية والأوروبية".
قوات لأمريكا في لبنان… وخبراء لمساعدة الجيش
أكدت مصادر دبلوماسية غربية لـ "عربي بوست"، أن وحدة صغيرة من قوات أمريكية تابعة لقيادة المنطقة الوسطى الأمريكية ستصل إلى بيروت في الأيام المقبلة، ضمن ما وُصف بـ "خطة تعزيز الأمن الدبلوماسي للسفارة الأمريكية"، لكنها عملياً تشكل النواة الأولى لحضور ميداني رمزي مرتبط بالتحولات الأمنية في الجنوب، وفق قولها.
كما تستعد وزارة الدفاع الأمريكية لإيفاد فريقٍ من المستشارين والخبراء العسكريين إلى قيادة الجيش اللبناني في وزارة الدفاع اللبنانية، في خطوةٍ وُصفتها المصدر، بأنها "الأكثر حساسية منذ بدء التعاون الأمني بين بيروت وواشنطن".
بحسب معلومات المصادر، يضم الفريق عدداً من الضباط المتخصصين في مجالات مراقبة الحدود، وإدارة العمليات الميدانية المشتركة، والاستخبارات التقنية، وسيعملون إلى جانب ضباط من مديرية العمليات في الجيش على مواكبة الخطط الجديدة لضبط الحدود الجنوبية والشرقية، وتقديم توصيات مباشرة تتعلّق بكيفية بناء شبكة مراقبة متكاملة تربط بين وحدات الجيش المنتشرة على الأرض وغرف القيادة والسيطرة المركزية.
وتشير المعلومات إلى أن مهمة هؤلاء الخبراء لن تقتصر على الجانب التدريبي، بل ستشمل أيضاً إعادة هيكلة التعاون بين الجيش والأطراف المهتمة بدعم الجيش، وخصوصاً في ما يتعلّق برصد التحركات عبر المعابر غير الشرعية ومسارات التهريب، إلى جانب تطوير التنسيق مع القوات الجوية اللبنانية لاستخدام الطائرات المسيّرة.
وقالت إن "التحرك الأمريكي يُقرأ في بيروت على أنه مقدمة لتوسيع الدور الميداني للجيش، بحيث يصبح شريكاً رئيسياً في تطبيق قرار "حصر السلاح بيد الدولة" وتثبيت الاستقرار على طول الحدود الجنوبية، تمهيداً للمرحلة التالية من إعادة انتشار القوات الدولية، أو القوة الأوروبية – الأمريكية التي يجري النقاش حولها حالياً".

ووفق المصادر، فإن هذه الخطوة تأتي استكمالاً لمسار طويل من التعاون التقني بين الجيش الأمريكي ونظيره اللبناني، لكنها هذه المرة تحمل طابعاً تنفيذياً مباشراً، إذ ستُربط نتائج عمل الفريق الأمريكي بخطة المساعدات البالغة 230 مليون دولار، التي تشمل تجهيزات وآليات مراقبة متقدمة، وأجهزة استشعار حراري لتأمين الحدود الجنوبية والشرقية.
وتابعت بأن التحركات الأمريكية هذه تتقاطع مع نقاشات متقدمة في مجلس الأمن القومي الأمريكي حول دور مباشر للولايات المتحدة في مراقبة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، عبر حضور ميداني محدود يشبه النموذج المعتمد في غزة، حيث تنتشر قوة من نحو 200 جندي أمريكي تشرف على تطبيق مراحل الاتفاق هناك.
بحسب المصادر ذاتها، فإن أطرافاً متعددة بدأت العمل على خطط دعم الجيش اللبناني، آخرها الزيارة التي أجراها قائد الجيش العماد رودلف هيكل لدولة قطر، التي التقى خلالها نظراءه القطريين، إضافة لزيارة ميدانية لقيادتي القوات البرية والجوية القطرية في الدوحة والسعي لتأمين آليات عسكرية تعزز تحركات الجيش اللبناني.
الجنوب المشتعل
ميدانياً، وجّهت "إسرائيل" سلسلة ضربات صاروخية دقيقة على بعد أمتار من مقر رئيس مجلس النواب نبيه بري في منطقة المصيلح، في رسالة سياسية واضحة إلى "البيئة الحاضنة" لحزب الله.
وبعد أيام، رد الحزب بعرض قوة استثنائي في المدينة الرياضية في بيروت، شكل أضخم تجمع شعبي منذ تشييع أمينه العام الراحل حسن نصر الله، مشيراً إلى أنه "يعيد تثبيت رمزية المقاومة في وجه أي محاولات لتهميشها".
ووصفت المصادر الحكومية المشهد بأنه "تبادل رسائل بالنار والرموز" بين إسرائيل وحزب الله، في وقت تبدو فيه الحكومة اللبنانية برئاسة نواف سلام بين ضغوط الخارج الأمريكية والعربية حول البدء بتطبيق القرار الحكومي بحصر السلاح، ومتطلبات الداخل، وتحديداً من حزب الله، بالبدء بمشروع إعادة الإعمار، وسط تزايد الخلاف مع الحزب حول ملف إعادة الإعمار واشتراطات المانحين.

"لا إعمار قبل نزع السلاح"
بحسب مصدر حكومي مسؤول، فإن المعادلة التي تنقلها الوفود الغربية إلى بيروت باتت واضحة، لا إعادة إعمار قبل تسليم آخر قطعة سلاح خارج الدولة.
وأضاف أن "الموفدين الأمريكيين أبلغوا القيادة اللبنانية بأن المجتمع الدولي "لن يموّل أي مشاريع كبرى في الجنوب قبل أن تتولى الدولة وحدها مسؤولية الأمن".
وتابع بأن ضربة منطقة المصيلح جنوب لبنان لمصانع ومعارض جرافات ومعدات إزالة ردم وأضرار، هي عملية استباقية إسرائيلية لأي محاولة من حزب الله للبدء في عملية إعادة الإعمار في حال وصول أموال "إيرانية" لإعادة إعمار مناطق في جنوب لبنان تدمرت كلياً خلال الحرب.
وأفاد بأن "إسرائيل أبلغت الحكومة اللبنانية عبر أطراف أوروبية أنها ستمنع أي محاولة إعمار في الجنوب قبيل سحب سلاح حزب الله النوعي المتفق عليه وفق تفاهم 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، الذي أفضى حينها بوقف الحرب على لبنان.
الأوروبيون يتقدّمون المشهد
في المقابل، برز الحضور الأوروبي بقوة خلال الأسابيع الماضية، مع زيارة وفد من جهاز العمل الخارجي الأوروبي برئاسة شارل فريز، الذي طرح على المسؤولين اللبنانيين فكرة تشكيل قوة أوروبية بديلة لليونيفيل، تحفظ الوجود الدولي في الجنوب وتمنح اللبنانيين شعوراً بالأمان.
وفق مصدر دبلوماسي غربي، فإن الفكرة لاقت قبولاً لدى رئيس الجمهورية جوزيف عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري، خصوصاً في ظل خشية الدولة اللبنانية من غياب أي مظلة دولية توثق الخروقات الإسرائيلية المستمرة.
وقال إن الاقتراح الأوروبي يحظى بمتابعة من فرنسا وإيطاليا وألمانيا، مع احتمال انضمام وحدات رمزية أمريكية، وذلك لتأمين "غطاء سياسي مشترك" يربط الأمن في الجنوب بالمسار الإقليمي بعد غزة.
يشار إلى أن قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان "يونيفيل"، تأسست عام 1978 عقب الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، ثم عززت مهامها بشكل كبير بعد حرب يوليو/ تموز 2006 والقرار الأممي 1701، حيث انتشر أكثر من 10 آلاف جندي لمراقبة وقف الأعمال القتالية ودعم الجيش اللبناني في بسط سلطته جنوب نهر الليطاني.
ورغم التوصل، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين "حزب الله" وإسرائيل، فإن الأخيرة خرقته أكثر من 4 آلاف و500 مرة، ما أدى مئات القتلى والجرحى.
وفي تحدٍ للاتفاق، لا تزال إسرائيل تحتل 5 تلال لبنانية سيطرت عليها خلال الحرب الأخيرة، إضافة إلى مناطق أخرى تحتلها منذ عقود.