على وقع التحولات الكبرى التي تعصف بالشرق الأوسط، حطّ وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، ووزير الدفاع، مرهف أبو قصرة، في موسكو في زيارة هي الأولى من نوعها منذ سقوط نظام بشار الأسد.
لكن الرحلة لم تكن مجرد خطوة بروتوكولية، بل حملت رسائل سياسية وأمنية واضحة: فدمشق ما بعد الحرب تسعى إلى إعادة صياغة موقعها الإقليمي خارج قيود التحالفات القديمة، بينما تختبر موسكو قدرتها على الحفاظ على نفوذها التاريخي دون أن تبدو كقوة وصاية على السلطة الجديدة.
دمشق بين وساطات العرب وظلّ الشرع
تفيد مصادر دبلوماسية عربية لـ"عربي بوست" أن الزيارة جاءت بعد أسابيع من تحضيرات دقيقة، أشرفت عليها كلٌّ من تركيا والسعودية، بهدف تهيئة الأرضية لتواصل مباشر بين دمشق وموسكو. الهدف: تثبيت الاستقرار السوري، وإعادة دمج دمشق تدريجيًا في محيطها العربي.
في الكواليس، برز اسم ماهر الشرع، شقيق الرئيس أحمد الشرع، كـ"مهندس الظل" لهذه العملية، إذ لعب دورًا محوريًا منذ عملية "ردع العدوان" في بناء الثقة مع الروس، وإقناعهم بأن سوريا الجديدة لا تسعى للقطيعة مع موسكو، بل لعلاقة شراكة متكافئة.
وبحسب مصادر سورية، سبق الزيارة وفد روسي رفيع، دبلوماسي–استخباراتي، زار دمشق نهاية يوليو، واجتمع مع الشيباني، وماهر الشرع، ومدير المخابرات حسين سلامة. وتم الاتفاق على جدول أعمال أولي شمل ملفات حساسة، بينها: مستقبل القواعد العسكرية في الساحل، شمال شرق سوريا و"قسد"، الاتفاقيات الاقتصادية، والمصير القانوني لبشار الأسد.
ملفات ساخنة على الطاولة الروسية
حين حطّت الطائرة السورية في موسكو، كانت الحقائب السياسية أثقل من التصريحات الرسمية.
الملف الأكثر حساسية كان القواعد الروسية في الساحل السوري. فدمشق، التي لا تطالب بإغلاقها، تسعى إلى إعادة تعريف دورها لتتحول من رمز للوصاية إلى ركيزة لتوازن إقليمي، خصوصًا في ظل انفتاحها على محيطها العربي.
في الوقت نفسه، طرح الوفد السوري مسألة الجنوب السوري والتنسيق الأمني مع إسرائيل، مؤكدًا على ضرورة أن تكون دمشق طرفًا حاضرًا في إعادة صياغة التفاهمات الروسية–الإسرائيلية، لا مجرد متلقٍّ.
وفي ما يخصّ بشار الأسد، كشف مصدر سوري أن دمشق اقترحت تسوية قانونية عبر محاكمة دولية يشرف عليها جهاز تابع لمحكمة العدل الدولية، في محاولة لطي صفحة الماضي، لكن موسكو تحفظت على المقترح خشية أن تفتح المحاكمة ملفات تلامس الوجود الروسي في سوريا.
من قسد إلى الفوسفات: مفاوضات متعددة المسارات
شمل النقاش أيضًا منطقة شمال شرق سوريا، حيث أطلع الجانب الروسي الوفد السوري على لقاء جرى مؤخرًا في موسكو مع وفد من "قسد"، في محاولة لتدشين مسار تفاوضي يفضي إلى إعادة دمج تلك المناطق ضمن السلطة المركزية.
وفي المجال الاقتصادي، طالبت دمشق بإعادة مراجعة الاتفاقيات الموقعة إبان الحرب، لا سيما في مجالات الطاقة والموانئ والفوسفات، إذ صبّت غالبيتها الساحقة في مصلحة موسكو. وتم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لإعادة النظر في هذه العقود.
أما في الشق الدبلوماسي، فاتُفق على استئناف تبادل البعثات، والاستعداد لزيارة مرتقبة للرئيس أحمد الشرع إلى موسكو في أكتوبر المقبل للمشاركة في القمة العربية–الروسية، بالتوازي مع افتتاح السفارة السورية ودعم مساعي رفع دمشق من لوائح الإرهاب الأممية.
خلاصة: لحظة مفصلية في رسم ملامح سوريا المقبلة
لم تنتهِ زيارة موسكو بانتهاء اجتماعاتها، بل دشّنت لحظة اختبار مزدوج فروسيا تحاول تثبيت نفوذها مع سلطة لم تكن من صناعتها، وسوريا تسعى للتموضع كدولة ما بعد الحرب، قادرة على الانفتاح دون خسارة أوراقها الاستراتيجية.
إذا نجحت هذه المقاربة في التبلور، فقد تتحول زيارة الشيباني وأبو قصرة إلى محطة تأسيسية ترسم معالم الجمهورية السورية الجديدة، بين توازنات الداخل ومتغيرات الإقليم.