في أحد مصانع النسيج الصغيرة بإحدى مناطق إسطنبول القديمة، وفي داخل مكتب تزينه الكثير من الصور التاريخية، وبين أرفف ممتلئة بالكتب الضخمة، يجلس علاء الدين شنجوز، الرجل التركي الستيني ذو اللحية البيضاء، يغوص بين قصاصات وصور جمعها من بعض الصحف والقنوات التلفزيونية.
تتناثر على سطح مكتبه بعض من الكتب الكبيرة المفتوحة المليئة بصور مطبوعة لمثل تلك القصاصات والصور التي جمعها من وسائل إعلام تركية على مدار عقود، يوثق العالم من زاويته الخاصة، ويرى في مهمته هذه واجباً مقدساً.
ليس مؤرخاً بالمعنى التقليدي، بل هو مؤرخ شعبي، يوثق العالم من زاويته الخاصة، إذ يملك أرشيفاً ضخماً يحوي شهادات حية على التاريخ كما رآه بأم عينيه، وكما صاغته الصحف والمجلات التركية والعالمية. ووسط هذه الفوضى المنظمة، هناك قضية واحدة كانت تتصدر اهتماماته في ذلك الوقت، فلسطين.
فلسطين: جرح مفتوح في أرشيف علاء الدين
"لا تحتاج أن تكون مسلماً لتدافع عن فلسطين، يكفي أن تكون إنساناً"، يقولها علاء الدين بحماس كبير، بينما يُخرج أرشيفاً كاملاً من القصاصات التي تعود لعقود مضت، موثقةً المآسي التي تعرض لها الفلسطينيون.
بالنسبة لعلاء الدين، لا شيء يختزل قضايا العصر كما تفعل القضية الفلسطينية. ينظر بعينين حادتين قبل أن يضيف: "القضية الفلسطينية ليست قضية العرب وحدهم، بل قضية كل مسلم، بل كل صاحب ضمير حي".
من بين الكتب الأرشيفية كان هناك ذلك الكتاب بعنوان "غزة"، كان مليئاً بالصور التي توثق العدوان الأخير على قطاع غزة منذ اليوم الأول لاندلاعه. جمع علاء الدين كل ما أمكنه من أخبار يوماً بيوم، موثقاً أيضاً صور الشهداء كلما ظهر لهم اسم أو صور بوسائل الإعلام التركية.

يقول علاء الدين إن الإعلام الغربي والتركي تغير على مر السنين، لكنه كان هناك ليجمع الحقيقة في قصاصاته، بعيداً عن التحريف السياسي، على حد تعبيره.
لا يكتفي علاء الدين بوضع هذه الصور في كتب وألبومات ضخمة فقط، بل إنه يأخذ بعض الصور التي يراها مهمة، ليحيطها بإطار ويعلقها على جدران مكتبه.
أرانا مجموعة من الصور التي طبعها حديثاً لأبرز قادة حركة المقاومة في فلسطين من الشيخ أحمد ياسين وصولاً إلى يحيى السنوار. لم يكتفِ بهؤلاء، بل أضاف أيضاً صوراً لبعض أبنائهم، مثل أبناء إسماعيل هنية الذين استشهدوا خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة. هؤلاء – من وجهة نظره – يحتاجون للتكريم، وهذه طريقته في تكريمهم.

رحلة عبر الأرشيف: لماذا يوثق الأحداث بهذه الطريقة؟
بدأ شغف علاء الدين بجمع الوثائق منذ شبابه، عندما أدرك – بحسب اعتقاده – أن الكتب المدرسية لا تروي القصة الكاملة. "عندما نقرأ، نبدأ بفهم الأمور بشكل أعمق. لا أريد أن يكون أولادي وأحفادي أسرى للرواية الرسمية، بل أريدهم أن يروا الحقائق بأنفسهم"، يقول وهو يمرر أصابعه على صفحات إحدى الصحف القديمة في مخزن كبير بالطابق السفلي من مصنعه، يحتوي على كميات ضخمة من الصحف التركية من مختلف الاتجاهات.
يضم المخزن مجموعة كبيرة من الكراتين الضخمة التي يحتوي كل منها على جرائد وصحف صادرة يوماً بيوم خلال عام معين. علاء الدين يحصل على هذه الصحف بشكل يومي، ويقوم بتجميع قصاصات الأخبار منها بشكل دائم طوال أكثر من 30 عاماً.
لا يقتصر عمله على فلسطين فقط، بل يوثق جميع الأحداث العالمية التي لها ارتباط بتركيا. من سقوط الاتحاد السوفيتي، إلى الغزو الأمريكي للعراق، وصولاً إلى الانقلابات العسكرية في تركيا. لكنه يقول إن فلسطين تبقى المحور الأساسي، لأنها تمثل رمزاً للظلم المستمر الذي لم يتغير منذ عقود.
من الأرشيف إلى الميدان: دعم عملي لفلسطين
لم يكتفِ علاء الدين بجمع الوثائق، بل كان ناشطاً في دعم الفلسطينيين. خلال زيارته لفلسطين، رأى بأم عينيه كيف تحولت المدن الفلسطينية إلى "سجون كبيرة"، كما يصفها. "رأيت بأم عيني كيف يعيش الناس هناك. لا يمكنك التنقل دون تصريح، لا يمكنك زيارة أقاربك بحرية. هذا ليس احتلالاً عاديّاً، بل محاولة ممنهجة لطمس الهوية الفلسطينية".
ولم ينس علاء الدين أن يرينا صورته التي التقطها عام 2013 من أمام مسجد قبة الصخرة في القدس، والتي كتب تحتها "لن يكون هناك سلام في العالم حتى يتم إقامة الدولة الفلسطينية وتحصل فلسطين على حريتها"، هذه هي قاعدته البسيطة التي ينظر من خلالها لفلسطين.

خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، قام علاء الدين بتمويل شاحنة محملة بالطحين لإرسالها إلى غزة من حسابه الشخصي، بينما تبرع ابنه وصهره بتمويل شاحنتين إضافيتين. "نحن نحاول تقديم المساعدة بأي وسيلة ممكنة"، يقولها وهو يشير إلى صورة له وهو يرفع علم فلسطين في إحدى المظاهرات.
يقول: "عندما كنت في زيارة إلى لندن منذ عدة أشهر في أوج الحرب على غزة، رأيت مظاهرة تدعم فلسطين. لم أفكر مرتين، انضممت إليهم على الفور أنا وزوجتي. بالنسبة لي، هذه القضية ليست مجرد شعار، إنها التزام. لا يمكنني أن أقف متفرجاً".

كما زار علاء الدين في ذلك اليوم مدرسة يوسف إسلام، وهو الرجل الذي كان في السابق مغنياً، لكنه اعتنق الإسلام وأصبح مدافعاً عن القضايا الإسلامية. "كانت تجربة رائعة أن أرى كيف أن بعض الأشخاص الذين لم يكونوا مسلمين من قبل أصبحوا أكثر التزاماً بقضايا المسلمين".
بين المستجدات في غزة والبعد التاريخي للقضية
بينما كان يدور حديثنا، تتوالى الأخبار العاجلة من قطاع غزة، حيث لا يزال العدوان الإسرائيلي مستمراً، عبر عدم السماح بدخول المساعدات الإنسانية، وسط صمت عالمي مطبق. علاء الدين يرى أن المأساة ليست فقط في الاحتلال، بل في تخاذل بعض الدول الإسلامية عن دعم القضية الفلسطينية بشكل عملي. "البعض يكتفي بالكلمات، لكن الفلسطينيين يحتاجون إلى أفعال، يحتاجون إلى دعم حقيقي"، يقولها وهو يطوي صحيفة تركية حديثة تتصدرها أخبار غزة.
يؤمن علاء الدين بأن اهتمام الأتراك بفلسطين يعود إلى الجذور التاريخية، حيث كانت القدس جزءاً من الدولة العثمانية لأكثر من أربعة قرون. "المسجد الأقصى هو قبلتنا الأولى، ومن الطبيعي أن نشعر بمسؤولية تجاهه"، يضيف بلهجة حازمة.
عام 2023.. عام الذكريات المؤلمة
كان من ضمن أرشيف علاء الدين الضخم، كتاب بعنوان "عام الحزن والألم 2023″، ففي ذلك العام حدثت العديد من الأحداث المؤلمة التي لا يريد أن ينساها، ويريدها حاضرة في ذاكرة أولاده وأحفاده من بعده.
في ذلك العام شهدت تركيا واحداً من أسوأ كوارثها الطبيعية يوم 6 فبراير/شباط، عندما ضرب زلزالان بشدة 7.8 و7.5 درجة على مقياس ريختر خلال فترة لا تزيد عن 10 ساعات. بلغ عدد ضحايا هذين الزلزالين في تركيا وسوريا حسب تقديرات أولية أكثر من 51 ألف قتيل و120 ألف مصاب، وخلّفا أضراراً مادية جسيمة في كِلا البلدين.
وبالطبع كانت هناك الحرب الإسرائيلية غير المسبوقة على قطاع غزة في أعقاب عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، والتي يراها علاء الدين واحدة من النقاط المفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل.
رحلة في ذاكرة تركيا السياسية
لا تتوقف اهتمامات علاء الدين عند القضية الفلسطينية، بل تمتد إلى توثيق التاريخ السياسي لتركيا الحديثة. خلال سنوات طويلة، جمع آلاف الصحف والوثائق المتعلقة بالحكومات المتعاقبة، ودور الشركات الكبرى في صنع القرار، والجهات التي كانت تسيطر على الاقتصاد التركي في الحقب الماضية من عمر الجمهورية التركية.
أيضاً، وثق العلاقات المعقدة بين الدولة التركية والعسكر والجماعات المصنفة إرهابية مثل تنظيم فتح الله غولن، المتهم بتنفيذ محاولة الانقلاب عام 2016، وهو ما أفرد له علاء الدين مجلداً مصوراً كاملاً.
"لقد وثقت كل شيء، من رؤساء الوزراء إلى الوزراء والمسؤولين الاقتصاديين. هناك الكثير مما لا نعرفه عن تاريخنا لأن بعض الأرشيفات ظلت مغلقة لسنوات طويلة"، يقول وهو يقلب في أحد مجلداته الأرشيفية.

يضيف "هناك وثائق محفوظة في خزائن الدولة منذ بداية عهد الجمهورية، لكننا لا نعرف عنها شيئاً. نريد أن نتعرف على التاريخ الحقيقي لأتاتورك (مؤسس الجمهورية التركية)، لكن هناك حظر على ذلك. إذا لم يتم فتح الأرشيفات، فكيف يمكننا معرفة الحقيقة؟".
يظهر في هذا المجلد صور قصاصات من صحف عثمانية قديمة يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر تتناول مختلف القضايا السياسية في تلك الحقبة. في كل صفحة توجد صورة لتلك القصاصات المكتوبة باللغة العثمانية ذات الأحرف العربية، ويقابلها في الصفحة المجاورة ترجمة بالتركية الحديثة لما جاء فيها.
يقول: "أجمع الصحف والوثائق التي تعود إلى ما قبل عام 1923، وأقوم بتكليف أساتذة الجامعات بترجمتها من العربية والعثمانية إلى التركية الحديثة. هذه الوثائق تقدم رؤية مختلفة عن التاريخ الذي درسناه في الكتب المدرسية".
الديمقراطية في تركيا.. نظرة نقدية
يطرح علاء الدين تساؤلات عميقة حول مفهوم الديمقراطية في تركيا. يستعيد ذكريات فترة لم يكن يسمح فيها للنساء المحجبات بدخول الجامعات، ويحكي عن ابنته التي حُرمت من التعليم بسبب الحجاب. "الغرب يدعي أنه جلب لنا الديمقراطية، لكن أي نوع من الديمقراطية هذه التي تمنع فتاة من حقها في الدراسة بسبب قطعة قماش؟"، يتساءل بمرارة.
كما يستعيد حادثة شخصية أخرى عندما لم يُسمح له بزيارة ابنه في المستشفى العسكري بسبب لحيته. "كيف يمكن الحديث عن الحريات بينما كانت هناك قوانين تفرض الحظر على المسلمين في بلادهم؟"، يقول مؤكداً أن الديمقراطية الحقيقية لا يجب أن تكون انتقائية.
ويضيف علاء الدين أن الديمقراطية التي فرضها الغرب على العالم الإسلامي جاءت محمّلة بمعايير مزدوجة، حيث يتم الترويج لها كوسيلة لتحرير الشعوب، لكنها في كثير من الأحيان تُستخدم كأداة للسيطرة والتدخل في شؤون الدول الأخرى. "لقد رأينا كيف استُخدمت الديمقراطية كذريعة لاحتلال الدول وإسقاط الأنظمة التي لا تتماشى مع المصالح الغربية".

التأثير الغربي على الجيل الجديد
لا يخفي علاء الدين قلقه من التأثير المتزايد للثقافة الغربية على الجيل الجديد في تركيا. يعتقد أن الشباب ينجذبون إلى المظاهر السطحية للثقافة الغربية بدلاً من الاستفادة من علومها وتكنولوجياتها. "نحن لا نرفض التقدم، ولكن لماذا نأخذ أسوأ ما في الغرب ونتجاهل أفضل ما لديه؟ لو كنا نقتبس علومهم وانضباطهم بدلاً من أنماط الحياة الاستهلاكية، لكان حالنا مختلفاً اليوم"، يقول متأملاً إحدى القطع التذكارية التي جلبها معه من لندن لأحد جسور المدينة.
ويرى أن جزءاً كبيراً من هذه التأثيرات يعود إلى وسائل الإعلام الحديثة والمنصات الرقمية التي تنقل نمط الحياة الغربي إلى كل بيت. لكنه يعتقد أن الحل يكمن في العودة إلى الجذور، ليس من باب الانغلاق، ولكن من خلال تحقيق توازن بين الحداثة والهوية.
ويؤكد أن الهوية الثقافية لأي أمة هي الحصن الذي يحميها من الذوبان في العولمة غير المنضبطة. "المشكلة ليست في الانفتاح على العالم، ولكن في فقدان الإحساس بالانتماء. إذا لم يعرف الشاب تاريخه وثقافته، فلن يكون لديه أساس قوي لمواجهة تحديات المستقبل"، يقول علاء الدين بحزم.

ما الذي يخبئه المستقبل؟
رغم أنه يعمل بمفرده تقريباً، دون دعم مؤسساتي، إلا أن علاء الدين لا يفكر في التوقف. مشروعه القادم هو كتاب يوثق الأحداث في سوريا وفلسطين، لكنه يواجه صعوبات مالية تحول دون إكماله بالسرعة التي يريدها. "لا يوجد فريق معي، الشخص الوحيد الذي يساعدني هو رجل يجلب لي الصحف اليومية، أما بقية البحث والتحليل، فأنا أقوم به وحدي"، يقولها بابتسامة حزينة.
رغم ذلك، يبقى علاء الدين متفائلاً. "التاريخ لا يُمحى، حتى لو حاولوا. ما أفعله اليوم قد يكون مجرد جهد فردي، لكنه سيظل شاهداً على الحقيقة التي يريد البعض إخفاءها".
في وداعنا له، أعطانا نسخة قديمة من صحيفة وثّقت إحدى المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة. "احتفظ بها، فقد يأتي يوم تحتاج فيه إلى تذكير بالحقيقة"، قالها وهو يلوّح لنا مودعاً، عائداً إلى عالمه المليء بالقصاصات، حيث لا يزال يواصل مهمته في توثيق التاريخ كما يراه هو.