كان دعم فلسطين عاملاً مفيداً في فوز اليسار في فرنسا والمستقلين في بريطانيا في الانتخابات البرلمانية، حتى وإن لم يكن العنصر الحاسم، فهل يتعلم الديمقراطيون الدرس قبل انتخابات نوفمبر/ تشرين 2024 في الولايات المتحدة؟
وضع تحليل لموقع ذا إنترسيبت الأمريكي هذا السؤال عنواناً، رصد فيه الدور الذي لعبه الصراع في الشرق الأوسط في الانتخابات التي فاز بها حزب العمال في بريطانيا وكذلك تحالف اليسار في فرنسا، وكيف يمكن للحزب الديمقراطي الأمريكي ورئيسه جو بايدن الاستفادة من هذه التجارب.
صحيج أن الحرب على غزة لم تكن تمثل ملفاً رئيسياً في الانتخابات البريطانية، لكنها كانت القضية المفصلية في عدد من الدوائر، حقق فيها مرشحون مستقلون انتصارات على حساب مرشحي حزب العمال، بينما تعرض مرشحو حزب المحافظين في تلك الدوائر لهزائم مخجلة، بحسب تقرير لمجلة Time بعنوان "لا يمكن استبعاد تأثير غزة".
اليسار الفرنسي والاعتراف بدولة فلسطين
أما في فرنسا فقد حققت الجبهة الشعبية، بقيادة حزب "فرنسا الأبية" وزعيمة جان لوك ميلونشون من أبرز المدافعين عن حقوق المسلمين ومن أعلى الأصوات انتقاداً لإسرائيل وحربها المدمرة على غزة، انتصاراً لم يتوقعه أحد في الجولة الثانية للانتخابات المبكرة التي أجريت الأحد 7 يوليو/ تموز 2024.
وفي أعقاب هذا الانتصار المفاجئ، تعهد جان لوك ميلينشون، الزعيم اليساري لأكبر حزب في الكتلة المنتصرة، "فرنسا الأبية"، برؤية فرنسا "تعترف بالدولة الفلسطينية في أقرب وقت ممكن".
كيف كانت أجواء الحملة الانتخابية؟ بحسب تحليل ذا إنترسيبت، قضى حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في فرنسا، إلى جانب الوسطيين المحافظين، أسابيع الحملة الانتخابية في تصوير دعم اليسار لفلسطين على أنه "وجبة انتخابية مسمومة". وشنوا هجمات يخلطون فيها بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، وانتقدوا من يوجهون الانتقادات لإسرائيل ووصفوهم بأنهم "معادين للسامية". كما نال الحزب اليميني المتطرف الدعم العلني والصريح من جانب مسؤولين إسرائيليين ووزراء في حكومة بنيامين نتنياهو. لكن في هذه الانتخابات الأخيرة، لم ينجح الأمر في منع انتصار اليسار، رغم أن اليمين المتطرف كان قد اكتسح الجولة الأولى من الانتخابات نفسها.
وفي بريطانيا أيضا، كان الانتصار الساحق الذي حققه حزب العمال الوسطي بزعامة كير ستارمر، الذي يوصف بأنه "صديق إسرائيل" قد شابه بعض الضعف في خمس دوائر انتخابية، حيث هزم المرشحون المستقلون ذوو البرامج المؤيدة للفلسطينيين مرشحي حزب العمال.
إذ فاز زعيم حزب العمال السابق، جيريمي كوربين، بمقعده في شمال إسلنجتون في لندن بسهولة. كان كوربين قد تعرض للفصل من حزب العمال عندما استخدم الجناح المحافظ للحزب ووسائل الإعلام البريطانية اتهامات معاداة السامية كسلاح ضد الجناح اليساري للحزب.
درس للحزب الديمقراطي الأمريكي؟
الآن تشهد واشنطن حملة انتخابية ربما تكون الأشرس في التاريخ الحديث للولايات المتحدة الأمريكية؛ فالحزب الديمقراطي برئاسة جو بايدن يواجه منافسة شرسة من جانب الجمهوريين بزعامة دونالد ترامب. وبينما يبدو المعسكر الجمهوري متماسكاً وموحداً خلف الرئيس السابق والمرشح الحالي، يوجد انقسام عميق في المعسكر الديمقراطي بشأن استمرار بايدن في السباق من عدمه بسبب الحالة العقلية للرئيس العجوز.
في هذا السياق وإذا كان هناك درس يمكن أن يستفيد منه الجميع في الولايات المتحدة من وراء نجاح المرشحين المؤيدين للفلسطينيين في كل من فرنسا وبريطانيا، يبدو من غير المرجح أن أي ديمقراطي في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني لن يتعلم ذلك الدرس، بحسب تحليل الموقع الأمريكي.
فدعم الرئيس جو بايدن غير المحدود لإسرائيل وحرب الإبادة الجماعية التي تشنها على الفلسطينيين في غزة لا يشكل فشلاً أخلاقياً فادحاً فحسب، بل يشكل أيضاً خطراً انتخابياً، لا سيما في ولاية ميشيغان المتأرجحة الحاسمة، والتي تشهد نسبة عالية من المصوتين المسلمين، وبالنسبة للناخبين الشباب بشكل عام أيضاً. لكن على الرغم من ذلك كله، لا تزال حملته الانتخابية ترفض تغيير المسار بشأن هذه القضية.
وحتى لو تم استبدال الرئيس المسن كمرشح ديمقراطي، فإن هناك فرصة ضئيلة لأن يتبنى أي خليفة له برنامجاً أقرب للتضامن مع الفلسطينيين أو حتى يحمل مطالب قوية لوقف إطلاق النار. يأتي ذلك على الرغم من أن 77% من الناخبين الديمقراطيين وثلثي الناخبين في الولايات المتحدة بشكل عام يؤيدون وقفاً دائماً فورياً لإطلاق النار في غزة.
"أيباك" والحرب على بومان
ومع ذلك، ينبغي لنتائج الانتخابات الفرنسية والبريطانية أن تمثل درساً شاخصاً أمام الديمقراطيين اليساريين كي يواصلوا الكفاح ضد "الجهود الشريرة التي تبذلها مجموعات مثل لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك)، لسحق المرشحين الداعمين لفلسطين"، بحسب ذا إنترسيبت.
وفي هذا الإطار رصد تحليل الموقع ما حدث في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في أحد دوائر ولاية نيويورك، عندما رصدت الجماعات المؤيدة لإسرائيل مبلغاً قياسياً قدره 15 مليون دولار للإطاحة بالنائب التقدمي جمال بومان بسبب دعمه لفلسطين.
نعم، نجحت جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل في خسارة بومان ترشيح الحزب في الانتخابات المقبلة، لكن هذا لا يعني أن التقدميين في الحزب الديمقراطي عليهم أن يرفعوا الراية البيضاء ويتخلوا عن مواقفهم المنتقدة لإسرائيل وجرائمها المستمرة ضد الفلسطينيين، بل "ينبغي أن يكون رد الفعل هو مضاعفة الجهود التنظيمية في جبهة موحدة ضد تدخلات أيباك".
إذ لم يفعل كبار الديمقراطيين الكثير للدفاع عن بومان ضد الهجوم الممول جيداً. ومن المشجع إلى حد ما أن أعضاء التيار الديمقراطي الرئيسي قد وضعوا المزيد من الدعم وراء الهدف التالي للجنة الشؤون العامة الإسرائيلية، وهي النائبة عن ولاية ميزوري كوري بوش، في انتخاباتها التمهيدية في الشهر المقبل؛ ويجب أن يكون هذا الدعم أقوى، بحسب ذا إنترسيبت.
متغيرات كثيرة تحسم الانتخابات
سيكون من المبالغة القول إن نتائج الانتخابات الفرنسية والبريطانية الأخيرة تعكس الشعبية التي لا لبس فيها لقضية التضامن مع الفلسطينيين بطبيعة الحال، فقد كانت هناك الكثير من المتغيرات التي لعبت دوراً في النتائج النهائية في كلتا الحالتين، وبالتالي فإن استخلاص استنتاجات بسيطة سيكون أمراً غير دقيق.
ففي بريطانيا، كانت الرغبة في الإطاحة بحزب المحافظين سبباً في دفع الدعم لحزب العمال الذي يتزعمه رئيس الوزراء الجديد كير ستارمر. وفي فرنسا، كان التنسيق الاستراتيجي بين الوسط واليسار في الجولة الثانية من الانتخابات أمراً أساسياً.
فالجبهة الشعبية الجديدة عبارة عن ائتلاف مشحون بالمخاطر، ولا شك أن الخلافات الداخلية حول إسرائيل، بين قضايا أخرى، سوف تهدد تماسكه الهش. كما أن الكتلة لم تفز بالأغلبية المطلقة، على الرغم من فوزها بأكبر عدد من المقاعد، وبالتالي تواجه عقبات كبيرة أمام المضي قدماً في برنامجها السياسي.
لكن في الوقت نفسه يعتبر البقاء كجبهة موحدة هو الفرصة الوحيدة المتاحة للأحزاب اليسارية، وهذا يعني أنه لا يمكن التخلي عن قضية دعم فلسطين بشكل مطلق.
دعم فلسطين مفيد انتخابياً؟
بحسب تحليل الموقع الأمريكي، تظل ما توصف بأنها سياسة واقعية في مثل هذه الظروف أمراً "دنيئاً"، فالوقوف ضد الإبادة الجماعية والاحتلال والفصل العنصري أمور يجب أن تكون "بديهية". لكن بما أن الحاجة إلى وقف حرب إسرائيل التي لا تطاق تظل ملحة أكثر من أي وقت مضى، فإن دعم فلسطين الآن يمكن أن يظهر على أنه مفيد، وليس ضاراً، للنجاح الانتخابي.
وعلى أقل تقدير، قدم المرشحون والقادة اليساريون في فرنسا وبريطانيا، من أمثال ميلينشون وكوربين، أمثلة قوية للتقدميين في الولايات المتحدة. وهذا الدرس مفاده أنه حتى في مواجهة الهجمات سيئة النية وعمليات الطرد من الحزب، التي تهدف إلى سحق الدعم لفلسطين، ظل هؤلاء صامدين على مواقفهم، وأخذوا الجانب الصحيح من التاريخ، وكانت النتيجة أنهم حققوا الفوز أيضاً.
وربما هذا ما يفسر إلى حد ما الموقف الحاد الذي اتخذه جو بايدن في المؤتمر الصحفي الذي عقده الخميس 11 يوليو/ تموز، على هامش قمة الناتو التي تستضيفها واشنطن.
الرئيس الأمريكي قال إن حرب إسرائيل على غزة ينبغي أن "تنتهي الآن"، مضيفاً أنه لا يجب أن يكون هناك "احتلال إسرائيلي للقطاع بعدها": "هذه قضايا صعبة ومعقدة. لا تزال هناك فجوات يتعين سدها. نحن نحرز تقدما. الاتجاه إيجابي. أنا مصمم على إنجاز هذا الاتفاق ووضع نهاية لهذه الحرب، التي يجب أن تنتهي الآن". كما وجه بايدن بعض الانتقادات لحكومة الحرب الإسرائيلية وقال إن "إسرائيل كانت في بعض الأحيان أقل تعاونا". جاءت تصريحات بايدن في مؤتمر صحفي عقد خصيصاً كي يعلن "إصراره على الاستمرار في السباق الانتخابي" في وجه مطالبات متصاعدة من داخل الحزب الديمقراطي تطالب باستبداله بمرشح آخر، أو مرشحة، بعد الأداء الهزيل الذي ظهر عليه في المناظرة ضد ترامب يوم 27 يونيو/ حزيران الماضي.