فشل حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في مواصلة تصدره لانتخابات فرنسا التشريعية، كما فعل في الجولة الأولى، لكنه بات رقماً سياسياً يصعب تجاهله، فما قصة التحول من "حزب منبوذ" قبل 52 عاماً فقط؟
كان الحزب، الذي أسسه جندي فرنسي سابق هو، جان ماري لوبان، عام 1972 تحت اسم "الجبهة الوطنية"، قد تصدر الانتخابات التشريعية المبكرة في جولتها الأولى، التي أجريت 30 يونيو/ حزيران الماضي، وبات في طريقه للقبض على زمام السلطة في باريس، لكن نتائج الجولة الثانية جاءت بما لا تشتهيه مارين لوبان، ابنة مؤسس الحزب.
حل معسكر اليمين المتطرف، الذي يقوده حزب التجمع الوطني برئاسة جوردان بارديلا – الشاب البالغ من العمر 28 عاماً وتلميذ مارين لوبان – في المركز الثالث، حسبما أظهرت النتائج الأولية للجولة الثانية من الانتخابات، التي أجريت الأحد 7 يوليو/ تموز، ليفقد الحزب فرصة تشكيل الحكومة الفرنسية كما كانت الأمور تشير بعد نتائج الجولة الأولى.
في هذا التقرير نلقي الضوء على مسيرة هذا الحزب ومسيرته على مدى أكثر من نصف قرن، وكيف تحول من "حزب منبوذ" تماماً على الساحة السياسية الفرنسية إلى منافس رئيسي في الانتخابات، الرائسية والبرلمانية، خلال السنوات الأخيرة.
التأسيس عام 1972.. جان ماري لوبان
مؤسس حزب "الجبهة الوطنية" هو جان ماري لوبان، المولود يوم 20 يونيو/ حزيران عام 1928 بمدينة لا ترنتي الفرنسية، وخدم في الجيش الفرنسي حيث كان يحارب في الجزائر خلال حرب التحرر من الاستعمار. حارب لوبان ضمن فرقة للمظليين ضمن الجيش الاستعماري بين عامي 1956 و1957، بحسب تقرير لموقع فرانس24.
لكن بحسب الموسوعة البريطانية، تم انتخاب جان ماري لوبان عضواً في الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) عام 1956، ليصبح أصغر عضو برلماني وقتها. وفي عام 1972، أسس الجندي السابق وعضو البرلمان، مع مجموعة من المحاربين القدامى، حزب "الجبهة الوطنية".
لكن المحاربين القدامى لم يكونوا هم فقط المؤسسين لحزب الجبهة الوطنية، بل ضم أيضاً هذا الحزب متعاونين سابقين مع حكومة "فيشي"، فمن هؤلاء؟ نظام "فيشي" كان عميلاً لألمانيا النازية وسمح لأدولف هتلر بأن يحكم باريس، منذ عام 1940، وأن يسخر بعض الفرنسيين في معسكرات اعتقال النازية.
نظام فيشي أو حكومة فيشي هو الاسم الذي أُطلق على الدولة الفرنسية التي نشأت بعد هزيمة فرنسا في الحرب العالمية أمام جيوش ألمانيا النازية، وأخذت هذا الاسم من مدينة فيشي التي كانت مقراً للحكومة بينما خضعت باريس للاحتلال الألماني.
حسناً، هؤلاء هم من أسسوا حزب "الجبهة الوطنية"، فما هي أفكارهم التي على أساسها أقاموا هذا الحزب؟ إليكم أبرزها:
- مشكلة فرنسا الأساسية تتمثل في المهاجرين، وبصفة خاصة العرب من أبناء المستعمرات الفرنسية السابقة (الجزائر والمغرب).
- معارضة الاندماج ضمن الاتحاد الأوروبي.
- العودة إلى تنفيذ حكم الإعدام.
- حظر بناء مساجد إضافية في فرنسا.
الترشح للرئاسة عام 1974
بعد عامين فقط من تأسيس الحزب ذو الأفكار اليمينية المتطرفة، والذي اجتذب متعاونين مع النازية وجنود سابقين في الجيش الاستعماري، قرر جان ماري لوبان الترشح للرئاسة الفرنسية، لكنه لم يحصل سوى على أقل من 1% من الأصوات، في مؤشر واضح على أن حزبه "منبوذ" من الغالبية الساحقة من الفرنسيين.
وبعد عامين فقط، أي عام 1976، تعرض منزل لوبان في باريس لهجوم بقنبلة، لكن أحداً من عائلته لم يكن بالمنزل. ولم يتم القبض على الجناة ولا معرفة إذا ما كان الهجوم عملاً فردياً أم من جانب جهة ما.
ويلقي تقرير لوكالةNPR الضوء على حياة عائلة لوبان في تلك الفترة، حيث ذكرت الكاتبة سيسل ألدوي، مؤلفة أحد الكتب عن حياة مارين لوبان – الابنة التي تولت رئاسة الحزب عام 2011 وترشحت للرئاسة أكثر من مرة – أن لوبان عاشت طفولة مضطربة أثرت لاحقاً على نظرتها للعالم. تقول ألدوي إن نشأت مارين مع اسم لوبان، العائلة اليمينية الأكثر تطرفاً بفرنسا، قد سببت لها صدمة: "كان لقبها يشكل عبئاً دائماً عليها، فكونها ابنة جان ماري لوبان زعيم الجبهة الوطنية دفعها من ناحية إلى تمجيد والدها، الذي يتعرض لانتقادات شديدة، لكنها عانت أيضاً، حيث تعرضت للنبذ من قبل زملائها في الدراسة، ولم تدعها أي عائلات أخرى إلى منازلها".
وخلال الفترة من 1972 – عام التأسيس – وحتى 1986، فشل حزب الجبهة الوطنية في دخول البرلمان الفرنسي ولو بمقعد واحد. كما فشل لوبان المؤسس، عام 1981، في جمع التأييدات الكافية للترشح في الرئاسة، أي أنه فشل فيما كان قد نجح فيه عام 1974، وهو مؤشر على مدى تدني النظرة العامة للحزب وأفكاره.
1986.. أول مقعد للجبهة الوطنية في البرلمان
لكن في الانتخابات البرلمانية التي انعقدت عام 1986، حصد حزب الجبهة الوطنية برئاسة لوبان أول مقاعده البرلمانية في الجمعية الوطنية، في مؤشر على بداية الصعود لليمين المتطرف، حتى وإن كان صعوداً تدريجياً وبطيئاً.
وفي الانتخابات الرئاسية عام 1988، ترشح لوبان المؤسس مرة أخرى لرئاسة الجمهورية، ليحصد 14.4% من أصوات الناخبين، وكانت هذه النسبة المؤشر الأول على تمدد الحزب اليميني المتطرف وأفكاره المعادية للهجرة والمهاجرين بصورة لافتة. ومن الملاحظات الهامة في هذه الانتخابات تركيز لوبان ومعسكره على معاداة المهاجرين بشكل عام، والمسلمين بشكل خاص، بحسب تقرير لموقع فرانس24.
وفي العام التالي مباشرة، حقق الحزب نتيجة أخرى كبيرة بحصوله على 10% من أصوات الفرنسيين في الانتخابات الأوروبية، في مؤشر آخر على بداية التحول من خانة "المنبوذ" كحزب إلى خانة "حزب ذا أفكار يمينية متطرفة" يعتنقها قطاع من الناخبين.
ثم جاءت انتخابات المجالس البلدية في فرنسا عام 1995 لتحمل مفاجأة كبرى في ذلك الوقت، إذ فاز حزب الجبهة الوطنية برئاسة ثلاثة مجالس بلدية في الجنوب؛ تولون وأورانج ومارينيان، وهو ما يشير إلى استمرار تنامي شعبية اليمين المتطرف في البلاد.
لوبان في جولة إعادة ويدافع عن "الاحتلال النازي"
حملت الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2002، الأولى في القرن الحادي والعشرين، مفاجأة صادمة للرأي العام الفرنسي والأوروبي والعالمي أيضاً، حيث نجح لوبان في التأهل للجولة الثانية من هذه الانتخابات، بعد أن حصل على نحو 17% من أصوات الناخبين.
وجد الرئيس الفرنسي وقتها، جاك شيراك، نفسه وجهاً لوجه مع جان ماري لوبان في جولة الإعادة، وتردد صدى الصدمة في جنبات المجتمع الفرنسي، لتتضامن أحزاب اليمين واليسار معاً لمنع مروره إلى قصر الإليزيه، فيكتسح شيراك جولة الإعادة بأكثر من 80% من الأصوات.
لم يغير لوبان شيئاً من أجندة حزبه اليميني المتطرف ولا من طريقته الفجة والشاذة، بحسب توصيف المحللين والمراقبين، في التعبير عن آرائه المتطرفة، على الرغم من وصوله إلى جولة إعادة في الانتخابات الرئاسية. فأدلى بتصريحات دافع فيها عن الاحتلال النازي لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية.
ففي مطلع عام 2005، وصف لوبان الاحتلال النازي لبلاده بأنه "لم يكن غير إنساني في أغلب الأحيان"، ودافع عن قادة نظام فيشي واصفاً إياهم بأنهم "كانوا وطنيين ومحبون لبلادهم شأنهم شأن جميع الفرنسيين"، وهو ما أثار حفيظة الرأي العام الفرنسي والأوروبي، وأدى إلى رفع دعاوى قضائية ضد الزعيم اليميني المتطرف.
وفي عام 2008، أصدرت محكمة فرنسية حكماً بسجن جان ماري لوبان لمدة 3 أشهر مع إيقاف التنفيذ وغرامة قدرها 10 الاف يورو بسبب تلك التصريحات.
مارين لوبان تتسلم راية اليمين المتطرف
سلم لوبان الأب في عام 2011 راية القيادة لابنته مارين لوبان، في ظل أوضاع صعبة كان يمر بها حزب الجبهة الوطنية من حيث الأداء الضعيف في استطلاعات الرأي والأوضاع المالية للحزب.
في عام 2012 سعت مارين لوبان للترشح في الانتخابات الرئاسية لكنها فشلت في الحصول نسبة تذكر من الأصوات. وكانت تقابل باستهجان كبير في جولاتها الانتخابية، التي ركزت فيها على قضية المهاجرين وعلى إعادة تنفيذ حكم الإعدام.
ثم جاءت الانتخابات البلدية الفرنسية عام 2014 ليحقق حزب الجبهة الوطنية الفوز في 10 مجالس بلدية، ثم حصل الحزب على المركز الأول في انتخابات البرلمان الأوروبي، إيذاناً بمرحلة جديدة من صعود اليمين المتطرف.
وشهد عام 2015 محطة هامة من محطات حزب عائلة لوبان؛ فقد أدلى الأب بتصريحات قلل فيها من المحرقة، معتبراً إياها "إحدى تفاصيل الحرب العالمية الثانية"، وهو ما أثار غضباً هائلاً في أروقة السياسة الفرنسية، لتقرر مارين الابنة فصل مارين الأب من الحزب بشكل نهائي.
انتخابات 2017 وبداية "الثبات" الانتخابي
شهدت الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2017 مرحلة يمكن وصفها بأنها مرحلة تحول حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف من "حزب هامشي منبوذ بشكل عام" إلى أحد الأرقام الصعبة في السياسة الفرنسية. فزعيمة الحزب ترشحت في الانتخابات ضد إيمانويل ماكرون وتأهلت معه إلى جولة إعادة حسمها الأخير لصالحه.
وجاء العام التالي لتلك الانتخابات ليشهد محاولات مكثفة من جانب مارين لوبان لتغيير الصورة النمطية عن حزب عائلتها وجعله أكثر قبولاً لدى جمهور أوسع من الناخبين، فغيرت اسمه إلى "التجمع الوطني" وسعت إلى النأي بالحزب عن ماضيه العنصري. وفي الوقت نفسه حاولت منح نوابه البرلمانيين مظهراً أكثر احترافية من خلال التدريب الإعلامي والحضور الواضح على منصات التواصل الاجتماعي.
وكررت مارين لوبان محاولة الوصول إلى قصر الإليزيه في الانتخابات الرئاسية عام 2022، وكان المنافس هو نفسه ماكرون، وبدت زعيمة اليمين المتطرف في طريق مفتوح إلى قصر الرئاسة، لكن جولة الإعادة شهدت تكرار النتائج السابقة وفاز ماكرون مرة ثانية. لكن حتى ماكرون نفسه في خطاب النصر أقر بأن التصويت لم يكن لصالحه بقدر ما كان خوفاً من اليمين المتطرف.
وهكذا وصل حزب التجمع الوطني إلى مرحلة الثبات الانتخابي ليحل في المرتبة الثالثة في انتخابات الجمعية الوطنية الماضية، ويكتسح انتخابات الاتحاد الأوروبي التي أقيمت مطلع يونيو/ حزيران الماضي ليجبر ماكرون على حل البرلمان الفرنسي والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة، شهدت جولتها الأولى الانتصار الأكبر لليمين المتطرف.
كانت مارين لوبان قد تركت رئاسة الحزب عام 2022 ليتولاها تلميذها الشاب جوردان بارديلا – البالغ من العمر 28 عاماً. وتقدم الحزب بدعاوى قضائية أمام المحاكم الفرنسية مطالبا بإلغاء تصنيفه على أنه "حزب يميني متطرف"، لكن تم رفض تلك الدعاوى. نعم خسر الحزب صدارة الانتخابات في الجولة الثانية، التي أقيمت الأحد 7 يوليو/ تموز، لكنه حقق في الوقت نفسه نتيجة تاريخية لم يحققها من قبل. إذ حصد تحاف اليمين المتطرف برئاسة حزب التجمع الوطني 143 مقعداً في المركز الثالث خلف تحالف معاً (معسكر ماكرون)، الذي حصد 168 مقعداً، بينما تصدر تحالف الجبهة الشعبية اليساري الانتخابات بحصده 182 مقعداً، أما باقي المقاعد فقد حصدها مستقلون (الإجمالي 577).