كما كان متوقَّعًا، أظهرت النتائج الأولية للدورة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية المبكرة التي جرت الأحد 30 يونيو/حزيران 2024، تقدم اليمين المتطرف مقابل تراجع كبير لمعسكر الرئيس إيمانويل ماكرون، والذي دعا إلى "تحالف واسع" من أجلِ منع تقدم اليمين المتطرف الذي بات على أبواب السلطة.
ويسعى معسكر الرئيس ماكرون، الذي تلقى هزيمة قاسية هي الثانية في أقل من شهر بعد الأولى في الانتخابات الأوروبية ودائمًا لصالح اليمين المتطرف، إلى تجنب "السيناريو الأسوأ" خلال الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية إذا تمكن حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف من الحصول على أغلبية مطلقة.
إذ حسب رئيس الوزراء الفرنسي الحالي، غابريال أتال، فإن المهم خلال المرحلة المقبلة هو منع اليمين المتطرف من تحقيق الأغلبية المطلقة، وقال، "هدفنا واضح، منع التجمع الوطني من الحصول على الأغلبية المطلقة، ومن السيطرة على مجلس الأمة وبالتالي من حكم البلاد بمشروعه الكارثي"، حسب ما نقلته صحيفة "Le Monde" الإثنين 1 يوليو/تموز 2024.
نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية
أظهرت النتائج الأولية للدورة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية التي جرت الأحد تقدم اليمين المتطرف بقيادة حزب "التجمع الوطني" بـ33.2 بالمائة من الأصوات على تحالف اليسار "الجبهة الشعبية الجديدة" الذي يضم "الحزب الاشتراكي" و"الحزب الشيوعي" و"الخضر" و"فرنسا الأبية" بـ 28.1 بالمائة.
بينما حاز التحالف الرئاسي الذي يضم حزب "النهضة" و"آفاق" و"الحركة الديمقراطية" على 21 بالمائة من الأصوات، وهي نتائج اعتبرها مراقبون متوقعة بالنظر إلى الأرقام التي كشفت عنها استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات التشريعية.
وشهدت هذه الانتخابات التشريعية الفرنسية التاريخية نسبة مشاركة قياسية بلغت 69.5 بالمائة، وهي نسبة لم تشهدها فرنسا منذ 35 عامًا وفق مدير معهد "إيلاب" لاستطلاعات الرأي برنار سنانيز، حسبما نقلتهوسائل إعلام فرنسية الإثنين.
أما حزب "الجمهوريون" اليميني، والذي ما زال يتزعمه إريك سيوتي رغم تحالفه مع "التجمع الوطني"، فقد جاء في المرتبة الرابعة بنسبة 10 بالمائة من الأصوات.
وعلى ضوء هذه النتائج الأولية، يمكن القول إن "التجمع الوطني" قد حقق فوزًا كبيرًا كما توقعه معهد "إبسوس تلان" لاستطلاعات الرأي والذي تنبأ بأنه قد يحصل على ما بين 230 إلى 280 مقعدًا، وتنبأ أيضًا بـ"هزيمة قاسية" لمعسكر ماكرون.
كما قال المحلل السياسي المختص في الشأن الفرنسي ورئيس تحرير مجلة "كل العرب" بباريس، علي المرعبي، "نحن مقبلون على نتائج حاسمة ستحدد ملامح الفترة المقبلة"، وأيضًا مستقبل الحكم في فرنسا في ظل تصاعد قوة اليمين المتطرف.
وأوضح في تصريح لـ"عربي بوست" أن التقدم الذي حققه اليمين المتطرف في الانتخابات التشريعية الفرنسية على حساب باقي القوى السياسية، "هو مؤشر يحيل على نتائج الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية المرتقبة في السابع من يوليو/تموز 2024".
اليمين المتطرف على أعتاب الحكم
فور الإعلان عن النتائج الأولية مساء الأحد 30 يونيو/حزيران 2024، تفاجأ أنصار "التجمع الوطني" فرحة بمقر زعيمتهم مارين لوبان، بمنطقة هينان بومون شمال فرنسا، رافعين شعارات موالية لها ومرددين "مارين رئيسة لفرنسا".
بينما علقت مارين لوبان على نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية قائلة: "الديمقراطية تكلمت ووضعت التجمع الوطني في الطليعة ومحت حزب (الرئيس إيمانويل) ماكرون". وأضافت: "أشكر جميع الفرنسيين الذين أظهروا رغبتهم في طي صفحة ماكرون وأتباعه"، محذرة: "الفوز لم يتحقق بعد، بل يجب القيام بكل شيء لمنع نجاح جبهة معادية للسامية وللجمهورية" في إشارة إلى "الجبهة الشعبية الجديدة".
وكررت زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي دعوتها لأنصار حزبها لمنحه "الأغلبية الساحقة في جولة الإعادة ولكي يتم تعيين جوردان بارديلا رئيسا للحكومة المقبلة باسم مبدأ التناوب على السلطة ثم الشروع بعد ذلك في القيام بإصلاحات".
كما خاطبت مارين لوبان أنصارها قائلة: "أدعوكم إلى الذهاب إلى صناديق الاقتراع بكثافة في الجولة الثانية"، داعية أولئك "الذين لم يصوتوا لصالح حزبها للاقتراع لصالح الحرية والأمن والوحدة"، على حد تعبيرها.
في ختام كلمتها، حاولت زعيمة اليمين المتطرف طمأنة الفرنسيين بالقول: "لن يفقد أي فرنسي حقوقه. الحقوق ستكون كلها مضمونة"، منهية: "في 7 يوليو/تموز المقبل جندوا أنفسكم لكي يفوز الشعب. عام 2024 سيشهد ولادة الأمل".
ولم يختلف خطاب جوردان بارديلا، رئيس "التجمع الوطني" كثيرًا عن خطاب لوبان، فقد شكر الفرنسيين الذين "تنقلوا بكثافة إلى مراكز التصويت وأكدوا مرة أخرى عبر التصويت طموحهم للتغيير".
وقال بارديلا الذي يملك حظوظًا كبيرة لتولي منصب رئيس الحكومة بعد الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية: "تصويت يوم الأحد المقبل سيكون تصويتا حاسمًا في تاريخ الجمهورية الخامسة".
ووضع بارديلا الفرنسيين أمام خيارين "إما أن تقبلوا فوز تحالف (السيئين) الذي يريد تدمير فرنسا والتلاعب بأمنها، أو تصوتوا لصالح التحالف الوطني الذي يعد الحصن الوحيد الذي سيدافع عن الجمهورية وعن مؤسسات الدولة والذي سيعيد الأمن ويكبح جماح الهجرة".
وختم رئيس "التجمع الوطني" اليميني المتطرف خطابه قائلاً: "أتطلع إلى أن أكون رئيس وزراء لجميع الفرنسيين وأحترم المؤسسات والمعارضة. سأضمن الحقوق وأدافع عن شعار الجمهورية المتمثل في الحرية والعدالة والأخوة".
لكن بالنسبة للمحلل السياسي المختص في الشأن الفرنسي، علي المرعبي، فإن اليمين المتطرف الفرنسي يستطيع من خلال هذه الأفكار أن يشوه صورة فرنسا أمام العالم، "فرنسا التي تتغنى بقيم التسامح والتعايش والحرية واحتواء جميع الأعراق".
وأضاف لـ"عربي بوست" تعليقًا على اقتراب اليمين المتطرف من الحكم: "في رأيي أن اليمين المتطرف قد يرفع من سقف طموحاته عندما يكون خارج السلطة، لكن التدبير والتسيير أمر آخر، هناك أنظمة وقواعد دستورية تحظر كثيرًا من دعواتهم ومشاريعهم".
"مأساة فرنسية" بطلها ماكرون
داخل قصر الإليزيه كان الوضع "مأساويًا" حيث كشفت الانتخابات التشريعية الفرنسية عن "مأساة فرنسية" بطلها إيمانويل ماكرون على حد وصف صحيفة "Le Figaro" في افتتاحيتها الإثنين 1 يوليو/تموز تعليقًا على النتائج التي أفرزتها الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية.
الصحيفة اعتبرت أن ماكرون خسر كل شيء في الإليزيه، وقال ألكسيس بريزيت مدير تحرير صحيفة "لوفيغارو" إن ماكرون: "أراد توحيد الكتلة المركزية، وتقسيم اليسار، وعزل حزب الجبهة الوطنية: وقد ثبت خطأ كل حساباته".
وفي محاولة منه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الناخبين في بلاده إلى تحالف كبير في مواجهة التطرف، وقال في تصريح مكتوب: "في مواجهة التجمع الوطني، إنه الآن وقت تحالف واسع يكون بوضوح ديمقراطيا وجمهوريا في الدورة الثانية".
بينما أشاد ماكرون بالمشاركة الكبيرة في الانتخابات التشريعية الفرنسية معتبرًا أنها "تُظهر أهمية هذا الاقتراع بالنسبة لجميع مواطنينا وإرادة توضيح الوضع السياسي"، مضيفًا أن "خيارهم الديمقراطي يلزمنا". وذلك بعدما جمع رؤساء أحزاب يمين الوسط الذين يحكم معهم منذ 2017.
وحسب المحلل السياسي، علي المرعبي، فإن الرئيس إيمانويل ماكرون "يملك معطيات وأوراق كثيرة يستطيع من خلالها التأثير على مجرى الوضع السياسي لفرنسا إلى غاية الأحد المقبل، وحتى بعد ذلك"، وفق ما صرح به لـ"عربي بوست".
وأضاف أن صورة التحالفات، خاصة المحلية والمرحلية ستتغير خلال هذه الفترة إلى حين الأحد المقبل، "ومن بين المؤشرات على ذلك، تصريح زعيم حزب فرنسا الأبية اليساري جان لوك ميلانشون أنه على استعداد لسحب مرشحين له في بعض المناطق لصالح يمين الوسط إذا ما خُشيَ تقدم اليمين المتطرف".
تحالف واسع ضد اليمين المتطرف
لكن جان لوك ميلنشون زعيم "فرنسا الأبية" المتحالف ضمن "الجبهة الشعبية الجديدة"، وجه انتقاده الأول لماكرون الذي كان يعتقد، حسب ميلنشون، بأن حل البرلمان سيضع الفرنسيين أمام خيارين اثنين فقط، أي التصويت لتحالفه الرئاسي أو لصالح "التجمع الوطني".
وتابع حسب ما صرح به الأحد 30 يونيو/حزيران تعليقًا على نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية: "لكن الفرنسيين أحبطوا المكيدة عبر الذهاب إلى مراكز التصويت بكثافة ولقنوا درسا كبيرا لماكرون وللتحالف الرئاسي على حد سواء".
وأضاف ميلنشون الذي جاء تحالفه بالمركز الثاني في الانتخابات التشريعية أن فرنسا أمام خيارين: "إما تعميق الخلافات والانقسامات بين أفراد الشعب أو التصويت لصالح الجبهة الشعبية الجديدة التي تعد البديل الوحيد لليمين المتطرف".
وأوضح ميلنشون أن "الأمر لا يكمن فقط في التصويت ضد حزب أو تحالف ما، بل التصويت لصالح مستقبل آخر يحترم الكرامة الإنسانية"، داعيا الفرنسيين إلى اختيار "الجبهة الشعبية الجديدة" في الدوائر الانتخابية التي يتنافس فيها ثلاث كتل سياسية.
وشدد زعيم "فرنسا الأبية" قائلًا: "تعليماتنا واضحة: لا يجب أن نعطي صوتا أو مقعدا واحدا للتجمع الوطني".
من جهته، أكد رافاييل غلوكسمان من "الحزب الاشتراكي" أن "الفرنسيين على موعد الأحد المقبل مع استفتاء شعبي في إشارة إلى الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية.
وأضاف غلوكسمان أن السؤال الوحيد المطروح أمامهم: هل تريدون حكومة تكون فيها ماريون مارشال لوبان (حفيدة جان-ماري لوبان) وزيرة للتربية؟ أم تريدون التصويت لصالح "الجبهة الشعبية الجديدة" التي تؤمن بالديمقراطية وبقيم الجمهورية وبالاتحاد الأوروبي والتي لا تفرق بين الفرنسيين ولا تنتقي المرضى في المستشفيات؟".
وختم قائلًا: "التاريخ سيحاسبنا. لا يجب أن نترك عائلة لوبان تصل إلى سدة الحكم".
فيما قلل علي المرعبي من تأثير صعود اليمين المتطرف الفرنسي للسلطة، وقال لـ"عربي بوست": أرى أن اليمين المتطرف سيكون مقيدًا بالدستور الفرنسي الذي يدعو إلى العدالة والمساواة".
لكن هذا لن يمنع من وجود ممارسات وقوانين مرحلية قد تتبناها الحكومة المقبلة إذا ما قادها اليمين المتطرف، لذا وجب التعاطي بحذر شديد مع المستقبل القريب لحماية المهاجرين واللاجئين، وأضاف: "أعتقد أن اللحظة الحالية تستوجب في كشف الدور السيئ الذي يلعبه اليمين المتطرف وفضح أفكاره أمام المحاكم الدولية".