خلال أقل من أسبوعين تتحدد نتيجة "مقامرة" إيمانويل ماكرون بالدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة أدخلت فرنسا في حالة من الارتباك السياسي، فما السيناريوهات الأربعة المحتملة؟
وتشهد فرنسا الجولة الأولى من الانتخابات المبكرة التي دعا إليها ماكرون يوم 30 يونيو/حزيران الجاري، بينما تجري الجولة الثانية يوم 7 يوليو/تموز، مصدراً قراراً بحل البرلمان، رغم أن استطلاعات الرأي تظهر أن حزبه قد لا يحصل على أكثر من 15% من الأصوات.
وصف أغلب المراقبين خطوة ماكرون بأنها "مقامرة"، نظراً للصعود الصاروخي لمعسكر اليمين المتطرف، وهو ما أظهرته نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي ألحق فيها حزب التجمع الوطني هزيمة نكراء بحزب ماكرون، وبالتالي جاءت خطوة الرئيس المفتقد للشعبية بمثابة المفاجأة للجميع، بمن فيهم حلفاؤه السياسيون أنفسهم، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
السيناريو الأول: "التعايش"
الآن وقد بدأ العد التنازلي للانتخابات المبكرة بالفعل، يصبح سؤال الساعة في فرنسا: ما السيناريوهات المحتملة؟ وهو ما تناوله موقع فرانس 24 في تقرير له وضع 4 احتمالات، أولها هو "التعايش"، فماذا يعني ذلك؟
بموجب الدستور الفرنسي، الحكومة "تحدد وتدير سياسة الأمة"، ويصدر البرلمان القوانين ويمكنه إسقاط الحكومة، بينما يكون رئيس الدولة هو المحكم الذي يضمن "السير المنتظم للسلطات العامة". فالرئيس، باعتباره الضامن "للاستقلال الوطني والسلامة الإقليمية واحترام المعاهدات"، مسؤول عن السياسة الخارجية والأوروبية والدفاعية، في حين تدير الحكومة- بدعم أو لا من البرلمان- السياسة الداخلية.
وهذا يعني أن معاشات التقاعد، وإعانات البطالة، والتعليم، والضرائب، ومتطلبات الهجرة والجنسية، والتوظيف العام، والقانون والنظام، وتشريعات التوظيف، كلها تقع، من حيث المبدأ، تحت اختصاص البرلمان والحكومة.
وبالتالي عندما يكون الرئيس والأغلبية البرلمانية متحالفين سياسياً، فإن هذا الترتيب يعمل بسلاسة نسبياً، لكن عندما لا تكون هذه الصيغة متوافرة، تكون الأمور أصعب. ومن الصعب تصور تعايش عاصف أكثر من تعايش بين ماكرون وأغلبية حزب الجبهة الوطنية (اليمين المتطرف).
وحالياً تشير استطلاعات الرأي إلى أن حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، بزعامة مارين لوبان المرشحة الرئاسية لثلاث مرات، ورئيس الحزب الحالي غوردان بارديلا، سيحصل على العدد الأكبر من الأصوات بعد الجولة الثانية من الانتخابات في 7 يوليو/تموز المقبل. وإذا ما تحقق هذا السيناريو فإن ماكرون سيجد نفسه في "تعايش" بين رئيس وحكومة من معسكرين على طرفي نقيض.
ماذا يعني "تعايش" ماكرون واليمين المتطرف؟
في هذا السيناريو، سيكون التوتر بين ماكرون وخصومه من اليمين المتطرف هو سيد الموقف. فبينما سيكون اليمين المتطرف قادراً على تنفيذ جزء من برنامجه الداخلي، مثل الحد من الهجرة، فإن الرئيس وحده هو من يستطيع الدعوة إلى استفتاء أو تصويت على تعديلات دستورية.
لكن حتى في السياسة الخارجية، قد يجد الرئيس الذي عادة ما يرسم السياسة الخارجية والدفاعية، يديه مكبلتين في حال عيّن التجمع الوطني وزيري دفاع وخارجية قوميين يعارضان نظرته للعالم.
وهذا من شأنه أن يخلق مشاكل كبيرة لفرنسا، فمن شأن برلمان يسيطر عليه الحزب الذي يرأسه غوردان بارديلا البالغ من العمر 28 عاماً، أن يهدف إلى المُضي قدماً في تنفيذ أجندته الداخلية.
وقد يشمل ذلك زيادة الإنفاق العام، وطرد المزيد من المهاجرين، ووقف لم شمل الأسر، وعكس الارتفاع المخطط له في أسعار الغاز، وخصخصة التلفزيون والإذاعة العامين، ومن الممكن أن تواجه بعض الخطط الأخرى، بما في ذلك "التفضيل الوطني"، عقبات دستورية.
وستكون العواقب أكثر خطورة على الجبهة الأوروبية، فرغم أن الرئيس سيحتفظ اسمياً بالسيطرة على السياسة الخارجية، إلا أن تدابير مثل تقديم المساعدة لأوكرانيا قد تتعرض للخطر لأن دعم البرلمان سيكون ضرورياً لتمويل أي دعم كجزء من ميزانية فرنسا.
كانت فرنسا قد شهدت ثلاث حكومات "تعايش" في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وجميعها كانت حكومة تعايش بين اليسار ويمين الوسط، وآخرها دامت من 1997 إلى 2002 بين الرئيس جاك شيراك ورئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان.
السيناريو الثاني: حكومة ائتلاف
منذ خسارته الأغلبية البرلمانية في 2022، سعى ماكرون إلى تشكيل تحالفات في البرلمان على أساس تبادل الأصوات، أو فرض التشريعات بدون تصويت بدلاً من عقد تحالف ائتلافي مع حزب آخر.
وقد يحاول حزب التجمع الوطني أو اليسار القيام بالشيء نفسه في حال عدم الحصول على الأغلبية، لكن حكومة أقلية من اليمين المتطرف أو اليسار، قد تخسر في أي تصويت يجري في البرلمان على حجب الثقة عنها. ولأنه يدرك هذه المخاطر، أعلن رئيس حزب التجمع الوطني بارديلا رفضه أن يكون رئيساً للحكومة ما لم يحصل حزبه على أغلبية مطلقة.
على الجانب الآخر، يأمل معسكر ماكرون أنه في حال أفضت الانتخابات المبكرة إلى برلمان من دون أغلبية، أن يتمكن من تشكيل ائتلاف مع المعتدلين من اليسار واليمين. وفي سياق التحضير لهذا الاحتمال، لم يقدم حزب ماكرون مرشحين في 67 دائرة انتخابية يتنافس فيها مرشحو يمين الوسط أو يسار الوسط.
لكن ماكرون قام بتقليص خياراته بشدة عندما وضع حزب "فرنسا الأبية" اليساري -القوة المهيمنة في تكتل الجبهة الشعبية الجديد- على قدم المساواة مع اليمين المتطرف فيما يسميه "التطرف" في البلاد. كما يتهم ماكرون حزب "فرنسا الأبية" بمعاداة السامية، وهي الاتهامات التي يرفضها الحزب بشدة ويؤكد في الوقت نفسه على انتقاد الحرب على غزة وما يرتكبه جيش الاحتلال من جرائم بحق الفلسطينيين.
اللافت هنا أن هذا الموقف تحديداً كان شاخصاً أمام ماكرون منذ فوزه بفترة رئاسية ثانية، وكان أنصاره يرون أنه يتعين عليه أن يخطو بحذر إذا لم يكن يريد أن ينفجر الوضع مرة أخرى. فقد كانت ولايته الأولى مليئة بأخطاء في العلاقات العامة جعلته يبدو متغطرساً أو متعجرفاً. ولا يحبه العديد من الفرنسيين، وأخبره رجل في وجهه في أثناء الحملة الانتخابية بأنه "أسوأ رئيس للجمهورية الخامسة"، كما تعرض ماكرون لصفعة على وجهه من أحد المواطنين خلال أحد التجمعات الانتخابية.
النقطة الأخيرة في هذا السيناريو هي أن فرنسا كانت قد شهدت 22 حكومة ائتلافية خلال 12 عاماً فقط، وكان ذلك أثناء الجمهورية الرابعة بعد الحرب العالمية الثانية (1946-1958)، وهو ما أصبح خياراً غير عملي ترفضه السياسة الفرنسية.
السيناريو الثالث: "تجميد الموقف"
في حالة فشل أي من الأحزاب أو التحالفات في الحصول على أغلبية تسمح بتشكيل الحكومة، قد يلجأ ماكرون إلى تعيين حكومة تكنوقراط يمكن أن تحظى بدعم جميع الأحزاب.
خبير العلوم السياسية في مركز إميل دوركهايم في بوردو، كامي بيدوك، أشار لموقع فرانس 24 إلى ما حدث في إيطاليا كمثال في هذا الصدد؛ حيث شكّل رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق ماريو دراغي عام 2021 حكومة وحدة وطنية عندما كانت إيطاليا تشهد حالة اضطراب سياسي، واستمرت تلك الحكومة 18 شهراً.
ويرى بيدوك أن ماكرون قد يقرر أيضاً ترك الحكومة الحالية برئاسة غابريال أتال، المنتمي لحزب الرئيس، بصفة حكومة تصريف أعمال لمدة عام، ويمكن للرئيس بعد ذلك الدعوة لإجراء انتخابات تشريعية جديدة. وسيكون لهذا القرار فائدة ضمان الاستمرارية خلال الألعاب الأولمبية (التي تستضيفها باريس في الفترة من 26 يوليو/تموز وحتى 11 أغسطس/آب)، وستكون أنظار العالم منصبة على فرنسا.
لكن لا توجد مؤشرات على أن اليمين المتطرف أو حتى اليسار قد يدعم مثل هذه الخطوة، التي من شأنها أن تسمح لماكرون بربح الوقت لإدخال تغييرات على طريقته في الحكم.
إذ حذر الحلفاء السياسيون، بمجرد فوزه بفترة رئاسية ثانية، من أن ماكرون يحتاج إلى استشارة المشرعين والنقابات والمجتمع المدني بصورة أكبر، والتخلص من أسلوب الحكم من أعلى إلى أسفل، الذي كان مميزاً لولايته الأولى، والتي وصفها بنفسه بأنها "كوكب المشتري". وقتها قال النائب باتريك فينيال لرويترز: "تلقى إيمانويل ماكرون الرسالة، ومفادها أنه لا يمكنه اتخاذ قرار بشأن كل شيء من الأعلى، فهو ليس رئيس شركة. إنه يحتاج إلى قبول فكرة التفاوض والتشاور".
لكن ماكرون لم يغير من سياسته وطريقة إدارته للأمور، بل يرى كثيرون أنه اتبع سياسة حافة الهاوية عندما حل البرلمان ودعا إلى هذه الانتخابات المبكرة، استجابة للتحدي من جانب معسكر اليمين المتطرف في أعقاب الانتخابات الأوروبية.
فعندما دعا غوردان بارديلا ماكرون إلى حل البرلمان الوطني الفرنسي، قبل أسبوع، بدا الأمر وكأنه تحدٍ سياسي من النوع الثقيل. قال بارديلا لأنصاره: "لا يمكن لرئيس الجمهورية (ماكرون) أن يظل أصم ولا يستمع للرسالة التي بعث بها الفرنسيون هذا المساء"، في إشارة إلى نتائج الانتخابات الأوروبية.
لم يكذب ماكرون خبراً وقبل التحدي معلناً عن حل الجمعية الوطنية (البرلمان) والدعوة لانتخابات عامة مبكرة. وبهذا الإعلان أقام ماكرون مواجهة مباشرة بين معسكره المؤيد لأوروبا والوسطية ولأوكرانيا، وبين خطاب اليمين المتطرف المناهض للهجرة والشعبوي والمتشدد بشأن القانون والنظام. .
"اليمين المتطرف هو إفقار الفرنسيين والحط من شأن بلدنا"، بحسب ماكرون في خطابه للفرنسيين: "لذا، في نهاية هذا اليوم، لا أستطيع التصرف كما لو أنه لم يحدث شيء".
كانت المرة الأخيرة التي قام فيها رئيس فرنسي بحل مجلس النواب (الجمعية الوطنية) في عام 1997، ووقتها خسر الرئيس جاك شيراك أغلبيته البرلمانية، ووصل اليسار إلى السلطة.
السيناريو الرابع: استقالة ماكرون
سيكون هذا بالطبع السيناريو الأكثر دراماتيكية، وربما يلجأ إليه ماكرون إذا واجه احتمال إزاحته من اليمين المتطرف أو اليسار. ففي الوقت الحالي يشير المعسكران إلى أنه بدلاً من العمل مع الرئيس على إخراج فرنسا من الشلل السياسي، فإنهما سيضغطان عليه للتنحي، بحسب تقرير فرانس 24.
من جانبها، حذرت لوبان، التي من المتوقع أن تسعى لخلافة ماكرون في الانتخابات الرئاسية العام 2027، من أنه "لن يكون أمامه خيار سوى الاستقالة" في حال حدوث "أزمة سياسية." لكن ماكرون تعهد بالبقاء في منصبه حتى نهاية ولايته الثانية في 2027 وذلك مهما كانت نتيجة الانتخابات.
انتخابات فرنسا 2024.. حقائق وأرقام
تُجرى الانتخابات البرلمانية في فرنسا عادة كل خمس سنوات؛ وكان من المقرر إجراء الانتخابات التالية في عام 2027، أي بعد شهر أو نحو ذلك من الانتخابات الرئاسية المقبلة، والتي لن يتمكن ماكرون من الترشح فيها، بعد أن قضى فترتين رئاسيتين بالفعل.
يتم انتخاب النواب (أعضاء البرلمان) البالغ عددهم 577 في الجمعية العامة بالاقتراع المباشر باستخدام نظام الأغلبية البسيطة من جولتين. ولكي يفوز المرشح في الجولة الأولى، يجب أن يحصل على أكثر من 50% من الأصوات المدلى بها ودعم ما لا يقل عن 25% من الناخبين المسجلين (وبالتالي فإن نسبة الإقبال مهمة).
إذا لم يحقق أي مرشح ذلك، فإن الحاصلين على أعلى الدرجات بالإضافة إلى أي مرشح آخر حصل على 12.5٪ على الأقل من إجمالي الناخبين المسجلين، يتقدمون إلى جولة ثانية من التصويت بعد سبعة أيام، وفي تلك الجولة يتم انتخاب المرشح الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات.
وعادة ما يتم انتخاب حفنة من النواب في الجولة الأولى. أما الغالبية العظمى من منافسات الجولة الثانية فتكون عبارة عن سباقات بين مرشحين، ولكن اعتماداً على نسبة الإقبال، يمكن أن يشمل بعضها ثلاثة أو حتى أربعة مرشحين، مما يترك مجالاً لاتفاقيات تكتيكية بين الأحزاب ينتج عنها انسحاب البعض، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
تم تصميم هذا النظام لجعل انتخاب المرشحين من الأحزاب المتطرفة في الطيف السياسي أكثر صعوبة. ومع ذلك، فإن الإدماج المتزايد لحزب التجمع الوطني على مدى العقدين الماضيين ضمن أن يضم البرلمان الحالي 88 نائباً من الحزب، لكن للحصول على أغلبية مطلقة، يحتاجون إلى 290 نائباً.