بعد كل إجراء اقتصادي صعب تتخذه الحكومة المصرية بحق المصريين يتوارد إلى أذهانهم صندوق النقد الدولي، الذي بررت مصادر حكومية مختلفة قراراتها في تصريحات لـ"عربي بوست" بأنها تأتي استجابة لتوصياته في مقابل الحصول على قروض جديدة تساهم في إنعاش الوضع الاقتصادي المتأزم ولو لفترة محدودة.
هذا الأمر يطرح تساؤلات عديدة حول الأثر الإيجابي أو السلبي الذي انعكس على الاقتصاد المصري جراء التوسع في عمليات الاستدانة منذ عام 2016، عندما أبرمت الحكومة المصرية اتفاقاً مع الصندوق قضى بالحصول على قرض قيمته 12 مليار دولار جرى تنفيذه على 6 شرائح استمرت لـ3 سنوات، وتبنت الدولة في ذلك الحين ما وصفته بأنه برنامج للإصلاح الاقتصادي طيلة مدة صرف شرائح القرض، وترتب عليه فقدان قيمة الجنيه نسبة 100% من قيمته وقفز من 8 جنيهات إلى 17 جنيهاً مقابل الدولار الواحد، ثم جاءت خطوة تعويم الجنيه ضمن شروط الصندوق.
المشكلة -كما يقول مسؤول سابق بوزارة المالية المصرية- أنه منذ ذلك الحين والحكومة المصرية تقوم بإجراءات عديدة حتى تحصل على مزيد من الدعم من المؤسسات الدولية، وتفتش على العملة الصعبة بأي طريقة حتى وإن كان الوصول إليها مقابله خفض الدعم عن الخدمات الرئيسية التي تقدمها للمواطنين في الصحة من خلال المستشفيات الحكومية والتعليم الحكومي المجاني، والطاقة والكهرباء والخبز والمياه وغيرها من الخدمات التي طالتها زيادة غير مسبوقة على مدار العقود الماضية.
أدوية كثيرة ستشهد ارتفاعاً في أسعارها
يعد الدواء من بين إحدى السلع المسعرة جبرياً في مصر كالمواد البترولية والخبز التي تعرضت أسعارها لهزات عنيفة جراء تخفيض قيمة الجنيه مرات عديدة، وشهدت الأيام الماضية موافقة هيئة الدواء المصرية على تحريك أسعار عدد من الأدوية التي قدمت شركات الدواء طلبات بشأنها بعد تحرير سعر الصرف مارس/آذار الماضي.
وكشف مصدر مطلع بهيئة الدواء المصرية لـ"عربي بوست" أن معدلات الزيادة في أسعار الدواء تتراوح ما بين 30% إلى 60% وأن هناك آلاف الأصناف سوف تشهد ارتفاعاً في أسعارها على مدار أربعة أشهر مقبلة بشكل تدريجي حتى لا يتم الانتقال بشكل مفاجئ من الأسعار القديمة إلى الجديدة في آنٍ واحد، لافتاً إلى أن تحريك أسعار الدواء أمر لا تحبذه شركات الأدوية بسبب تراجع القدرة الشرائية تحديداً لبعض أصناف الأدوية التي يمكن الاستغناء عنها واستغلال بعضها بالعلاجات الشعبية.
غير أن تراجع قيمة الجنيه إلى 47 جنيهاً في الوقت الحالي ووصوله في السوق السوداء قبل ثلاثة أشهر إلى 70 جنيهاً جعل هناك ضرورة للزيادة مع ارتفاع أسعار المواد الخام المستوردة من الخارج.
وأضاف المصدر أن نسب زيادات أسعار الأدوية يتم تحديدها وفقاً لتكلفتها النهائية، وهناك آليات يجري اتباعها في هذا الشأن، لكن الأزمة في أن الدراسات التي أجريت قبل قرار الزيادة أثبتت أن هناك زيادات في تكاليف الإنتاج تصل إلى 70% لأن هناك أدوية كان يتم تسعيرها على سعر الدولار حينما كان 22 جنيهاً بشكل رسمي، وأن القرار النهائي كان بزيادة لا تتجاوز 60%، وجرى التوافق على أن تكون عبر شرائح مختلفة وليس في توقيت واحد مراعاة للأوضاع الاجتماعية للمواطنين.
وفي أعقاب قرار التعويم الأول لسعر الصرف في عام 2016، قررت الحكومة بعد ستة أشهر تقريباً وتحديداً في منتصف يناير/كانون الثاني 2017 زيادة أسعار الأدوية بنسبة تتراوح بين 30 إلى 50% للأدوية المحلية، بينما تراوحت الزيادة في أسعار الأدوية المستوردة بين 40 و50% لتلافي آثار قرار تعويم الجنيه، وتم تطبيقها على 3010 أصناف دوائية دفعة واحدة، واعتبرت تلك الزيادة حينها لضمان استمرار الشركات في إنتاج الأدوية للسوق المحلية.
استثناء الإفراج عن شحنات الدواء مخالف للواقع
في حين يرى أحد الحقوقيين البارزين في مجال الدواء بأن قرارات تخفيض قيمة الجنيه بشكل متتالي خلال السنوات الماضية إلى جانب أزمات شح العملة التي لم تكن موجودة من قبل كادت أن تقضي على صناعة الدواء في مصر، لأنها تعتمد على استيراد المواد الخام من الخارج بنسبة تقترب من 100%، وفي أوقات عديدة لم يكن لدى الحكومة خطة واضحة للتعامل مع أزمات نقص العملة الأجنبية في الأسواق، وترتب على ذلك تكدس شحنات مستوردة من المواد الخام لفترات طويلة بالموانئ أدت إلى فساد بعضها وانتهاء مدة صلاحيتها وما قيل عن استثناء الإفراج عن الشحنات مخالف للواقع، بل كان يتم تمرير القليل جداً منها.
وشدد على أن مصر تعاني أزمات نقص في أدوية عديدة العامين الماضيين سببها المشكلات الاقتصادية التي ألقت بظلالها على توفيره، مؤكداً لـ"عربي بوست" أن الحكومة كان بإمكانها اتخاذ قرارات تساهم في توفير الدواء وتجنب زيادة أسعاره إذا ما قررت إحياء شركات قطاع الأعمال العاملة في مجال تصنيع الأدوية والتي كانت تستحوذ على جزء كبير من سوق الدواء، قبل أن يتم تصفية الجزء الأكبر من هذه الشركات ودمجها، استجابة لشروط صندوق النقد الذي يطالب بشكل مباشر بأن يكون القطاع الخاص مهيمناً على الأسواق المختلفة.
ولفت إلى أن التعامل مع مشكلات الدواء لا يمكن أن يكون من خلال رفع الأسعار بشكل متكرر؛ لأن ذلك يكون لديه تأثيرات سلبية على صحة المواطنين في وقت تخلت فيه الدولة عن تقديم العلاج المجاني للفقراء في المستشفيات الحكومية، بل إنها تذهب باتجاه إنهاء فكرة العلاج المجاني بشكل كامل مع تأجير المستشفيات للقطاع الخاص، ما يعني أن قطاع الصحة الذي كان يأتي على رأس القطاعات الخدمية التي تدعمها الدولة في طريقه للتراجع عنه دون أن تحدد البدائل التي تمكن الفقراء من تلقي العلاج اللازم لهم.
فتش عن الدولار
لكن مصدراً بإحدى شركات الأدوية يصف ما يحدث في سوق الدواء والتضييق عليه بهذا الشكل وتعطيل الشحنات بالشهور بـ"المتعمد" لإيجاد مبررات قوية لزيادة سعره.
ويشرح المصدر لـ"عربي بوست" أن الدولة تطرق كل الأبواب للتفتيش عن العملة الصعبة، وشاغلها الرئيسي هو كيفية الحصول على الدولار، ولأن الدواء سلعة مسعرة جبرياً في الداخل ويصدّر للخارج بنفس الأسعار فإن زيادة أسعاره في السوق المحلية سيسمح لها بالتصدير بالسعر الجديد، شارحاً أن الدول المستوردة تطلب شهادة حرية التداول بعملة بلد المنشأ المدون سعرها على علب الدواء، وبالتالي ستتضاعف عوائد الدولة من صادرات الصناعات الدوائية بأكثر من مليارين ونصف دولار سنوياً.
يتهم المصدر الحكومة بأنها انتهجت الحل الأسهل ورفعت سعر الدواء محلياً، مشيراً إلى أن الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، عقد اجتماعاً مع ممثلي قطاع الدواء في مصر (حكومي وقطاع خاص)، لبحث سبل زيادة صادرات القطاع بدلاً من مراجعة منظومة التسعير مع الدول المستوردة حسب القيمة الدولارية عند تسعير الأدوية في تاريخ تسجيلها.
مبدأ الاستدانة في جميع الهيئات الحكومية
ويأتي قرار زيادة أسعار الدواء والذي سبقته زيادة مماثلة في أسعار الخبز والوقود والكهرباء والخدمات الصحية، بعد أشهر قليلة من موافقة صندوق النقد الدولي بزيادة قيمة القرض الذي حصلت عليه في عام 2022 ولم يتم استكمال شرائحه إلى 8 مليارات دولار بدلاً من 3 مليارات دولار كما كان مقرراً في السابق.
وفي ذلك الحين قال رئيس مجلس الوزراء، مصطفى مدبولي، في المؤتمر الصحفي، إن التوقيع على الاتفاق مع صندوق النقد، سيسمح للحكومة المصرية بالتقدم للحصول على قرض إضافي بقيمة 1.2 مليار دولار من صندوق الاستدامة البيئية التابع لصندوق النقد الدولي، ليصبح المجموع الكلي نحو 9 مليارات دولار.
وقال مصدر مسؤول بوزارة الاقتصاد تحدث شريطة عدم الإفصاح عن اسمه، إن أزمات الاقتصاد المصري لا تتعلق فقط بصندوق النقد لكن الأزمة في السياسات الاقتصادية التي لا تتوافق مع المعطيات الاقتصادية الراهنة ولا مع إمكانيات الدولة المصرية في كافة مجالات الحياة، والأزمة تتمثل في أن الارتكان على القرض الأول في عام 2016 جعل مبدأ الاستدانة سارياً بشكل كبير لدى جميع الهيئات الحكومية التي توسعت في الحصول على القروض، وأضحى هناك لجوء مستمر إلى صندوق النقد وغيره من المؤسسات الدولية حتى أضحت هذه الأموال تشكل جزءاً رئيسياً من موازنة الدولة السنوية.
وأضاف المصدر لـ"عربي بوست" أن التوسع والاستغراق في الاستدانة أضحى تصاحبه محاولات لسد ديون سابقة بأخرى جديدة، وهو ما يجعل الحكومات المتعاقبة بحاجة دائماً للمساعدات الخارجية دون أن يكون لديها القدرة على إقامة بنية تحتية صناعية وتجارية وزراعية إلى الدرجة التي جعلت من الديون وفوائدها تستحوذ على ما يقرب من 80% من إجمالي الناتج المحلي، فيما تذهب 20% أخرى لكافة الأنشطة الحكومية الأخرى، وهذا العجز يجعل الحكومة مضطرة للاستدانة مرة أخرى لكن من جهات مختلفة، وبالتالي تضحى أكثر رضوخاً للشروط المفروضة عليها.
أفادت بيانات على الموقع الإلكتروني لوزارة التخطيط المصرية بأن الدين الخارجي للبلاد ارتفع 3.5 مليار دولار في الربع الأخير من عام 2023 إلى 168 مليار دولار، وارتفع الدين الخارجي بنحو 4 أضعاف خلال السنوات العشر الماضية، بالتزامن مع إنفاق الدولة على مشروعات حكومية.
وكان البنك المركزي المصري ذكر -في وقت سابق من العام- أن إجمالي الديون الخارجية بلغ 164.5 مليار دولار نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، أو ما يعادل 42.4% من الناتج المحلي الإجمالي، وتمثل الديون الطويلة الأجل لمصر نحو 81.6% من الإجمالي.
مصر والتحول السريع نحو الأنظمة الرأسمالية المباشرة
ولفت خبير اقتصادي إلى أن خطاب النوايا الذي يحدد علاقة الدول بصندوق النقد الدولي تم مناقشته في عصور سابقة، لكنه واجه اعتراضات عديدة من جانب الرؤساء المصريين وكذلك في أروقة الحكومات المختلفة والبرلمان، إذ إنه يحتم على الدول المستدينة أن يتم التفتيش عليها للتأكد من التزامها بخطط الإصلاح الاقتصادي التي يضعها الصندوق، وكانت الحكومات في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي تعتبر أن الاستدانة عبء يصعب تحمله من جانب المواطنين في مصر.
وذكر أن صندوق النقد الدولي بمثابة أداة لتنفيذ النظام الرأسمالي تحت مسميات العلاج الاقتصادي للمشكلات المالية، ويترتب على ذلك في كثير من الأحيان فرض أنظمة سياسية واقتصادية ليس بالضرورة تتماشى مع الدول التي تلجأ للاقتراض منها.
وتابع: "بعض الأنظمة غير ممهدة للتحول السريع نحو الأنظمة الرأسمالية المباشرة، وهو ما حدث في مصر لأن اشتراطات الصندوق تضيق على الحكومة الاتجاه نحو تقديم الخدمات المجانية أو تقديم الدعم بوجه عام، وتعمل على إلغاء الخدمات الحكومية، في حين أن ذلك لم يعتد عليه المواطنين من قبل، كما أن حظر التعيين في الأماكن الحكومية تسبب بمشكلات عديدة ظهرت جلياً في المدارس الحكومية التي تعاني عجزاً هائلاً في المعلمين، وليس هناك قطاع خاص لديه قواعد وقوانين قوية وحاكمة يمكنه أن يجذب ملايين الخريجين بما يضمن حقوقهم المادية والأدبية".
لا تراهنوا على صبر المواطنين
وبعد أيام من تحريك أسعار الخبز المدعم وكذلك زيادة أسعار الأدوية، يترقب المصريون الإعلان عن زيادة أسعار الكهرباء، ومن المتوقع أن تبدأ الشركة القابضة لكهرباء مصر، تطبيق زيادات جديدة في شرائح الكهرباء في فاتورة شهر يوليو/تموز المقبل التي يتم تحصيلها في أغسطس/آب بعد اعتماد تطبيق الأسعار الجديدة.
ونقلت وسائل إعلام محلية عن مصادر، أن الزيادات الجديدة المرتقب الإعلان عنها ستتراوح في الشرائح الثلاث الأولى بنسبة لن تقل عن 30%، بينما الشرائح الأخرى لن تزيد على 40% ولن تقل عن 30%، وفي مطلع العام الحالي، رفعت الحكومة المصرية تعريفة الاستهلاك لشرائح الكهرباء بنسبة تتراوح بين 16 و26%، لتبدأ من 58 قرشاً (0.014 دولار) للكيلو وات للشريحة الأولى بحجم استهلاك بحد أقصى 50 كيلووات، حتى 165 قرشاً (0.0035 دولار) للشريحة الأخيرة بحجم استهلاك أكثر من 1000 كيلووات شهرياً.
وبرر مصدر بوزارة الكهرباء الزيادات القادمة بأن الدولة تتحمل فاتورة دعم كبيرة في قطاع الكهرباء، الفاتورة الشهرية لوزارة الكهرباء المفترض دفعها لوزارة البترول، من أجل الحصول على المواد البترولية، بأقل من السعر الحقيقي، هي 15 مليار جنيه، تدفع الكهرباء منها 4 مليارات فقط، موضحاً أنه سيتم تحريك الدعم تدريجياً على مدار 4 سنوات، ليتحمل المواطنون جزءاً من تكلفة تقديم الخدمة، وتستطيع وزارة الكهرباء حتى سداد التزاماتها ومستحقات وزارة البترول، على حد قوله.
في المقابل حذر مصدر أمني تمت إحالته للمعاش المبكر من الزيادات المستمرة في أسعار السلع والبنزين والمحروقات، مشيراً إلى أن بعضها نسبته 50% و300% مرة واحدة، والحكومة المصرية لا تعي خطورة حجم تأثير تدخلاتها السريعة والقوية لخفض الدعم الذي تقدمه، وهناك فجوة كبيرة بينها وبين المواطنين قاد لإقالتها مؤخراً، لكن ذلك مسكنات وقتية لتخفيض حدة السخط الشعبي.
يستكمل المصدر: البرلمان دوره حماية المواطنين والدفاع عن مصالحهم، ومن المفترض أن يكون حائط صد لقرارات الحكومة، لكنه لم يلعب هذا الدور، بل كان داعماً لها في كافة توجهاتها دون معارضة تذكر.
وشدد على أن افتقاد النظرة السياسية الموضوعية التي ترصد مشاكل الجماهير لحل المشكلات دون تحميل المواطنين مزيداً من الأعباء تقود لانفجار الأوضاع وخروج الأمر عن السيطرة، لأنه كما رصدنا في تقارير كثيرة تم ارسالها للمسؤولين فإن فئات عديدة أضحت غير قادرة على تحمل أية قرارات باستثناء حفنة قليلة من الأغنياء، ولا يجب المراهنة على صبر المصريين أو تخويفهم من المجهول.