لماذا غير جو بايدن موقفه من السماح لأوكرانيا بضرب العمق الروسي بأسلحة أمريكية رغم تحذير فلاديمير بوتين من "العواقب الخطيرة"؟
كانت مسألة "سماح" الغرب لكييف باستهداف الأراضي الروسية بأسلحة غربية قد عادت إلى سطح الأحداث خلال الأسابيع القليلة الماضية، بعد أن وافقت دول غربية عديدة أخيراً على مطالبات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لكن ظل المورد الأكبر للأسلحة (الولايات المتحدة) متمسكاً بموقفه، ثم تغير كل شيء فجأة.
بايدن غير موقفه بشأن "ضرب" روسيا
أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الجمعة 31 مايو/أيار، أن الرئيس جو بايدن سمح لأوكرانيا باستخدام الأسلحة التي تزودها بها الولايات المتحدة لضرب أهداف عسكرية داخل روسيا، وذلك بعد إلحاح أوكراني على مدى الأسابيع الماضية.
برر بلينكن خطوة واشنطن، التي تمثل تغييراً كبيراً في سياسة بايدن الذي رفض من قبل السماح لأوكرانيا باستخدام أسلحة أمريكية في شن هجمات داخل روسيا، بأنها جاءت نتيجة لما وصفها بأنها "استراتيجية الولايات المتحدة في التكيف مع المتغيرات في ساحة المعركة".
وقال بلينكن إن الولايات المتحدة تستجيب في الوقت الراهن لما تراه يحدث في منطقة خاركيف وما حولها. "على مدى الأسابيع القليلة الماضية، طلبت منا أوكرانيا السماح لها باستخدام الأسلحة التي نزودها بها للتصدي لهذا العدوان، ويشمل ذلك مواجهة القوات الروسية التي تتجمع على الجانب الروسي من الحدود ثم تشن هجمات داخل أوكرانيا".
"وصل هذا الطلب مباشرة إلى الرئيس، وكما سمعتهم فقد وافق على استخدام الأسلحة الأمريكية لهذا الغرض. وفي المستقبل، سنفعل ما قمنا به وهو تعديل (المواقف والإجراءات) بما يتناسب مع (المتغيرات)"، حسب ما نقلت رويترز عن بلينكن خلال مؤتمر صحفي لوزراء خارجية حلف الناتو في براغ.
"لا يوجد أي تغيير في سياستنا في هذه المرحلة؛ نحن لا نشجع ولا نمكن (أوكرانيا) من استخدام الأسلحة الأمريكية في الضرب داخل روسيا"، بحسب ما قاله المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي، للصحفيين يوم الثلاثاء 28 مايو/أيار.
ما الذي تغير على الأرض من الثلاثاء حتى الجمعة وتسبب في تغيير الاستراتيجية الأمريكية؟ الموقف في خاركيف، طبقاً لتبرير بلينكن.
موقف الدول الغربية من مناشدات أوكرانيا
كانت روسيا قد كثفت في الأسابيع الأخيرة من هجماتها على مدينة خاركيف في الشرق الأوكراني، وهي ثاني أكبر مدن أوكرانيا. وقالت موسكو إن هذا الاستهداف لخاركيف يأتي رداً على استهداف القوات الأوكرانية أكثر من مرة لمدينة بيلغورود الروسية المتاخمة للحدود الأوكرانية.
صعدت أوكرانيا من ضغوطها على الحلفاء الغربيين للسماح لها باستخدام الأسلحة الغربية في استهداف العمق الروسي. ولا يعني هذا أن كييف لم تستهدف العمق الروسي من قبل، إذ شنت هجمات عديدة من قبل باستخدام صواريخ ومسيرات لكنها ليست غربية الصنع.
"بالنسبة لنا، الحصول على تصريح لضرب روسيا بأسلحة غربية هو مسألة بقاء ودفاع عن أنفسنا. إننا نطالب برد الضربات والوصول إلى أهداف عسكرية مشروعة داخل روسيا"، حسب ما نقلت مجلة بوليتيكو الأمريكية عن عضو البرلمان ورئيس البعثة الدائمة لأوكرانيا لدى الهيئة البرلمانية لحلف الناتو، يهور تشيرنييف.
"من المهم أن يتمتع حلفاؤنا بالتصميم الكافي للقيام بحماية استباقية ضد الإرهابيين الروس، كما يفعلون مع أي إرهابيين آخرين؛ تدميرهم قبل أن يبدأوا في حصد الأرواح"، هكذا قال زيلينسكي في بيان الأسبوع الماضي.
ومع ارتفاع وتيرة المناشدات الأوكرانية بصورة لافتة في أعقاب الهجمات الروسية بالقرب من خاركيف، بدأت دول غربية في الإعلان تباعاً عن موافقتها على الطلب الأوكراني. كانت البداية من بريطانيا، وتلتها السويد وفنلندا ودول البلطيق وهولندا وبولندا وجمهورية التشيك وكندا، وجميعها أعلنت أنها "لا مشكلة لديها في استخدام أوكرانيا أسلحتهم لضرب روسيا".
ألمانيا وفرنسا ترفعان "الحظر" أيضاً
كان يوم الثلاثاء 28 مايو/أيار يوماً حافلاً بالنسبة لهذا الملف. أعلنت فرنسا وألمانيا الموافقة على رفع الحظر المفروض على أوكرانيا بشأن استخدام الأسلحة التي يقدمونها لكييف في ضرب أهداف داخل روسيا.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال إن أوكرانيا بإمكانها "تحييد" أهداف داخل روسيا "يتم منها إطلاق الصواريخ، لكن لا يمكنها أن تضرب أهدافاً أخرى مدنية كانت أو عسكرية".
المستشار الألماني أولاف شولتس، في نفس المؤتمر الصحفي بجوار ماكرون، قال أيضاً إن أوكرانيا يمكنها أن "تستخدم الأسلحة التي نقدمها بشرط أن يكون هذا الاستخدام في إطار القانون الدولي".
لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يتأخر في الرد على هذه التطورات، فقال في اليوم نفسه إن الغرب أثار أحدث عملية روسية في منطقة خاركيف، بتجاهله تحذيرات روسيا بالسماح لأوكرانيا بمهاجمة منطقة بيلغورود الروسية المتاخمة.
كما ذكر بوتين أن الهجمات على الأراضي الروسية بأسلحة مقدمة من الغرب لأوكرانيا لا يمكن أن تتم إلا بمساعدة من متخصصين من دول غربية، مضيفاً أن هذا قد يؤدي إلى "عواقب وخيمة".
كيف قد ترد روسيا إذاً؟
الرئيس الأوكراني قال أيضاً إن كييف "تلقت رسالة من الجانب الأمريكي في الصباح الباكر "اليوم الجمعة" تكشف عن "خطوة إلى الأمام" في الدفاع عن سكان القرى القريبة من الحدود مع روسيا، ولم يفصح عن معلومات إضافية حول الاتصالات مع الولايات المتحدة. زيلينسكي ذكر أيضاً أنه لا يعرف القيود المحتملة المتعلقة باستخدام طائرات إف-16 المقاتلة المنتظرة منذ وقت طويل.
في السياق ذاته، رفض الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ تحذيرات بوتين من أن السماح لأوكرانيا باستخدام أسلحة غربية داخل روسيا قد يؤدي إلى تصعيد الصراع، قائلاً إن التحالف العسكري الغربي سمع مثل هذه التحذيرات مراراً من قبل وإن الدفاع عن النفس ليس تصعيداً: "هذا ليس جديداً. هذا ما يحدث كل مرة يقدم فيها الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي دعماً لأوكرانيا، والرئيس فلاديمير بوتين يهددنا فقط للتراجع عما نفعله".
لكن هناك في موسكو، قال دميتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي والرئيس الروسي السابق إن بلاده لم تكن تطلق تهديداً أجوف عندما تحدثت عن إمكانية استخدام أسلحة نووية تكتيكية ضد أوكرانيا، محذراً من أن الصراع بين روسيا والغرب قد يتصاعد إلى حرب شاملة.
ميدفيديف أشار إلى أن صراع موسكو مع الغرب يتفاقم حسب أسوأ السيناريوهات المتوقعة، وأنه "لا يمكن لأحد أن يستبعد في الوقت الراهن بلوغ الصراع آخر مراحله. تعتبر روسيا أن جميع الأسلحة بعيدة المدى التي تستخدمها أوكرانيا تخضع بالفعل لسيطرة مباشرة من قبل قوات الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي. كل هذه الأفعال كفيلة بأن تصبح ذريعة للحرب".
بايدن من رفض التصعيد إلى "ضرب" روسيا
القصة كلها مرتبطة منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط 2022 بسعي الطرفين ضمنياً -موسكو وواشنطن- إلى حصر الصراع في الأراضي الأوكرانية.
فمنذ اندلاع الحرب، التي تصفها روسيا بأنها "عملية عسكرية خاصة" بينما تصفها أوكرانيا والغرب بأنها "غزو عدواني غير مبرر"، كانت استراتيجية حلف الناتو، برئاسة أمريكا، واضحة وتتمثل في منع بوتين من تحقيق انتصار عسكري سريع وتحويل الصراع إلى استنزاف طويل المدى لقدرات روسيا العسكرية والاقتصادية.
هذه الاستراتيجية ليست دعاية روسية، بل هذا بالتحديد ما جاء في التقارير الأمريكية وعلى لسان كبار المسؤولين في إدارة بايدن، وأبرزهم وزير الدفاع لويد أوستن نفسه. فبعد أسابيع فقط من اندلاع الحرب، نشر موقع Responsible Statecraft الأمريكي تحليلاً عنوانه "استراتيجية بايدن المرعبة"، وملخص تلك الاستراتيجية هو استفزاز روسيا وجر بوتين إلى الهجوم على أوكرانيا لتصبح أشبه بالمستنقع الأفغاني الذي أدى إلى تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي.
وخلال زيارته إلى كييف أواخر أبريل/نيسان قبل عامين، قال وزير الدفاع الأمريكي للصحفيين إن "القدرات العسكرية الروسية يجب أن تتدهور، وإنّ أمريكا تريد إضعاف روسيا إلى الدرجة التي لا يمكنها إعادة بناء جيشها"، بحسب تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
وفي هذا السياق، اتخذت إدارة بايدن عدة قرارات في بداية الصراع كرفض فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا أو إرسال أنظمة دفاع صاروخي بعيدة المدى إلى كييف، خشية سقوط صاروخ أمريكي الصنع في العمق الروسي. كما عرضت بولندا، في الأيام الأولى للحرب، إرسال طائرات ميغ حربية من قواعد الناتو إلى أوكرانيا تعزيزاً لقدراتها في مواجهة روسيا، ووجد الاقتراح وقتها دعماً من الكونغرس للضغط على وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) من أجل الموافقة على هذه الخطوة، لكن إدارة بايدن رفضت.
الآن وصلت الأمور إلى السماح لأوكرانيا باستخدام أسلحة أمريكية في استهداف العمق الروسي، فإلى أين تتجه الأمور؟
هل يقع المحظور؟
قبل يوم واحد من ضوء بايدن الأخضر لزلينسكي باستخدام أسلحة أمريكية في الضرب داخل روسيا، نشرت شبكة CNN الأمريكية مقالاً عنوانه "هل حان الوقت لتحدي خدعة بوتين؟"، يشجع الإدارة الأمريكية على تجاهل التهديدات الروسية بالتصعيد النووي، على أساس أن ذلك تكرر أكثر من مرة ولم يحدث.
"يبدو أن هناك مبدأً ثابتاً يعتنقه مجلس الأمن القومي في إدارة بايدن؛ تجنب التصعيد. ويبدو هؤلاء الرافضين لأي تصعيد قلقين بعمق من أن أي زيادة في الدعم المقدم لأوكرانيا يمكن أن تؤدي إلى الحرب العالمية الثالثة"، بحسب المقال.
وعدد المقال الحالات التي طلبت فيها أوكرانيا أسلحة أمريكية معينة ورفضت إدارة بايدن في البداية خوفاً من "الحرب النووية"، ثم وافقت الإدارة ولم تندلع الحرب النووية. من صواريخ غافلين وستينغر إلى طائرات ميغ29 إلى صواريخ باتريوت ومقاتلات الإف-16 ومن قبلها دبابات أبرامز ومنصات صواريخ هيمارس وعربات برادلي المدرعة، والقائمة طويلة، وصولاً حتى إلى صواريخ أتاكمز بعيدة المدى.
ومن هذا المنطلق يرى أصحاب الرأي القائل بضرورة تقديم أي أسلحة من أي نوع لأوكرانيا والسماح لها بضرب العمق الروسي بأي طريقة كانت حتى تتعرض روسيا لهزيمة عسكرية، أن بوتين عندما يهدد بالحرب النووية فهو يفعل ذلك فقط "كخدعة" هدفها إثناء الغرب عن دعم أوكرانيا.
وبعد أكثر من عامين من هذا الصراع، يبدو أن هذه الاستراتيجية مقبولة لدى الطرفين: موسكو وواشنطن. بمعنى أن التهديدات الروسية بالتصعيد النووي تؤدي إلى تأخير موافقة بايدن على كل سلاح نوعي جديد من جهة وإلى وضع "محاذير أو قيود" على استخدامه من جهة أخرى.
لكن السؤال هنا: ماذا لو وقع المحظور في أي لحظة؟ بمعنى أن تتخلى أوكرانيا عن "بعض من هذه القيود"، فتضرب أهدافاً في العمق الروسي تؤدي إلى وقوع كارثة نووية؟ وقد حدث من قبل أن ضربت أوكرانيا منشأتين لأنظمة الرادار في عمق روسيا، ما تسبب في قلق بالغ لأن المنشأتين مرتبطتان بشبكة الإنذار النووي المبكر في روسيا، بحسب تقرير لمجلة بوليتيكو.
التقرير نفسه رصد سبباً آخر لمعارضة إدارة بايدن استخدام أوكرانيا أسلحة غربية في استهداف العمق الروسي، وهو بالتحديد استهداف أي منشآت للطاقة الروسية، خشية أن يتسبب ذلك في ارتفاع مفاجئ لأسعار الطاقة من نفط أو غاز، وحدث بالفعل أن "وبخت" واشنطن كييف على استهداف مماثل من قبل.
وبالتالي فإن تجاهل التحذيرات الروسية من التصعيد، قياساً على مواقف متعددة سابقة، ومواصلة رفع "المحاذير" عن استخدام الأسلحة الغربية في استهداف العمق الروسي يعد مخاطرة مرعبة.
وهذا بالتحديد ما عبر عنه ميدفيديف هذه المرة، بقوله إن الغرب سيرتكب "خطأً قاتلاً" إذا اعتقد أن روسيا ليست مستعدة لاستخدام أسلحة نووية تكتيكية ضد أوكرانيا، مشيراً أيضاً إلى إمكانية ضرب دول معادية، لم يذكر اسمها، بأسلحة نووية استراتيجية: "للأسف، هذا ليس تهويلاً ولا تحايلاً… والصراع العسكري الحالي مع الغرب يتفاقم بحسب أسوأ السيناريوهات المتوقعة. وهناك تصعيد مستمر فيما يتعلق بقوة أسلحة حلف شمال الأطلسي المستخدمة. وبالتالي لا يمكن لأحد استبعاد بلوغ الصراع آخر مراحله".