أحدث البرلمان المصري حالة من الغضب في أوساط القطاع الطبي بمصر بعد أن أقر "قانون تأجير المستشفيات"، أو قانون تنظيم منح التزام المرافق العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية، أو ما يعرف بـ"تأجير المستشفيات" إلى القطاع الخاص، وسط توقعات بأن يمهد القرار لإنهاء العلاج المجاني في حال سيطر المستثمرون على إدارة غالبية المستشفيات الحكومية، وفي ظل مخاوف عديدة من جانب الأطباء الذين يرون أنه سيتم الاستغناء عنهم والاستعانة بالأجانب في تلك المستشفيات.
وناشدت نقابة الأطباء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، استخدام صلاحياته الدستورية، بعدم التوقيع على القانون، بحسب النص الدستوري الذي يمنحه إمكانية رده مرة أخرى إلى البرلمان خلال ثلاثين يوماً من إبلاغه به، في خطوة لا تحدث كثيراً على مستوى القوانين المصرية التي يتم تمريرها بشكل مستمر، ما يبرهن على حجم الأزمة التي تسبب فيها البرلمان بإقرار القانون.
إهانة للأطباء
قال مصدر مطلع بنقابة الأطباء المصرية لـ "عربي بوست" إن القانون يؤثر على كل من محدودي الدخل والأطباء أيضاً، لأنه يترك الفرصة أمام المستثمرين لإعادة تسعير الخدمات الطبية التي تقدمها المستشفيات العامة، وفي الوقت ذاته فإن الأطباء سيعانون من فقدان الأمان الوظيفي ويهدد استقرار ما يقرب من 75% منهم، لأنه يعطي الحق للمستثمر الاستغناء عنهم، حتى وإن قامت وزارة الصحة بإعادة توزيعهم على مستشفيات أخرى بسبب العجز الحالي في أعداد الأطباء فإن ذلك بمثابة إهانة لهم.
وأوضح أن القانون يمنح إشارات بأن الحكومة قامت بتسليم الأطباء المصريين للمستثمرين دون أن توفر لهم الحماية الكاملة وبالتالي فإن معدلات هجرتهم إلى الخارج سوف تتضاعف خلال الأشهر المقبلة، وإذا كان هناك قدر قليل من الثقة في الجهات الحكومية فإنها أضحت الآن معدومة بعد هذا القانون وستكون الهجرة هي السبيل الوحيد في ظل مساعي التفكير في إجراءات إعادة من هاجروا إلى الخارج لسد العجز الصارخ في المستشفيات الحكومية.
وشدد على أن تطوير المستشفيات الحكومية من المفترض أنه دور الحكومة وليس مستثمري القطاع الخاص الذين بإمكانهم إنشاء مستشفيات خاصة بهم، وأن الحكومة تهدف إلى تخفيض قيمة إنفاقها على القطاع الصحي من خلال التخلص من المستشفيات الحكومية في حين أن المريض لديه الحق في أن يحصل على خدمة طبية جيدة حتى وإن قامت الحكومة بزيادة سعرها لكن ذلك لا يمنح لها الحق بأن تضع مستقبل العلاج المخصص للفقراء بيد القطاع الخاص.
وذكر أن عدد الأسرة في المستشفيات الحكومية انخفض خلال السنوات العشر الماضية بدلاً من الاتجاه نحو زيادتها في ظل الزيادة السكانية والضغط الهائل على المستشفيات الحكومية، وكان يمكن استحداث نظم طبية تتشارك فيها الحكومة مع القطاع الخاص شريطة أن يتم ترك المستشفيات العامة كما هي لكي يستفيد منها الفقراء.
التباس في الرؤية
ووافق البرلمان بأغلبية نوابه، مؤخراً على مشروع القانون الذي أقره مجلس الوزراء في فبراير/شباط 2024، والذي يتيح للحكومة إمكانية منح امتياز إدارة وتشغيل المستشفيات الحكومية المختلفة لمستثمرين مصريين أو أجانب، وهو القانون الذي أدخلت عليه لجنة الصحة بالمجلس تعديلات عدة، منذ أبريل/نيسان الماضي، قبل عرضه على الجلسة العامة لمجلس النواب.
وتضمَّن مشروع القانون ألا تقل مدة الالتزام عن 3 أعوام، ولا تزيد على 15 عاماً، مع عودة جميع المنشآت الصحية، بما فيها من تجهيزات وأجهزة طبية لازمة لتشغيلها إلى الدولة في نهاية مدة الالتزام، دون مقابل وبحالة جيدة، بينما استبعد المجلس كلاً من "مراكز ووحدات الرعاية الصحية الأساسية، و"صحة الأسرة"، و"عمليات الدم وتجميع البلازما" باعتبار أن لها بعداً قومياً، وفق تصريحات رئيس لجنة الصحة بالمجلس الدكتور أشرف حاتم.
وتضمَّن القانون إلزام المستثمر باستمرار تشغيل نسبة لا تقل عن 25%، حداً أدنى قابلاً للزيادة من العاملين بالمنشأة الصحية، وبشرط موافقتهم، مع مراعاة الحفاظ على الحقوق المالية والوظيفية لهم ولغيرهم من العاملين الذين سيتم نقلهم لجهات أخرى، وهو البند الذي اعتبرته نقابة الأطباء مهدداً لاستقرار 75% من الأطقم الطبية بتلك المستشفيات.
وقال مصدر حكومي مطلع لـ "عربي بوست" إن هناك التباساً في رؤية نقابة الأطباء للقانون الجديد؛ إذ إنه يلزم المؤجر بالاحتفاظ بنسبة 25% على الأقل من العمالة وليس الأطباء، وأن المعينين داخل المستشفيات الحكومية من جانب الحكومة مباشرة لا يمكن للمستأجر أن يمسهم دون التوصل مع الطبيب إلى تسوية يقبلها الأخير، كما أن الحديث عن تأجير المستشفيات سيؤدي إلى هجرة الأطباء غير دقيق؛ لأن الأطباء أنفسهم يبحثون عن المستشفيات الخاصة التي تمنحهم رواتب أعلى من نظيرتها الحكومة ويعد ذلك أحد أسباب توالي استقالاتهم من المستشفيات الحكومية.
وشدد المصدر على أن تأجير خدمات المستشفيات العامة موجود منذ عشرات السنين لكن الجديد هذه المرة هو الاتجاه نحو تأجير الخدمة الطبية أيضاً التي ظلت ملتزمة بها الحكومة طيلة العقود السابقة، مشيراً إلى أن شركات الأمن والنظافة وشركات تقديم الطعام جميعها مملوكة للقطاع الخاص، كما أن إدارة القطاع الخاص قد تشجع الأطباء على مزيد من الالتزام المهني حال جرى الاستجابة لمطالبهم المالية.
وفي عام 2022 بلغ عدد الأطباء المقيدين بسجلات النقابة العامة للأطباء 380 ألف طبيب، منهم 125 ألف طبيب يعملون في الحكومة، وفي عام 2023 أفادت بيانات النقابة بأن نحو 120 ألف طبيب مصري مسجل لديها يعملون بالخارج.
ولم يحدد القانون آلية محددة للتعاقد مع المستثمرين على إدارة المستشفيات الحكومية وترك لرئيس الوزراء ووزير الصحة تحديد طريقة التعاقد المناسبة، كما أنه لم ينص على ضمانات كافية لاستمرار تقديم الخدمة الصحية للمواطنين، أو ضمانات تحفظ حقوق العاملين في المستشفيات والوحدات الصحية، بحسب ما تؤكده نقابة الأطباء.
دخل منخفض وكفاءة منقوصة واختبارات صورية
وقال مصدر بوزارة الصحة على صلة بتفاصيل قانون تأجير المستشفيات، إن الأزمة الحقيقية التي خلقها القانون الجديد تتعلق بمزاولة مهنة الطب في مصر، وهناك شروط محددة بينها أن يكون مصرياً أو خريج إحدى كليات الطب المصرية، أو قادماً من دولة تسمح للمصريين بالعمل في المجال الطبي، وتتمثل الأزمة كون الدولة المصرية ليس لديها اختبارات جدية أو حقيقية لاختبار القادم من الخارج للعمل في المستشفيات الحكومية أو الخاصة ويعد الاختبار صورياً لا يتجاوز عدد أسئلته 100 سؤال ولا علاقة له باختبارات التراخيص في دول الخليج أو الدول الأوروبية، وهو ما يفتح الباب لقبول أطباء يأتون من دول خارجية لكنهم ذات دخل منخفض وكفاءة منخفضة أيضاً.
وأشار إلى أن قانون زيارة الأطباء الذي يسمح للأطباء الأجانب بالتواجد في أحد المستشفيات الحكومية شرط الحصول على موافقة من نقابة الأطباء ولمدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر للقيام بمهمة التدريب فقط لا يتم الالتزام به، وهناك العديد من المستشفيات بينها مستشفيات تابعة لجهات حكومية تستقدم هؤلاء الأطباء دون الالتزام بالقانون وفي حالة السماح بدخول المستثمرين كشركاء في المستشفيات الحكومية، فإنه سيتم التوسع في استقدام هؤلاء على حساب الأطباء المصريين.
والمشكلة الأكبر من وجهة نظر المصدر ذاته، تتمثل في الطلاب العرب الذين يدرسون في جامعات مصرية خاصة وحكومية ويلتحقون بها بمجاميع منخفضة مقارنة بالطلاب المصريين شريطة دفعها بالدولار، ونسب هؤلاء تتزايد بالجامعات مع هجرة الطلاب اليمنيين والسودانيين والليبيين والسوريين وغيرهم إلى القاهرة خلال السنوات الماضية، وهؤلاء سيوظفهم المستثمرون للضغط على الأطباء المصريين من أجل خفض رواتبهم وليس زيادتها؛ لأن المتوقع أن هؤلاء سيقبلون بالعمل بأجر منخفض لبحثهم عن مسارات آمنة تضمن لهم تواجداً في سوق العمل المصري بعد أن تركوا بلادهم.
الحكومة ليس في نيتها إلغاء التكليف للأطباء
يلفت المصدر إلى أن أطباء بنغلاديش وباكستان والهند سيقدمون على العمل بالمستشفيات الحكومية المصرية إذا كانوا يعملون في بلدان تقبل الأطباء المصريين، وهؤلاء فشلوا في تجاوز اختبارات ممارسة المهنة التي تكون صعبة في دول الخليج أو الدول الأوروبية، ولن يجدوا صعوبة للعمل بالمستشفيات المصرية، مشيراً إلى أن هذا الهاجس ما يؤرق نقابة الأطباء.
وأبدت نقابة الأطباء تخوفها من جلب المستثمر الأطباء من خريجي جامعات غير معترف بها من المجلس الأعلى للجامعات والتي قررت نقابة الأطباء في جمعيتها العمومية عدم قيدهم بسجلاتها، مشيرة إلى أن القانون الجديد أجاز لوزير الصحة أن يمنح ترخيص مزاولة مهنة الطب للأطباء الأجانب للعمل فقط داخل المنشأة التي يستأجرها المستثمر، متخطياً بذلك الإجراءات المعمول بها في منح ترخيص مزاولة مهنة الطب للأجانب والمنصوص عليها في القوانين السارية المتعلقة منها قانون نقابة الأطباء وقانون مزاولة مهنة الطب وتعديلاته الأخيرة.
لكن في المقابل، فإن مصدراً حكومياً أخر أكد لـ"عربي بوست" أن الأطباء المصريين الذين يتم تكليفهم بالمستشفيات الحكومية سيكونون أكثر قدرة على التواجد، وأن الحكومة ليس في نيتها إلغاء التكليف للأطباء، وأن المستثمرين بالأساس سيكونون بحاجة للأطباء المصريين المتمرسين أكثر من غيرهم لإنجاح المستشفيات لكنهم في المقابل سيلجأون إلى تقليص العمالة الزائدة من السكرتارية أو العمال وغيرهم، بعيداً عن الأطباء وطواقم التمريض، مشيراً إلى أنه يوجد الآن مستشفيات بأجر مثل مستشفى عين شمس التخصصي أو القصر العيني الفرنساوي وغيرهم، وهذه المستشفيات بها تضخم في أعداد العاملين.
وشدد على أن الحديث عن حرمان الفقراء من العلاج المجاني أمر في غير محله؛ لأنه تقلص بصورة كبيرة إلا في حالات الطوارئ، وأن 60% من المصريين مسجلون على نظام التأمين الصحي الذي يتكفل بعلاجهم إلى جانب 5% على نظام التأمين الصحي الشامل الذي تم تطبيقه على خمس محافظات فقط ولديهم أعداد قليلة من السكان، وأن العلاج على نفقة الدولة الذي يعد ملجأ لغير القادرين ممن يمثلون نسبة 35% من باقي الشعب ما زال باقياً ولن يتم إلغاؤه بموجب القانون الجديد.
لا إقدام على تأجير المستشفيات
لم ينف المصدر ذاته إمكانية زيادة الخدمات العلاجية المقدمة للمواطنين في المستشفيات الحكومية التي سيتم تأجيرها، مضيفاً أن تكلفة أجور الموظفين والأطباء والبنية التحتية والمستهلكات المفروضة سوف تدفع لزيادة أسعار الخدمة المقدمة، موضحاً أن الإقبال على تأجير المستشفيات سيكون للأماكن التي يقبل عليها المواطنون ممن لديهم بطاقات التأمين الصحي الذي يتكفل بنسبة العلاج ومدى وجود كثافة سكانية في المناطق التي تقام فيها تلك المستشفيات ومدى وجود مصانع أو شركات لديها تأمين صحي خاص بها يمكن أن يساهموا في زيادة دخل تلك المستشفيات.
وفي الوقت ذاته، أبدى تخوفه من عدم وجود إقدام على تأجير المستشفيات، مشيراً إلى أن القانون الأخير يهدف إلى جذب المستثمرين الذين سيكون لديهم خيارات أفضل تتمثل في استكمال الاستثمار في مستشفياتهم الخاصة أو بناء أخرى خاصة بهم دون اللجوء إلى تأجير مؤقت، وأن الحكومة سيكون عليها تقديم مزيد من التسهيلات التي تتعلق بالسماح لهم بالحصول على بعض الخدمات العامة الحكومية بأسعار مدعمة بما يساعدهم على تحقيق الأرباح المأمولة خلال فترة الإيجار.
وسبق الموافقة على القانون من جانب البرلمان، إعلان وزير الصحة، في الأول من مايو/أيار الجاري، إتمام وزارته الشراكة مع القطاع الخاص لإدارة وتشغيل عدد من المنشآت الصحية القائمة، حددها الوزير في مستشفيات (مبرة المعادي، وهليوبوليس، والعجوزة، والشيخ زايد، ومستشفى أورام دار السلام (هرمل)، دون توضيح تفاصيل عن ماهية الشراكة، أو هوية المستثمرين، وحصة الحكومة وغيرها.