يسعى بنيامين نتنياهو إلى توظيف الاستقطاب بين الجمهوريين والديموقراطيين لصالحه، فيزيد من هوة الخلاف مع جو بايدن، فكيف أدى ذلك إلى خسارة إسرائيل إسرائيل الإجماع الأمريكي على دعمها؟
إذ أن التوتر بين بنيامين نتنياهو وجو بايدن ليس إلا قمة جبل جليد من التحول في علاقة إسرائيل مع الديمقراطيين في أمريكا، فماذا يعني ذلك لإسرائيل خلال وبعد الحرب على غزة؟
التقرير يلقي نظرة أكثر عمقاً على ما أظهرته الحرب الإسرائيلية على غزة من "خلافات عميقة" بين أكبر حزبين في واشنطن بشأن سياسات تل أبيب من جهة، وعلى دور رئيس الوزراء الإسرائيلي في الضغط على الحزب الديمقراطي لصالح الجمهوريين من جهة أخرى، وتأثير ذلك على مستقبل العلاقة بين تل أبيب وواشنطن.
نتنياهو والعلاقة مع باراك أوباما
عندما استضاف الرئيس الأمريكي الأسبق بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض عام 2014، ظل المضيف يستمع إلى "محاضرات مطولة" من المضيف بشأن مستقبل قطاع غزة ودولة فلسطينية وصفقة نووية مع إيران، بلهجة اعتبرها أوباما "متعالية صادرة عن شخص غير مستعد لأن يسمع".
وبعد الاجتماع، رد أوباما على سؤال من أحد مستشاريه: كيف سار الاجتماع؟ بالقول: "لقد تبول على رجلي"، يقصد نتنياهو، حسبما نقلت واشنطن بوست عن شخصين على دراية بالواقعة تحدثا بشرط عدم ذكر هويتهما بسبب حساسية الموضوع.
هذه اللحظة "الرمزية" في طبيعة العلاقة بين نتنياهو والحزب الديمقراطي الأمريكي ظهرت الآن للعلن بشكل مرير وتتخذ صورة نقاشات ساخنة تغلف المشهد السياسي الأمريكي في موسم انتخابي مشتعل. إذ تجسد تحولاً جذرياً في طبيعة علاقة رئيس وزراء إسرائيل الأطول بقاء في المنصب مع أروقة السياسة الأمريكية. وبحسب تقرير الصحيفة، فإن رئيس الحكومة الإسرائيلية اليميني تخلى بصورة حادة عن العلاقة الاستراتيجية مع الحليف الأكبر، وهي سياسة كانت تتخطى الحدود الحزبية، ليلقي بنفسه تمام في المعسكر الجمهوري ويظهر احتقاراً تجاه الديمقراطيين.
هذه الاستراتيجية التي انتهجها نتنياهو على مدى 16 عاماً ساهمت في تحطيم الإجماع الأمريكي على الوقوف خلف إسرائيل ودعمها بشكل مطلق، حسبما تقول واشنطن بوست.
تأثير الحرب على غزة
سرعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من وتيرة هذا التحول الكبير، حيث يتفتت الإجماع الأمريكي حول دعم إسرائيل على الخطوط الحزبية من جهة، وعلى الفئات العمرية من جهة أخرى. وتمثل هذا الانقسام في الاحتجاجات الغاضبة (وبصفة خاصة في الحركة الطلابية في الجامعات الأمريكية) وفي النقاشات الساخنة بين الديمقراطيين، وهو ما يمثل "تحولاً جوهرياً في السياسات الأمريكية".
"لا أعتقد أن هناك أي طريقة أخرى للتعبير عن الموقف: نتنياهو كارثة مطلقة بالنسبة لدعم إسرائيل حول العالم"، حسبما يقول السيناتور كريس ميرفي (وهو ديمقراطي)، موضحاً: "هنا في الولايات المتحدة اتخذ نتنياهو قراراً متهوراً بأن يدمج نفسه مع الحزب الجمهوري واتخذ مواقف واضحة جداً في السياسة الأمريكية، وكان لهذا الموقف تداعيات خطيرة للغاية".
لكن نتنياهو ليس مسؤولاً وحده عن هذا التحول. فقد اتجهت إسرائيل بشكل ثابت خلال العقدين الأخيرين تجاه اليمين المتطرف، بينما اتجه الحزب الديمقراطي أكثر جهة اليسار. في الوقت نفسه، تآكلت ذكريات المحرقة التي لطالما استغلت لتغذية التعاطف الشعبي الأمريكي مع إسرائيل، بحسب الصحيفة.
هذه العوامل معاً لا تنفي حقيقة واضحة وضوح الشمس، وهي أن نتنياهو هو من قاد استراتيجية الاصطفاف مع اليمين الأمريكي، بحسب مساعدين سابقين له تحدثوا لواشنطن بوست، وهو قرار تسبب في تغذية الصدام مع الرئيس بايدن، رغم أن الأخير يجسد التعاطف الديمقراطي التقليدي مع إسرائيل.
ما هي مخاطر ذلك على إسرائيل؟
من الصعوبة بمكان المبالغة في تقدير حجم المخاطر بالنسبة لإسرائيل جراء ما فعله نتنياهو، فالجميع في تل أبيب وواشنطن متفقون على أمر واحد؛ الدعم الأمريكي الدبلوماسي والعسكري أمر جوهري بالنسبة لإسرائيل المحاطة بجيران أقوياء والتي تواجه قضايا وعزلة دولية غير مسبوقة. الخلاصة هنا هي أن الولايات المتحدة تمثل شريان الحياة الرئيسي لإسرائيل.
في هذا الإطار، قال السيناتور ميرفي، وهو عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، إنه حذر نتنياهو عدة مرات على مدى السنوات العشر الأخيرة من مخاطر الاصطفاف بهذا الشكل الفج مع الجمهوريين، لكن رئيس الوزراء "لم يرغب أبداً في الاستماع للنصيحة".
في عام 2015، ألقى نتنياهو خطاباً أمام الكونغرس، الذي كانت الأغلبية فيه للجمهوريين، دون أن يخطر الرئيس الأسبق أوباما. جاء خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها بمثابة انتقاد حاد وعنيف للاتفاق النووي مع إيران، وهو ما اعتبره كثير من الديمقراطيين "تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية لواشنطن"، بينما جاء ذلك على هوى الجمهوريين بطبيعة الحال.
في ذلك الوقت، سافر نتنياهو إلى واشنطن دون علم البيت الأبيض لدرجة أن بعض مساعدي أوباما سمعوا بأمر هذا الخطاب للمرة الأولى عبر تقرير صحفي، حسبما نقلت واشنطن بوست عن مصادر لم تسمّها.
نتنياهو لم يتوقف عند هذا الحد، بل أعلن مباشرة دعمه لمرشحي الحزب الجمهوري للرئاسة (كان وقتها دونالد ترامب وينافسه ميت رومني)، وهو أيضاً ما اعتبره الديمقراطيون تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية.
ماذا عن نتنياهو وبايدن؟
ما أشبه اليوم بالبارحة، فها هو نتنياهو يستعد لتكرار ما فعله عام 2015، أي التوجه لواشنطن لإلقاء خطاب أمام الكونغرس بدعوة من رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسون، في ذروة الخلافات العلنية مع إدارة بايدن الديمقراطية.
فقد خرجت الخلافات بين حكومة إسرائيل اليمينية برئاسة نتنياهو وبين إدارة بايدن الديمقراطية للعلن على خلفية خطط جيش الاحتلال اجتياح رفح واستمرار ارتكاب المجازر بحق النازحين فيها، وتفاقم الأزمة الإنسانية بصورة صارخة. ومن المهم هنا استكمال الصورة من ناحية طبيعة الخلاف؛ إدارة بايدن تختلف مع نتنياهو في الأساليب وليس الأهداف، فكلاهما يمني النفس بالقضاء على المقاومة الفلسطينية بشكل نهائي، لكن إدارة بايدن ترى الفشل المتكرر للحليف الاستراتيجي وجيشه وتسعى جاهدة لإنقاذه، أما نتنياهو فلا يريد سوى استمرار الحرب مهما كانت التكلفة على المدنيين الفلسطينيين وعلى جيش الاحتلال ومستقبل دولته، إذ إن توقفها يعني نهايته سياسياً والزج به خلف القضبان على الأرجح.
في هذا السياق، يرفض نتنياهو مناشدات بايدن المتكررة لإدخال المساعدات وتجنيب المدنيين قدر المستطاع من ويلات العدوان المستمر منذ نحو 8 أشهر. واتخذ هذا الرفض من جانب نتنياهو أحياناً "لهجة حادة للغاية"، لدرجة أن وزيراً في حكوومة نتنياهو غرَّد على منصة إكس: "بايدن يحب حماس"، حسب تقرير واشنطن بوست.
الجمهوريون متحمسون للغاية لأن يأتي نتنياهو إلى واشنطن ويلقي خطاباً أمام جلسة مشتركة لمجلسي النواب والشيوخ، فهم واثقون من أن نتنياهو سيفتح النار على بايدن والديمقراطيين ويتهمهم بالتخلي عن إسرائيل في وقت المحنة، بينما سيوجه التحايا والدعم للجمهوريين وموقفهم الصلب من دعم تل أبيب.
على الجانب الآخر، يرفض الديمقراطيون مزاعم نتنياهو، بل حضوره إلى واشنطن وإلقاء ذلك الخطاب. وتلقى تشاك شومر، زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، تحذيراً من تل أبيب بشأن استقبال نتنياهو. صحيفة هآرتس نشرت تحليلاً عنوانه "السيناتور تشاك شومر: لا تدعُ نتنياهو. هو ليس حليفكم وليس صديقكم ولم يكن يوماً كذلك".
كاتب تحليل هآرتس، آلون بنحاس، وصف شومر بأنه "داعم قوي لإسرائيل" ونصحه بألا يدعو نتنياهو إلى الكونغرس لأن رئيس الوزراء هدفه الوحيد الآن هو أن يضر بفرص جو بايدن في الانتخابات المقبلة في نوفمبر/تشرين الثاني لصالح منافسه الجمهوري المحتمل دونالد ترامب.
بايدن ودعم إسرائيل
عندما كان الرئيس الأسبق أوباما يشكو مر الشكوى من نتنياهو كان نائبه جو بايدن، بحسب تقرير واشنطن بوست، يلعب دور "حمامة السلام بينهما" طوال الوقت. وعندما كانت إدارة أوباما تناقش ما إذا كانوا يجب أن يتركوا مجلس الأمن الدولي يمرر قراراً أممياً يدين الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة (عام 2016 – خلال الأشهر الأخيرة من فترة رئاسة أوباما الثانية)، أم إذا ما كان يجب أن يستخدموا الفيتو لمنع صدور القرار.
كان موقف بايدن مسانداً تماماً للفيتو وحذر أوباما من أن تمرير القرار سيكون بمثابة "نقطة سوداء" في إرثه الرئاسي. لكن أوباما لم يستمع لنصيحة بايدن وامتنعت واشنطن عن التصويت ليتم إصدار القرار.
اليوم وفي العام الأخير من فترة رئاسته الأولى، وجد بايدن نفسه في مواجهة الموقف ذاته؛ ليس مرة واحدة بل مرات. فقد زار بايدن إسرائيل لتقديم الدعم المطلق وأرسل حاملات الطائرات وغواصة نووية إلى المنطقة لتزويد إسرائيل بالأسلحة والعتاد. وظل بايدن يرفض بشكل قاطع أي حديث عن وقف إطلاق النار، متبنياً الموقف الإسرائيلي بشكل متطابق.
لكن الغضب الشعبي العارم حول العالم وفي الداخل الأمريكي نفسه بدأ يدق ناقوس الخطر بالنسبة للرئيس الأمريكي العجوز، وتعالت الأصوات داخل أروقة الإدارة الأمريكية نفسها مطالبة بموقف أمريكي "أكثر توازناً"، واستقال مسؤول كبير في وزارة الخارجية وقدم موظفون في الوزارة اعتراضات علنية على الانحياز الأعمى لإسرائيل والتغاضي عما ترتكبه من جرائم "عقاب جماعي" واستهداف متعمد ومتكرر للمدنيين في قطاع غزة.
وهكذا بدأ البيت الأبيض، الذي تشير التقارير الإعلامية والتصريحات العلنية لكبار المسؤولين فيه إلى أن أمريكا توجه انتقادات لإسرائيل خلف الأبواب المغلقة منذ الشهر الأول للحرب، في الحديث علناً عما وصفه تقرير لصحيفة The Daily Telegraph البريطانية بأنه "إحباط أمريكي من نتنياهو".
الدعم الدبلوماسي الأمريكي لإسرائيل استمر أيضاً، إذ استخدمت واشنطن الفيتو أكثر من مرة لمنع مجلس الأمن الدولي من تمرير قرارات لوقف الحرب على غزة. لكن يبدو أن بايدن نفسه قد "يئس" من نتنياهو وحكومته في لحظة ما، فامتنعت أمريكا عن استخدام الفيتو أواخر مارس/آذار ليتم تمرير قرار من مجلس الأمن يدعو إسرائيل لوقف الحرب.
ما تأثير ذلك كله على مستقبل إسرائيل؟
النقطة الأخطر في هذا السياق بالنسبة لإسرائيل تتمثل في تداعيات اصطفاف نتنياهو مع الجمهوريين وقطع الصلة مع الديمقراطيين بشكل عام. وعبر بعض الزعماء الإسرائيليين عن القلق من أن تصرفات نتنياهو قد تدمر بشكل مستدام الدعم الأمريكي الموحد لإسرائيل.
إيهود أولمرت، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق وأحد قادة الليكود السابقين، قال لواشنطن بوست إن "الاستراتيجية الحزبية لنتنياهو تسببت في تآكل الدعم الأمريكي الشعبي لدولة إسرائيل".
"أعتقد أن هذا تهديد حاد للاحتياجات الأساسية لدولة إسرائيل. إذ إن تهديد هذا الإجماع على أهمية الحزبين بالنسبة لنا قد يكون تهديداً خطيراً للغاية لشعور النظام الأمريكي الرسمي والشعبي بحتمية الدعم المطلق لإسرائيل"، بحسب أولمرت.
لكن على الرغم من الدور الكبير الذي لعبه نتنياهو في الوصول إلى هذه النقطة غير المسبوقة في علاقة إسرائيل مع الحزب الديمقراطي، إلا أن هناك عوامل وتغيرات أخرى في المشهد العام، داخل إسرائيل نفسها وداخل أمريكا وعلى مستوى العالم، لعبت معاً أدواراً مركبة في هذا الشأن.
فإسرائيل أصبحت أكثر ميلاً نحو اليمين بينما في الولايات المتحدة تزايد الاهتمام بين قطاعات عريضة من الديمقراطيين بشكل خاص وبين الأجيال الأصغر بشكل عام بقضية فلسطين عموماً. وجاءت الحرب على غزة لتجسد هذا الاهتمام والوعي بصورة غير مسبوقة.
نشطاء كثيرون في حركة "حياة السود مهمة"، التي تشكلت بعد مقتل جورج فلويد المواطن الأمريكي من أصول أفريقية على يد رجال شرطة بيض (عام 2020)، تفاعلوا مع القضية الفلسطينية وشكلوا تياراً منتقداً لإسرائيل كقوة احتلال، وفي الوقت نفسه أصبحت هذه الحركة ومنتسبوها يمثلون جزءاً مهماً من الحزب الديمقراطي.
حركة "المقاطعة ووقف الاستثمار والعقوبات" هي أيضاً تشكلت في أمريكا قبل سنوات للاحتجاج على المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة. لكن لا شيء تسبب في تهشيم تعاطف التيار التقدمي بين الديمقراطيين مع إسرائيل أكثر من أفعال نتنياهو وتصريحاته الاستفزازية، حسبما يرى الديمقراطيون.
وما من شك في أن الجرائم والمجازر التي ارتكبها ولا يزال جيش الاحتلال بحق المدنيين في قطاع غزة على مدى 234 يوماً من هذه الحرب تمثل سكباً متسارعاً للبنزين على نيران الغضب الشعبي العام حول العالم وفي الداخل الأمريكي نفسه.
"تاريخياً كانت إسرائيل تتمتع بكثير من الدعم الشعبي الجارف داخل الولايات المتحدة وحول العالم، كونها كانت تمثل دولة لليهود الذين عانوا من جرائم لا توصف خلال الحرب العالمية الثانية. لكنني أعتقد أن ما هو واضح، وبصفة خاصة في أذهان الأجيال الأصغر سناً، هو أن الحرب التي تشنها حكومة نتنياهو على الشعب الفلسطيني وقتل عشرات الآلاف من الناس قد قوض بصورة لافتة الدعم الشعبي لإسرائيل، وهو ما لا يمثل خيراً أبداً لمستقبل إسرائيل"، حسب ما قاله بيرني ساندرز لواشنطن بوست.
الخلاصة هنا هي أن اصطفاف نتنياهو مع الجمهوريين وعداءه المعلن للحزب الديمقراطي وسياسييه، وآخرهم الرئيس الحالي بايدن، تسبب في تقويض أهم نقاط قوة إسرائيل وهي الإجماع الأمريكي على دعمها مهما فعلت.