كشف تقرير أمريكي نُشر حديثاً عن الآثار الاقتصادية لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر التي بدأت في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وما زالت مستمرة رداً على العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة منذ أكثر من ثمانية أشهر.
وفق التقرير الذي نشرته خدمة أبحاث الكونغرس الأمريكي في 8 مايو/أيار 2024، فإن تعطيل ممر بحري حيوي لسلاسل الإمداد العالمية، مثل قناة السويس المصرية، يؤدي إلى تفاقم التحديات التي يواجهها الاقتصاد العالمي، بينما سيختلف تأثير ذلك على كل منطقة.
وتعتبر خدمة أبحاث الكونغرس (Congressional Research Service) هيئة تابعة لمكتبة الكونغرس وتقدم الدعم البحثي والتحليلي للكونغرس في جميع المجالات ذات الصلة بالسياسات الوطنية.
وتعمل الهيئة حصرياً لصالح الكونغرس الأمريكي وتقدم بحوثاً وتحليلات موضوعية وغير متحيزة لأعضاء الكونغرس واللجان التشريعية، وهو ما برز في تقريرها الأخير؛ حيث أشارت إلى أن أعضاء الكونغرس يقدمون مجموعة من الخيارات من بينها تغيير مسارات التجارة العالمية.
وحسب الموقع الرسمي لخدمة أبحاث الكونغرس فإن موظفيها يعملون داخل لجان الكونغرس وفي مكاتب أعضائه، ويشارك خبراؤها في كل مرحلة من مراحل العملية التشريعية، ويقوم الموظفون بتحليل السياسات الحالية وعرض تأثيرات بدائل السياسات المقترحة.
وأشارت الهيئة في تقريرها الأخير إلى أن الاضطرابات المستمرة في البحر الأحمر قضية يجري نقاشها في الكونغرس مع إعلان الولايات المتحدة عمليات عسكرية ضد الحوثيين في اليمن منذ يناير/كانون الثاني بهدف وقف هجماتهم.
تأثير هجمات الحوثيين في البحر الأحمر
أدت هجمات الحوثيين في البحر الأحمر وخليج عدن منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023، إلى تعطيل ممر بحري حيوي لسلاسل الإمداد العالمية، مما أدى إلى خلق اختناقات في قناة السويس ومضيق باب المندب، وأجبرت السفن على القيام برحلات أطول وأكثر تكلفة حول أفريقيا.
وحسب الهيئة، تؤدي اضطرابات الشحن هذه إلى تفاقم التحديات المستمرة التي يواجهها الاقتصاد العالمي والتي نتجت أو تفاقمت بسبب جائحة كوفيد-19، والحرب الروسية ضد أوكرانيا، والصراع والتوترات في الشرق الأوسط، والجفاف الذي أدى إلى تراجع كبير في الشحن عبر قناة بنما، وهي شريان رئيسي آخر لتدفقات التجارة العالمية.
وأشار التقرير إلى أن قناة السويس، التي تربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط وتربط أوروبا وأفريقيا وآسيا، تعاملت مع ما يقرب من 12% إلى 15% من أحجام التجارة العالمية في عام 2023.
ويعد هذا الممر الاستراتيجي مهماً أيضاً للتجارة في منتجات محددة؛ ووفقاً لبعض التقديرات، فقد تعاملت مع 25% إلى 30% من إجمالي شحن الحاويات، و12% من النفط المنقول بحراً، و8% من الغاز الطبيعي المسال المنقول بحراً، و8% من تجارة الحبوب في السنوات الأخيرة.
وقد سلطت اضطرابات الأمن البحري في هذا الممر المائي الضوء على مدى "ضعف سلاسل التوريد العالمية أمام التهديدات الأمنية القائمة في المحيطات" يقول تقرير خدمة أبحاث الكونغرس.
ويزعم التقرير أن المعلومات الأولية تشير إلى أن الآثار الاقتصادية العالمية لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر كانت محدودة حتى الآن، على الرغم من أنها امتدت عبر مختلف الصناعات والبلدان بشكل مختلف، وذلك عبر الروابط التجارية في المقام الأول (على سبيل المثال، التأخير والنقص).
ولا تزال هناك احتمالات لمزيد من المخاطر والتحديات على المدى القريب لاقتصادات أوروبا والشرق الأوسط والقرن الأفريقي.
وكما أشار اثنان من المحللين من بنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس في فبراير/شباط 2024، "في حين أن الصراع الجيوسياسي يحدث غالباً في مناطق جغرافية ضيقة نسبياً، فإن الطبيعة العالمية لسوق خدمات الشحن الدولية يمكن أن تكون بمثابة قناة يتم من خلالها تمرير الصدمات المحلية، وتضخيمها ونقلها إلى بقية الاقتصاد العالمي".
وأدت هجمات الحوثيين في البحر الأحمر إلى زيادة تكاليف الشحن وأثرت على التدفقات الإنسانية من الغذاء والوقود والأدوية إلى هذه المناطق. وإذا طال أمد انقطاع الشحن في البحر الأحمر، فإنه يمكن أن يساهم في الضغوط التضخمية العالمية ويشكل عبئاً على الاقتصاد العالمي.
في نهاية المطاف، يقول التقرير الأمريكي، سوف يعتمد التأثير الإجمالي للأزمة على مدتها ومدى احتواء تداعياتها، وعلى استجابات جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك الحكومات، وشركات الشحن، والمنظمات الدولية.
صعوبة التنبؤ بمستقبل الوضع
وتستند توقعات التأثير الاقتصادي إلى بيانات محدودة تتضمن مزيجاً من المؤشرات الإحصائية من الوكالات الحكومية، واستطلاعات الأعمال والمستهلكين، ومتغيرات السوق المالية، وقواعد بيانات تتبع السفن والموانئ في الوقت الفعلي.
وهي تستند أيضاً إلى افتراضات وتبسيطات محددة، والتي قد لا تعكس مدى تعقيد الموقف وديناميكياته، حسب ما جاء في تقرير خدمة أبحاث الكونغرس.
وتخضع التوقعات أيضاً إلى قدر كبير من عدم اليقين الذي يمكن أن يؤثر على دقتها وموثوقيتها، بما في ذلك ما يتعلق بالإجراءات التي قد يتخذها الحوثيون وما قد تفعله صناعة الشحن والدول الأخرى لحماية السفن في البحر الأحمر.
ومع ذلك، فإن قياس تأثيرات الأزمات الناشئة وعزلها عن تأثيرات التطورات الإقليمية والعالمية الأخرى التي تتكشف، يمثل مهمة صعبة.
على سبيل المثال، قد تتأثر السجلات الجمركية، التي تُشتق منها إحصاءات التجارة الرسمية، باضطرابات الشحن.
ويمكن لقضايا مثل هذه أن تؤدي إلى تعقيد الجهود المبذولة لتقييم الآثار التجارية والاقتصادية الناجمة عن الاضطرابات في الوقت المناسب وبدقة (على سبيل المثال، إيرادات الواردات/التعريفات الجمركية المسجلة في أبريل/نيسان والتي كان من الممكن تسجيلها في فبراير/شباط لولا تغيير مسار السفن).
جماعة #الحوثي تنشر مشاهد لاستهداف سفينة (CYCLADES) بطائرة مُسيّرة في البحر الأحمر، خلال توجهها إلى ميناء #إيلات جنوب #فلسطين المحتلة pic.twitter.com/2jYYa4QBBQ
— عربي بوست (@arabic_post) April 30, 2024
التأثير مرتبط بتطور الصراع
تختلف الخلفية الاقتصادية للاضطرابات الحالية عما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، عندما رست سفينة حاويات في قناة السويس في خضم الوباء.
في عام 2021، كانت هناك زيادة في الطلب العالمي على السلع المادية والتي نتجت جزئياً عن برامج التحفيز الاقتصادي وتحول حاد في الإنفاق من الخدمات إلى السلع الاستهلاكية المعمرة، في حين استمرت القيود الناجمة عن الوباء على الإنتاج والنقل في تقييد الإمدادات.
ويقدر بعض المحللين أنه إذا لم يتصاعد الوضع الحالي إلى صراع أوسع، فإن التأثيرات على المدى القريب لاضطرابات الشحن قد تقتصر على انخفاض هامشي إجمالي في النمو الاقتصادي العالمي وارتفاع طفيف في التضخم العالمي.
ومن وجهة نظرهم، تم تسعير الاضطرابات من خلال الأسواق، أي أن التداعيات الفعلية والمحتملة للاضطرابات تنعكس في الأسعار الحالية.
ويتوقع هؤلاء المحللون أن يتم احتواء التأثير التضخمي لارتفاع تكاليف الشحن إلى حد كبير بالنظر إلى الحصة الضئيلة نسبياً لتكاليف التجارة البحرية في إجمالي تكاليف المدخلات، وقدرة هوامش ربح الشركات على استيعاب الزيادات في أسعار المدخلات، وتوافر السفن بكثرة.
ولاحظت منظمة التجارة العالمية أيضاً أن ضعف الطلب الاستهلاكي والمخزون الاحتياطي يساعدان في تخفيف الضغوط التضخمية الناجمة عن التأخير في النقل.
هؤلاء يخسرون وآخرون يستغلون الوضع
وسيختلف التأثير الاقتصادي على المدى القصير باختلاف البلدان والصناعات، لكن العديد من المحللين يتوقعون أن يكون أكثر وضوحاً في أوروبا والشرق الأوسط والقرن الأفريقي.
فحوالي 40% من التجارة بين آسيا وأوروبا وأكثر من 95% من السفن التي تسافر بين المنطقتين تمر عادة عبر البحر الأحمر.
بالإضافة إلى ذلك، تشكل الرسوم البحرية حصة كبيرة من ميزانيات بعض البلدان واحتياطياتها من النقد الأجنبي (مثل مصر).
كما تؤثر الاضطرابات أيضاً على حركة المواد الغذائية والإمدادات الحيوية في دول مثل جيبوتي، وهي عقدة رئيسية لتجارة شرق أفريقيا ومركز للمساعدات الإنسانية المتجهة إلى أفريقيا.
ويمكن لبعض البلدان التي تقع عند منعطفات استراتيجية على طول الطريق الآسيوي الأوروبي، مثل مدغشقر، أن تستفيد من اضطرابات البحر الأحمر من خلال زيادة الطلب على خدمات التزويد بالوقود وإعادة التخزين.
ووفقاً لدراسة أجرتها شركة أليانز، إحدى أكبر شركات التأمين في العالم، في يناير/كانون الثاني 2024، فإن زيادة أسعار الشحن البحري الناجمة عن الهجمات يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع الأسعار عالمياً بنحو 0.5 نقطة مئوية.
وربما يخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 0.9 نقطة مئوية في أوروبا، و0.6 في الولايات المتحدة، و0.4 عالمياً في عام 2024.
وبالمثل، في فبراير/شباط 2024، قدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) أنه إذا استمرت هذه التكاليف المرتفعة، فإنها يمكن أن تزيد من تضخم أسعار الواردات على المدى القصير عبر أعضائها البالغ عددهم 38 (بما في ذلك الولايات المتحدة) بنحو 5%.
كما أنه من المحتمل إضافة 0.4 إلى التضخم الإجمالي "بعد نحو عام"، وأشارت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن السعة الزائدة لسفن الحاويات يجب أن تخفف من ضغوط التكلفة، حسب ما جاء في تقرير خدمة أبحاث الكونغرس الأمريكي.
ماذا عن الكونغرس؟
يواجه أعضاء الكونغرس الأمريكي تساؤلات حول ما إذا كان ينبغي تسهيل التدفق السلس والمتوقع للتجارة وكيفية ذلك، في ظل الاضطرابات الأخيرة للشحن في البحر الأحمر. كما تثير هذه الاضطرابات قضايا تتعلق بتحسين مرونة سلاسل التوريد المحلية والعالمية للمنتجات الحرجة، والحد من الاعتماد التجاري على بلدان ومناطق معينة.
حسب تقرير خدمة أبحاث الكونغرس، تطرح الحالة على الولايات المتحدة وحلفائها تساؤلات جوهرية حول مدى قدرة السياسات الحكومية على تغيير ترتيبات الإنتاج والموردين الحالية، وما إذا كان ينبغي عليها ذلك.
كما قد تتيح لهم فرصة لتقييم ما إذا كانت هذه الاضطرابات، خاصة إذا تفاقمت، لديها القدرة على التأثير على أو تقويض جهود الصين الرامية لإعادة تشكيل التجارة العالمية وترسيخ مركزيتها في سلاسل التوريد العالمية.
حسب التقرير، ينظر الكونغرس الأمريكي حالياً في التكاليف والفوائد المترتبة على اعتماد تشريعات تحاول تغيير طرق الشحن للبضائع المستوردة أو إعادة تخصيص الموارد نحو تطوير الإنتاج المحلي لهذه البضائع، في خطوة قد تؤثر على تكاليف المعيشة وتدفقات التجارة وتنافسية الشركات الأمريكية.
كما يدرس الكونغرس أدوات ونهجاً تشريعياً آخر، مثل تشجيع الإدارة على التنسيق لجهود دولية جديدة لضمان المرور الآمن للسفن التجارية في البحر الأحمر، وتعزيز قدرات وسائل النقل البديلة للإمدادات الحرجة.
في الوقت نفسه، قد ينظر الكونغرس في تعزيز الدعم الأمريكي للترتيبات التجارية العالمية مع الحلفاء، مع تشجيع "التجارة القريبة" ونقل عمليات التصنيع إلى دول مجاورة، أو استخدام قاعدة موردين أجانب أكثر تنوعاً للشركات الأمريكية لزيادة المرونة، كما في مبادرة إطار الرخاء الاقتصادي لمنطقة المحيط الهندي والهادئ.
كما يمكن للكونغرس استكشاف دور الأدوات الأمريكية والمتعددة الأطراف مثل المساعدات الإنسانية وتمويل التجارة في معالجة التداعيات الاقتصادية لاضطرابات الشحن، مع الحفاظ على تنافسية القوى العاملة والشركات الأمريكية.