خلال 7 أشهر من الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة وفرض الحصار الخانق وحملات التجويع والتشريد، تعرض اقتصاد القطاع للسحق وخسر مليارات الدولارات. واضطر الناس إلى الفرار من منازلهم ووظائفهم، فيما تعرضت الأسواق والمصانع والبنية التحتية للقصف والتسوية بالأرض. وقد تعرضت الأراضي الزراعية للحرق والتخريب بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية أو احتلالها من قبل القوات الإسرائيلية التي جرفتها ودمرت ما بقي منها.
وبالتزامن مع كل ذلك الدمار وحرب الإبادة الجماعية، نشأ في قطاع غزة اقتصاد الحرب، وتحولت شوارع القطاع المدمرة إلى سوق للبقاء يركز على الأساسيات: الغذاء والمأوى والمال.
سوق للبقاء.. كيف ينشأ اقتصاد الحرب في غزة؟
على الطاولات والمكاتب من المدارس التي تحولت إلى ملاجئ، يصطف الباعة في زمن الحرب في الشوارع في قطاع غزة، يبيعون الملابس المستعملة وحليب الأطفال والأطعمة المعلبة والكعك محلي الصنع. في بعض الحالات، تم تكديس طرود المساعدات بأكملها، التي من المفترض أن يكون توزيعها مجاناً، على الأرصفة وبيعها بأسعار لا يستطيع سوى القليل من الناس تحملها.
وقف عصام حمودة، 51 عاماً، بجوار بسطته المعروض عليها مجموعة من الخضراوات والفاصوليا المعلبة التي تلقتها عائلته من المساعدات، وقال لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية: "معظم البضائع الموجودة في الأسواق مكتوب عليها "ليست للبيع". وقبل أن تدمر إسرائيل اقتصاد غزة في هذه الحرب الطاحنة، كان حمودة يعمل مدرباً لتعليم قيادة السيارات. والآن، يدعم حمودة أسرته المكونة من 8 أفراد بالطريقة الوحيدة التي يستطيعها، وهي إعادة بيع بعض المساعدات الإنسانية التي يتلقونها كل بضعة أسابيع. يقول حمودة: "ذات مرة حصلت على 4 كيلوغرامات من التمر المجفف وبعت الكيلو بـ8 شيكل".
المساعدات الإنسانية التي تحمل علامة "ليس للبيع" والمواد المنهوبة ينتهي بها الأمر في الأسواق المؤقتة. ويمكن للناس أن يكسبوا بضعة دولارات يومياً من خلال إجلاء النازحين على ظهور الشاحنات والعربات التي تجرها الحمير، بينما يحفر آخرون المراحيض أو يصنعون الخيام من الأغطية البلاستيكية والخشب.
ونظراً للأزمة الإنسانية المتزايدة التي تسببت بها آلة الحرب الإسرائيلية، أصبح الوقوف في الطابور الآن عملاً بدوام كامل، سواء في مواقع توزيع المساعدات، أو في المخابز القليلة المفتوحة، أو في عدد قليل من أجهزة الصراف الآلي أو محلات الصرافة.
وقال رجا الخالدي، الاقتصادي الفلسطيني المقيم في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل، واصفاً ما يحصل في غزة: "إنه اقتصاد الكفاف". وقال: "إنها ليست مثل أي حرب رأيناها من قبل، حيث يتم استهداف منطقة معينة وتكون مناطق أخرى أقل تأثراً ويمكنها إعادة الانخراط بسرعة في الظروف الاقتصادية، فمنذ الشهر الأول، تم إخراج الاقتصاد في غزة عن الخدمة".
كيف كان اقتصاد غزة قبل السابع من أكتوبر؟
تقول صحيفة نيويورك تايمز، إنه في السنوات التي سبقت الحرب، بدأ الاقتصاد في غزة -حتى في ظل الحصار الجوي والبري والبحري الخانق الذي فرضته إسرائيل ومصر- في الاستقرار بعض الشيء والتكيف مع سنوات الحرب والحصار، وفقاً لخبراء اقتصاديين ورجال أعمال في غزة. فيما تم افتتاح الفنادق والمطاعم الصغيرة على شاطئ البحر، وحصل بعض الفلسطينيين على تصاريح للعمل داخل إسرائيل.
ويواجه غالبية الفلسطينيين في غزة منذ نحو 20 عاماً الفقر على مستويات متعددة، يتجاوز نقص الدخل ويشمل محدودية الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم والإسكان، وفقاً لتقرير صدر مؤخراً عن البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. وقال التقرير إن نحو 74% من السكان عاطلون عن العمل. قبل الحرب، كان معدل البطالة يتجاوز أكثر من 45%.
وقال التقرير إن الصدمة التي تعرض لها اقتصاد غزة هي واحدة من أكبر الصدمات في التاريخ الحديث. وانخفض الناتج المحلي الإجمالي لغزة بنسبة 86٪ في الربع الأخير من عام 2023. في حين يدعي الجيش الإسرائيلي أن "ضرباته على غزة لا تهدف إلى الإضرار باقتصاد القطاع بل تستهدف البنية التحتية لحركة حماس".
سوق البقاء والنجاة في غزة
ويعتمد الاقتصاد الآن إلى حد كبير على العرض المحدود والطلب اليائس على المساعدات. وقبل الحرب، كانت تدخل إلى قطاع غزة يومياً نحو 500 شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية والوقود والسلع التجارية وهو قليل بسبب الحصار.
وبعد بدء الحرب وفرض قيود إسرائيلية جديدة، انخفض هذا العدد بشكل ملحوظ، ليصل إلى أقل من 100 شاحنة يومياً في المتوسط، على الرغم من ارتفاعه بشكل متواضع في الأشهر الأخيرة. وحتى مع التحسينات، فإن هذا العدد أقل بكثير مما تقول وكالات الإغاثة إنه ضروري لإطعام سكان غزة.
أما الآن، فقد توقف تقريباً تدفق المساعدات والسلع، في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على مدينة رفح الجنوبية والإغلاق شبه الكامل لمعبرين حدوديين رئيسيين.
وينتشر الجوع في جميع أنحاء القطاع، فيما وصفته جماعات حقوق الإنسان ومنظمات الإغاثة باستخدام إسرائيل للمجاعة كسلاح.
وعلى خلفية الصراع والفوضى والخروج على القانون التي تسبب بها الاحتلال، ارتفعت الأسعار بشكل كبير. ومنذ التوغل في رفح، أصبحت السلع في السوق أكثر تكلفة. وبالنسبة لمئات الآلاف من الفلسطينيين الفارين من الهجوم الإسرائيلي، فإن وسائل النقل بعيداً عن الغارات الجوية تكلف مئات الدولارات.
وحتى قبل تدهور الوضع في رفح، كانت عمليات تسليم المساعدات غير متسقة وفوضوية بسبب القيود العسكرية الإسرائيلية، ما أدى إلى إتاحة الفرصة للعصابات المسلحة أو الأفراد للنهب، وفقاً للسكان. وقالت ماجدة أبو عيشة، 49 عاماً، وهي أم لعشرة أطفال: "يتم إسقاط المساعدات الغذائية أو جلبها وسرقتها من قبل عصابات".
وقالت إنها أثناء محاولتها الحصول على المساعدة، أصيب ابنها وابن أخيها برصاص الجنود الإسرائيليين. ولم يتمكنوا من الحصول على أي مساعدات.
وقالت أبو عيشة: "إن الفائز في هذه المعركة هو السارق الذي يستطيع أن يحصل على ما يريد من المساعدات، حيث إن أي شخص ليس مسلحاً أو قوياً بما يكفي للقتال والاندفاع يعود إلى منزله خالي الوفاض".
ودون إيصال المساعدات الكافية، يجب على السكان اللجوء إلى الأسواق المؤقتة. يمكن بيع البضائع هناك بأي شيء يختاره البائعون. وغالباً ما تتبع الأسعار تصاعد الصراع. وكان السكر يباع مؤخراً في أسواق رفح بـ7 شيكل، أي أقل من دولارين. وفي اليوم التالي، ارتفع السعر إلى 25 شيكلاً، وفي اليوم التالي، انخفض سعر السكر إلى 20 شيكلاً، وهكذا.
من جهتها، قالت صباح أبو غانم، 25 عاماً، وهي أم لطفل: "يمكن بيع نفس السلعة بأسعار مختلفة في نفس السوق، عندما تكون الشرطة هناك، يبيع التجار الأشياء بالأسعار التي تحددها الشرطة. وعندما تغادر الشرطة، ترتفع الأسعار على الفور".
ويقول السكان إن المسؤولين والوزارات المرتبطة بالحكومة التي تديرها حماس موجودون في بعض المواقع، خاصة في الجنوب لضبط توزيع المساعدات وعدم رفع الأسعار. وقال حمودة إن المساعدات التي تتلقاها عائلته في بعض الأحيان تأتي من وزارة التنمية الاجتماعية، والتي تشرف على برامج الرعاية الاجتماعية.
وقال إن الطرود غالباً ما تفتقد بعض العناصر، خاصة الأطعمة مثل السكر أو التمر أو زيت الطهي. وفي أحيان أخرى، كما قال، لم يحصلوا إلا على عدد قليل من الخضراوات المعلبة في أكياس بلاستيكية سوداء. وأضاف أن المواد الغذائية التي تختفي من طرود المساعدات ينتهي بها الأمر في الأسواق وتباع بأسعار مرتفعة.
وقال إسماعيل ثوابتة، نائب رئيس المكتب الإعلامي لحكومة حماس، إن الوزارة تلقت حوالي ربع المساعدات التي تم إدخالها إلى غزة، وتقوم بعد ذلك بتوزيعها.
وقال ثوابتة إن عمليات نهب المساعدات يقوم بها عدد من الأشخاص الذين أجبرتهم إسرائيل على اليأس. وأضاف أن حكومة حماس حاولت قمع عمليات النهب هذه، لكن الشرطة وأفراد الأمن التابعين لها تعرضوا للاستهداف من قبل الغارات الجوية الإسرائيلية وتم قتلهم لإشاعة الفوضى. واعترف الجيش الإسرائيلي أنه استهدف ضباطاً وقادة شرطة، فضلاً عن مراكز ومركبات، في إطار محاولته "تفكيك القدرات العسكرية والإدارية لحماس" على حد زعمه.
مهن واحتياجات جديدة تظهر مع الحرب
ومع اختفاء معظم الوظائف، وجد الناس طرقاً جديدة لكسب بضعة دولارات حيث أدت الحرب إلى ظهور احتياجات جديدة. ويعيش العديد من سكان غزة النازحين في خيام، لذا فإن صناعة الملاجئ المؤقتة والحمامات أصبحت صناعة منزلية.
وقال سكان في مدينة رفح إن الخيام المصنوعة من أغطية بلاستيكية رقيقة وألواح خشبية يمكن بيعها بمبلغ يصل إلى 3000 شيكل، أو 800 دولار. ونظراً لعدم قدرتهم على الدفع، قام آخرون بتركيب خيامهم الخاصة من القماش والأخشاب التي تم الحصول عليها.
قال حمودة، في إشارة إلى القماش الذي استخدمه في بناء مأوى لأسرته: "لقد اشتريت هذه الأغطية بسعر باهظ، اشترينا مرحاضاً مستعملاً بمبلغ 250 شيكلاً ودفعنا 50 شيكلاً للسباك الذي قام بتركيبه". وقال إن التكلفة كانت أكثر من ضعف ما كانت عليه قبل الحرب. وحتى الحصول على أموال خاصة لدفع أسعار الحرب المتضخمة سمح للبعض بالاستفادة من الأزمة.
ولا يزال عدد قليل من أجهزة الصراف الآلي تعمل في جميع أنحاء غزة، وعادة ما تكون تلك التي تعمل مكتظة بالأشخاص الذين يحاولون إخراج أموالهم. في كثير من الأحيان، يقوم شخص مسلح بمراقبة ماكينة الصراف الآلي. فيما يقدم الصرافون للناس إمكانية الوصول إلى أموالهم الخاصة مقابل عمولات عالية.
وقال إكرامي النمس، وهو أب لسبعة أطفال نازح إلى الجنوب ويعمل موظفاً حكومياً: "لم أستطع الحصول على راتبي إلا من بعض الأشخاص الذين أخذوا نسبة 17% من إجمالي المبلغ". وقال إنه حاول عدة مرات الحصول على كيس طحين من شاحنات المساعدات -على الرغم من خطر تعرضه لإطلاق النار من قبل الجنود الإسرائيليين- لتجنب الاضطرار إلى شرائه من السوق السوداء. لكنه لم يحقق أي نجاح قط. قال: "الآن راتبي لا يكفي حتى لشراء نصف كيس من الدقيق".